مآسي تاريخية ترويها نغمات التراث.. ما الحكاية؟

مها عطاف

رؤية – مها عطاف

إذا كنت من هواة التاريخ، شغوف بالاطلاع والمعرفة، فعليك ألا تقتصر فقط على الكتب والروايات، وننصحك بالنظر أيضًا إلى “التاريخ الشفهي” الذي يملك جانبًا كبيرًا من توثيق الأحداث والثقافات والفنون، من قبل كبار السن والمواطنين، وشهود العيان، فاللهجة واللحن ولغة الجسد لن نجدها بين السطور، ولكن يمكننا أن نلتمسها بين أوتار الأجداد، فدائمًا ما تكون “الأغاني التراثية” شاهدة على العصر، تنتقل من جيل إلى آخر، في هذا التقرير نرصد لكم بعضًا من الأغاني التراثية، التي نقلت لنا منعطفات تاريخية وسياسية لمختلف الشعوب حول العالم، قبل سنوات طويلة:

الأغنية المغربية التي تُخفي المأساة

عند سماعك الأغنية التراثية “تِكشبِيلة تِوليولها”، تظن أنها مجرد كلمات تنشر البهجة والفرح في الأعراس و المناسبات، كما كانت كذلك في المغرب بين الصغار والكبار نساءً ورجالًا، ولا زال لحنها يسكن وجدان الشعب المغربي إلى يومنا هذا، ولكن ما لا يعرفه الكثير، أن تلك الأغنية تحمل مأساة يعود تاريخها إلى ما يقارب الخمسة قرون، فهي قديمة قدم الأندلس ومحاكم التفتيش.

الأغنية تتحدث وتصف بلسان الموريسكيين أو سكان الأندلس الذين تم تهجيرهم، وتوثق مأساتهم ومعاناتهم في طريقهم وهم يغادرون الديار مكرهين بعد سقوط إماراتهم الواحدة تلو الأخرى وملاحقات الإسبان لهم لإخراجهم نهائيا من شبه الجزيرة الإيبيرية التي تلت عمليات التنصير القسري الذي تعرضوا له لسنوات طويلة بعد سقوط غرناطة.

إليك معاني الأغنية: 

تكشبيلة: هي مدينة إشبيلية

تِوليولها: سنرجع إليها

ما قتلوني ما حياوني: إشارة إلى المعاناة في الطريق إلى بلاد المغرب هربًا من الإسبان والترهيب والتعذيب.

داك الكاس اللي عطاوني: كان المهجرون الأندلسيون يتعرضون لكل أنواع الإذلال والاحتقار حيث كان الإسبان يجبرونهم على شرب كأس من الخمر للسماح لهم بالمرور.

الحرامي ما يموتشي: في إشارة إلى الإسبان الذين لم يموتوا وعادت لهم الروح وعادوا بعد ثمانية قرون ليثأروا.

جات أخبارو في الكوتشي: كانت وسيلة النقل والأخبار المعتمدة في تلك الفترة عبارة عن حصان صغير يجر عربة تتنقل بسرعة بين المدن وتسمى ( الكوتشي), حيث كانوا ينتظرونها بلهفة ليتلقوا آخر أخبار المعارك والهزائم المتتالية للمسلمين والتي كانت تُنذر بالتهجير القادم.

من سجن عكا

في خضم ثورة الـ36 اعتقل البريطانيون بعض الثائرين الفلسطينيين وأصدروا حكمًا بالإعدام على 3 منهم هم: محمد جمجوم وفؤاد حجازي وعطا الله الزير، بعد الإعدام اتشحت فلسطين بالسواد، وغني لهم: “من سجن عكا وطلعت جنازة.. محمد جمجوم وفؤاد حجازي.. جازي عليهم يا شعبي جازي.. المندوب السامي وربعه عمومًا”.

يا نوبتنا الجميلة

كان لتهجير النوبيين من أجل بناء سد أسوان، في عهد الخديوي عباس حلمي الثاني، عام 1902 وتبعه مرات عديدة في 1964 إبان حكم الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، مأساة وثقتها أيضًا الأغاني التراثية، وذلك بعد ارتفاع منسوب المياه خلف الخزان ليغرق 10 قرى نوبية، ليدفع أهالي هذه القرى بمفردهم ثمن بناء الخزان، واضطروا للهجرة إلى قرى في البر الغربي وإلى مختلف محافظات الجمهورية طواعية.

وتُظهر بعض الأغاني النوبية قصة التهجير ومشاعر النوبيين تجاهه، ومن تلك الأغاني؛ أغنية “واه حنينة” للفنان الراحل “سيد جاير”، إذ تحكي الأغنية قصة شاب نوبي ذهب إلى أرضه بعد سنوات من التهجير ووجدها غارقة تحت الماء باستثناء مرتفع صغير يطفو على سطح النيل، ويصف الحالة المؤلمة التي تأتي فيها الجبال والطيور لتقول له “أيها الغريب.. ما الذي أتى بك إلى هنا”.

وقام منير بالغناء أيضًا باللهجة النوبية، لتوثيق المعاناة منها: “”أباياسا” و”مشاراوي”.

خبر الممات كيف جانا

مع بدء الاحتلال الفرنسي في تونس، ظهر شكل آخر من أشكال المقاومة الثقافية، وهي الأغاني التراثية الشعبية، والتي لعبت دورًا كبيرًا في حفظ التراث التونسي وإعادة نشره، وكانت أشهر الأغاني التي تم تداولها في تلك الفترة هي أغنية “خبر الممات كيف جانا”، للشهيد “فرحات حشاد”، عقب اغتياله من قبل منظمة اليد الحمراء التابعة للاستعمار الفرنسي، وظلت الأغنية تُردد في سجون الاستعمار آنذاك بين المقاومين، ونجح مخرج الدراما في رسم ملامح تلك الفترة وأثر الفاجعة على عموم التونسيين.

يا المنفي

أغنية جزائرية قديمة كتبها أحد أسرى ثورة المقراني التي امتدت سنة 1871، توثق معاناة الأسير الجزائري المنفي ابتداءً من المحكمة العسكرية في قسنطينة إلى منفاه في جزيرة كاليدونيا الجديدة جنوب المحيط الهادئ، حيث نُفي أكثر من 2500 جزائري من الثوار.

وغنى هذه الأغنية الكثير من المطربين الجزائريين ومنهم أكلي يحياتن، الذي عُرف بمعاداته للاستعمار الفرنسي واعتقلته سلطات الاحتلال عدة مرات، وقد أعاد غناء هذه الأغنية بعد الاستقلال العديد من المغنين.