ما زلت أشعر بالدفء حين أنظر بداخلي وأراك

شيرين صبحي

رؤية- شيرين صبحي

“التقيت بك وفي الحين أدركت أنني سأنطلق في رحلة طويلة. وهناك حيث سأمضي، أعلم على الأقل أنك ستكونين في ذاك المكان.أبارك هذا الوجه، يا نور حياتي. لن يكون هناك ليل أبديّ بالنسبة لي. وحدة الموت ستكون أقل من أن تكون وحدة.آن، يا حبي”..

نشرت مؤخرا دار غاليمار رسائل الرئيس الفرنسي الراحل فرانسوا ميتران، إلى حبيبته آن بينجيو، في كتابين الأول بعنوان “يوميات من أجل آن”، والثاني بعنوان “رسائل إلى آن”، تضم مراسلاته إلى حبيبته التي امتدت على مدار 33 عاما، يبثها خلالها أشواقه ويخبرها بنشاطاته وأسفاره. 

كانت آن بينجو في الثالثة عشرة من عمرها، وتفضّل ركوب الخيل واستخدام الدراجات في نزهاتها، على رفقة أقرانها في لقاءاتهم وحفلاتهم، وفي هذه السن الصغيرة لحظت فرانسوا ميتران الذي كان بيته قد تم بناءه قبل عام واحد، على بعد مائة متر من منزلها.

كانت آن المراهقة الصغيرة تصادف فرانسوا ميتران كل صيف، وهو في طريقه لشراء الصحف في الصباح، أو تصادفه بعد الظهر وهو بطريقه للعب الجولف مع والده. بل كانت تقدّم له أحيانا، ما يشرب عندما يكون مدعوا عندهم مع زوجته دانييل.

وفي عام 1963، التحقت بالجامعة في العاصمة باريس، وكانت تذهب كل صباح إلى الجامعة، حيث ينتظرها بعد الدروس، بسيارته عند زاوية شارع راسباي.

أحب ميتران بينجيو عام 1962عندما كان عمره 46 عاما وكانت هي في سن تناهز 19 عاما، وقد كان آنذاك متزوجا من دانيال غوز التي أنجب منها ولدين. وظل ميتران ودانيال متزوجين حتى وفاة الرئيس السابق، في حين رزق عام 1974 ابنة تدعى مازارين بينجيو من حبيبته آن عام 1974.

كان ميتران يدرك صعوبة علاقته بآن التي كانت تشعر بالوحدة في ظل تلك العلاقة القائمة في الظل، فكتب لها في أحد رسائله: “إنها موجة عاتية، يا حبيبتي، تلك التي تأخذنا، وهي تفصل كلّ واحد منّا عن الآخر، وأنا أصرخ، أصرخ، وأنت تسمعينني من خلال فرقعة، وأنت تحبينني، وأنا لك يائسا، ولكنك لم تعودي ترينني، وأنا لم أعد أعرف أين أنت، وكلّ بؤس العالم تراكم فيّ، ولا بد أن أموت ، لكن البحر يفعل بنا ما يشاء وما يريد. نعم أنا يائس. هل تبقى وقت لاسترداد الأنفاس والتوازن؟ أه يا حبيبتي، حبيبة الحياة العميقة، لقد تمكنت من أن أحسب بعض درجات الألم. لعلها الكلمة الهادئة الوحيدة في هذه الرسالة : سأظلّ أحبك حتى نهاية نفسي، وإذا ما كانت لك حجة للإيمان بالله حتى نهاية العالم”. وفي آخر رسالة، وكانت بتاريخ 22 سبتمبر 1995، كتب لها يقول: ”كنت نصيب حياتي. فكيف لا أحبك أكثر”.

أحبك بطريقة لم يسبق لك اكتشافها

عاشت الفنانة المكسيكية فريدا كاهلو ثلثي حياتها مقعدة بسبب حادثة اصطدام بأتوبيس حطم ساقاها وحوضها، بينما كانت بالأساس مصابة بالشلل منذ طفولتها، ما أفقدها القدرة على الانجاب، وكان هذا قمة مأساتها بعدما أحبت الرسام دييغو ريفييرا وتزوجته.

بدأت فريدا الرسم وهي لا تزال في الثانية عشر من عمرها، وبعدما اقعدها الحادث ظلت ترسم وهي تستعين بمرآة في سقف غرفتها، حيث قضت سنوات من حياتها نائمة، فكانت ابرز لوحاتها بورتريهات لوجهها. كما ان فريدا عرفت بطبعها الحاد وانتقادها اللاذع لكل الأمور، وهذا الجانب من شخصيتها يبرز في مراسلاتها.

في إحدى رسائلها إلى دييغو ريفييرا، تقول: “هل يجب أن امتلك فعلا رأس بغل كي لا افهم على الاطلاق كل ما يجري من حولي: الرسائل وقصص الفساتين ومعلمات اللغة الانكليزية والغجريات اللواتي يعملن على الجلوس امامك لرسمهن وكل النساء اللواتي يظهرن اهتماما “بفن الرسم” واللواتي يحضرن من الخارج. كل هذا تفاصيل مسلية وأنا اعرف ان ما بيني وبينك هو حب بالمعنى العميق للكلمة، وحتى لو عشنا كل هذه المغامرات وكل هذه الخناقات التي يليها دائماً أبواب تقفل وشتائم، فنحن نحب بعضنا على الرغم من كل شيء. وأظن انني بالفعل غبية إلى حد ما لأنني طوال الأعوام السبعة التي عشناها سوية وبعد كل نوبات الغضب التي كنت امر بها، أرى نفسي اليوم أنني ما توقفت عن حبك وأنني احبك أكثر من جلدي، وحتى لو انك لا تحبني بنفس القدر فانك على الأقل تحبني قليلا، اليس كذلك؟ واذا لا، فأنا احتفظ دائماً بالأمل للوصول إلى ذلك، وهذا يكفيني. احبني قليلا وأنا اعبدك”.

أعود لجنوني من جديد

بالطبع لم تكن كل الرسائل تعبير عن مشاعر الحب والألم والفراق، فهناك رسائل المنفى والاعتقال، بل هناك رسائل تركها كاتبوها قبل إقدامهم على الانتحار. فهذه الأديبة الإنجليزية فرجينيا وولف، التي انتحرت غرقا خوفا أن يصيبها انهيار عقلي، تبعث برسالة إلى زوجها الناقد والكاتب الاقتصادي ليونارد وولف، تقول فيها:

” إنني على يقين من أنني أرجع لجنوني من جديد. أشعر أننا لا يمكن أن نمر في فترة أخرى من هذه الفترات الرهيبة. وأنا لن اشفى هذه المرة. أبدأ بسماع أصوات، لا يمكنني التركيز. وأنا سأفعل ما يبدو أن يكون أفضل شيء ليفعل. أعطيتني أكبر قدر ممكن من السعادة. وقد كنت أنت في كل شيء كل ما يمكن أن يكون أي شخص.

لا اعتقد أن شخصين من الممكن أن يكونا أكثر سعادة حتى جاء هذا المرض الرهيب. لا استطيع أن أقاوم المزيد. وأنا أعلم أنني أفسد حياتك، و أنك دون وجودي يمكنك أن تعمل. وسوف تعرف. ترى أنني لا أستطيع حتى كتابة هذه بشكل صحيح. لا أستطيع القراءة. ما أريد قوله هو أنني مدينة لك كل السعادة في حياتي. وقد كنت معي صبورا تماما وجيدا وبشكل لا يصدق. أود أن أقول ذلك والجميع يعرفه. إذا كان من الممكن أن ينقذني أحداً فسيكون أنت. كل شيء ذهب مني إلا اليقين بالخير الذي فيك. لا أستطيع أن أزيد إفساد حياتك بعد الآن. لا أعتقد أن شخصين من الممكن أن يكون أكثر سعادة مما كنا نحن”.

بالطبع لم تكن رسائل ميتران هي الأولى، فقد سبقه كثيرين، نتذكر منها ما تبادله أبناء وطنه، عندما أحب الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر، تلميذته سيمون دي بوفوار، وكان حبهما شكلا استثنائيا، فلم يرتبطا بزواج، بل عاشا حياتهما الفكرية والعاطفية والنضالية معا، جنبا إلى جنب مع علاقات عاطفية أخرى، حيث اتفقا على أن يسمح كل منهما للآخر بإقامة علاقات عاطفية موازية، شرط الشفافية المطلقة بينهما وانعدام الأسرار، درءا لقهر الغيرة وجرح الغدر.

هذه رسالة أرسلها سارتر عام 1929، وكان حينها في الرابعة والعشرين من عمره، بينما سيمون في الحادية والعشرين من عمرها، يقول فيها:

“فتاتي الصغيرة العزيزة:
أردت أن أكتب لك منذ وقت طويل، مساءً، بعد إحدى تلك النزهات مع الأصدقاء والتي سأصفها قريبا في “الهزيمة”. إنها من الليالي التي أصبح فيها العالم ملكاً لنا. أردت أن آتيك بسعادتي كمنتصر وأضعها أسفل قدميك كما كان الرجال يفعلون في عصر ملك الشمس. ثم -متعباً من كل صراخي- أخلد إلى الفراش. أنا اليوم أفعل هذا من أجل متعة لا تعرفينها بعد، متعة الانتقال المفاجئ من الصداقة إلى الحب، من القوة إلى الحنان. الليلة أحبك بطريقة لم يسبق لك اكتشاف وجودها فيّ. لست مرهقًا من الترحال ولست محاصراً برغبتي في وجودك قربي. إنني أتقن فن حبي لك وأحوّله إلى عنصر أساسي من عناصر نفسي. هذا يحدث أكثر بكثير مما أعترف لك به. لكنه نادراً ما يحدث عندما أكتب لك. حاولي أن تفهميني: أحبك وأنا منتبه لأشياء خارجية . في تولوز أحببتك ببساطة. الليلة أحبك والمساء ربيعيّ. أحبك والنافذة مفتوحة. أنت لي، والأشياء لي، وحبي يغيّر الأشياء من حولي وهي أيضا تغيّر حبي”.

حبك يدفئني

“حبيبي، أشعر أني محاطة بحبك ليل نهار، حبك يحميني من كل الغضب، عندما يصبح الطقس حاراً يبردني، وعندما تهب ريح باردة، يدفيني، طالما أنت تحبني لن أكبر أبداً، لن أموت أبداً. عندما أطلب منك أن تضمني ذراعيك، أشعر بانقباض في معدتي مهما كان ما تتحدث عنه، وأشعر أن جسمي كله يؤلمني”.

التقت الكاتبة والفيلسوفة الفرنسية، سيمون دي بوفوار، بحبيبها الكاتب الأمريكي نيلسون ألجرين، عام 1947 خلال زيارتها إلى مدينة شيكاجو، ونشأت بينهما علاقة دامت لعدة سنوات، ولكن ألجرين لم يستطع تحمل المسافة الطويلة التي تفصلهما فابتعد شيئًا فشيء، حتى عاد إلى زوجته السابقة، أماندا كونتويز عام 1953.

وكانت دي بوفوار قد بدأت تشعر بابتعاد حبيبها فكتبت له في إحدى رسائلها خلال رحلة عودتها إلى باريس بعد زيارته في شيكاجو: “لست حزينة، لكنني متفاجئة، وأشعر أنني بعيدة تمامًا عن نفسي، ولا أصدق أنك أصبحت بعيدًا إلى هذا الحد.. بعيدًا للغاية. أود إخبارك أمرين قبل أن أرحل؛ أولاً: أتمني من أعماق قلبي أن أراك مرة أخرى يومًا ما، ولكن تذكر رجاء، لن أطلب منك هذا مرة أخرى، وليس هذا بسبب كبريائي فلا كبرياء بيننا كما تعلم، ولكن لقاءنا مرة أخرى سيكون له معني إن كان نابعًا من داخلك.. ولهذا سأنتظر وتأكد دائمًا أنني سأنتظر طلبك لرؤيتي.”

وتضيف: “لا أستطيع التفكير أنني لن أراك ثانية .. خسرت حبك وكانت خسارة مؤلمة حقًا .. على كل حال ما منحتني إياه يعني لي الكثير للحد الذي لن يجعلك تستطيع أخذه مني. كما كانت صداقتك ثمينة جدًا على قلبي، ولهذا ما زلت أشعر بالدفء والسعادة حين أنظر بداخلي وأراك، أتمنى ألاَ تنتهي هذه الصداقة وهذا الحنان أبدًا.”

وختمت خطابها بقولها: “تبدو كل هذه الكلمات سخيفة، وأشعر أنك قريب جدًا فدعني أكون بجوارك أيضًا كما كنا قبل ذلك، دعني أكون بالقلب الذي منحتني إياه للأبد”.

أحبك اكثر من جلدي