أوراسيا ريفيو | سياسة الأمر الواقع.. هل ستعترف الولايات المتحدة بحكومة طالبان؟

شيماء مصطفى

ترجمة – شهاب ممدوح

السؤال الرئيسي الذي يُطرح بشأن أفغانستان الآن هو: “هل ستعترف الولايات المتحدة بحكومة طالبان بعد انتهاء هذه الحرب المرهقة التي دامت عشرين عامًا، وبعد سيطرة طالبان الفعلية على أفغانستان؟”.

يقول البعض إن الولايات المتحدة ستفعل هذا، زاعمين أنها اعترفت بالفعل بُحكم طالبان القائم بحكم الأمر الواقع، بعد تفاوضها مع طالبان لتنصيب حكومة شاملة في مرحلة ما بعد الحرب، وتعهدها بالانسحاب في تاريخ الحادي والثلاثين من أغسطس. لكن هناك آخرون يقولون إن الاعتراف بحكم الواقع كان لغرض محدود، وهو سحب القوات الأمريكية بشكل آمن. ويوضح هؤلاء الدبلوماسيون أن الاعتراف الدبلوماسي هو أمر مختلف تمامًا في ضوء وجود العديد من القضايا التي يتعيّن معالجتها.

في الوقت الراهن، بالرغم من حرص نظام طالبان القوي على الحصول على اعتراف أمريكي ودولي، إلا أن الولايات المتحدة تتلكأ في فعل هذا. تستخدم الولايات المتحدة ورقة “الأخلاق” بنجاح كبير، لأن جميع الدول، بما فيها دول صديقة لطالبان مثل باكستان والصين وروسيا، يصرّون على أن يشكل مسلحو طالبان حكومة شاملة، وضمان حقوق الأقليات والنساء، ومنع استخدام جماعات إسلامية إرهابية أراضي أفغانستان لشنّ هجمات على دول أخرى. أوضح وزير الخارجية الأمريكي “أنطوني بلينكين” جليًّا أن الأفعال وليست الأقوال هي ما تهمّ، ولو فشلت طالبان في إظهار إشارات على الإصلاح، فقد تتخذ الولايات المتحدة إجراءً عقابيًّا (دون نشر جنود على الأرض).

وأضاف “بلينكين” أن الولايات المتحدة لن تعيد فتح بعثتها الدبلوماسية في كابول، لكنها ستعمل من قطر. ذهب الرئيس بايدن خطوة أبعد، مُتعهدًا بتعقب وتدمير جماعات تضرب أهدافًا أمريكية. فرضت الولايات المتحدة بالفعل عقوبات مالية عبر تجميد أموال لأفغانستان تبلغ قيمتها 9.5 مليارات دولار، ومنع صندوق النقد الدولي أفغانستان من الوصول إلى حقوق السحب الخاصة التي تبلغ قيمتها 500 مليون دولار، كما علق البنك الدولي مشاريعه الخاصة بأفغانستان.

لقد صرّحت طالبان بأنها مستعدة لتلبية مطالب أمريكا، لكن سيكون من الصعب عليها القيام بهذا على الأرض. فالامتثال لأمريكا سيعني تراجعًا عن أيديولوجيتها الإسلامية. كما ستُحرم طالبان من الاستفادة الكاملة من انتصارها العسكري والأيديولوجي في حال اضطرت لاقتسام السلطة مع جماعات لم تقاتل القوات الأمريكية، أو لم تتعاون تعاونًا نشطًا مع الحركة. على أية حال، تكره الجماعات المتطرفة عمومًا فكرة اقتسام السلطة.

بالرغم من كون الولايات المتحدة قوة عظمى، إلا أنها تشعر بالحنق مما حدث. فقد فشلت في تقبّل هزيمتها على أيدي طالبان بكياسة. يعلمنا التاريخ أن الولايات المتحدة لم تتقبل أي هزيمة تعرضت لها بكياسة. استغرق الأمر عشرين عامًا لكي تعترف الولايات المتحدة بفيتنام بعد الانسحاب المخزي للقوات الأمريكية من ذلك البلد عام 1975، واستغرق الأمر ثلاثين عامًا لكي تعترف بالصين الشيوعية، بعد فشلها في تثبيت حكم حكومة “كومينتانغ” المتحالفة معها.

لا تمتلك الولايات المتحدة سياسة ثابتة فيما يخص الاعتراف بحكومات أجنبية. بينما يتم الترويج للديمقراطية باعتبارها المعيار الأساسي، إلا أن المصالح الأمريكية، التي قد تكون اقتصادية أو سياسية أو استراتيجية أو حتى نفسية، كانت معيارًا مهمًّا للغاية.

الماضي

عندما اُطيح بـ “لويس السادس عشر” من الحكم وإعدامه عام 1793، واجهت حكومة “جورج واشنطن” المُشكّلة حديثًا معضلة فيما يتعلق بالاعتراف بالحكومة الجديدة في باريس. جادل “أليكسندر هاملتون”، أحد الآباء المؤسسين للولايات المتحدة، بأن استبدال حكومة استبدادية بغوغاء لا يقلون استبدادًا عنها، لا يستحق اعترافًا منا. لكن وزير الخارجية حينها “توماس جيفرسون” قال إن الشعب الفرنسي لديه حق أصيل بتشكيل حكومته. أيّد الرئيس جورج واشنطن رأي جيفرسون واعترف بالجمهورية الفرنسية، وعقب ذلك القرار، تبنّت الولايات المتحدة سياسة الاعتراف بحكومات الأمر الواقع، مُنحية قضايا أخرى جانبًا.

مبادئ “ويلسون” الأخلاقية

مع هذا، وأثناء رئاسة “ودرو ويلسون” (1913-1921) أُخذت المبادئ السياسية مجددًا في الحسبان. لم يعترف “ويلسون” بحكومة “يوان شي كاي” في الصين عام 1913 لأن “يوان” سيطر بالقوة على السلطة ونصّب نفسه إمبراطورًا. رفض ويلسون تأييد مواقف بريطانيا وألمانيا واليابان تجاه تلك القضية. ومجددًا في العام 1913، رفض ويلسون الاعتراف بحكومة “فيكتوريانو هويرتا” في المكسيك بحجة أنه لم يلبِّ طموحات شعبه. بالرغم من سيطرة “هويرتا” على 80 بالمائة من المكسيك وحصوله على اعتراف 28 بلدًا.

اعترف ويلسون بحكم الواقع (وليس بحكم القانون) عام 1915 بحكم “فينستيانو كارانزا” خليفة “هويرتا”. لكن نزاعًا حول أصول كامنة تحت سطح الأرض في المكسيك، جعل “ويلسون” يهدد بعدم الاعتراف بحكمه. حصلت المكسيك على اعتراف كامل فقط عندما جرى حل النزاع لصالح أمريكا.

في عام 1917، نفّذ وزير الحرب في كوستاريكا “تينوكو غرانادوس” انقلابًا عسكريًّا. اعترض “ويلسون” على الانقلاب بالرغم من أنه كان يمكن أن يخدم مصالح اقتصادية أمريكية حيوية. قررت الولايات المتحدة عدم الاعتراف بحكومات تأتي إلى السلطة عبر انقلابات أو أعمال عنف.

في عام 1920، رفضت الولايات المتحدة الاعتراف بالاتحاد السوفيتي بحجة “إطاحته بحكومة شعبية وحرمانه الروس من حقهم الديمقراطي في تقرير المصير، واستيلائه على ممتلكات أمريكية من دون أن يدفع مقابلها، وإرساله عملاء للخارج لإثارة ثورات شيوعية”. بالرغم من العلاقات التجارية الواسعة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي في عشرينيات القرن الماضي، تمسّك خلفاء “ويلسون” بسياسته بعدم الاعتراف بالاتحاد السوفيتي.

مع هذا، فقد أحدثت عوامل اقتصادية واستراتيجية تغييرًا في السياسة المتبعة. بمجرد استلامه السلطة فورًا، تحرك الرئيس “فرانكلين دي روزفلت” لإقامة علاقات دبلوماسية رسمية مع الاتحاد السوفيتي. وبحسب منشور للحكومة الأمريكية، كان “روزفلت” يأمل في أن يخدم الاعتراف مصالح أمريكا الاستراتيجية المتمثلة في الحدّ من التوسع الياباني في آسيا. كما شعر أن تعزيز التجارة مع الاتحاد السوفيتي، سيساعد أمريكا على التعافي من أزمة “الكساد العظيم”.

في عام 1933، شرع “روزفلت” في اتخاذ خطوات غير رسمية للتفاوض مع الاتحاد السوفيتي. التقى مبعوثوه بـ “بوريس شفيرسكي” (ممثل الاتحاد السوفيتي غير الرسمي في واشنطن) وسلّموه خطابًا غير موقع من “روزفلت” موجهًا إلى “ميخائيل كالينين” رئيس الدولة ورئيس اللجنة المركزية التنفيذية في الاتحاد السوفيتي. عبّر الخطاب عن استعداد الولايات المتحدة للتفاوض حول شروط الاعتراف بالاتحاد السوفيتي، وطلب من “كالينين” إرسال مبعوث إلى واشنطن.

وردًّا على تلك الخطوة، أرسلت موسكو مندوبها للعلاقات الخارجية “ماكسيم ليتفينوف” إلى واشنطن في نوفمبر عام 1933 لبدء المحادثات بين الطرفين. كانت المفاوضات ناجحة، وفي السادس عشر من نوفمبر 1933، اعترفت الولايات المتحدة بالاتحاد السوفيتي بعد مرور 16 عامًا تقريبًا على وصوله إلى السلطة. لقد تغلبت مصالح الولايات المتحدة أخيرًا على شواغلها الأخلاقية والحقوقية.

عدوان خارجي

لم تعترف الولايات المتحدة بتغيير الحكومات نتيجة تدخل قوة أجنبية، كما هو الحال مع “منشوريا” (كانت اليابان هي المعتدي الخارجي) ودول البلطيق (ضحايا العدوان السوفيتي) وفي بلدان أوربا الغربية أثناء الحرب العالمية الثانية (ضحايا العدوان الألماني). اعترفت الولايات المتحدة بتلك الدول فقط بعد تحرّرها من قبضة المعتدين.

مع هذا، تخلت الولايات المتحدة عن تركيزها على الطلب بضرورة أن يكون تشكيل أي حكومات جديدة بموافقة مباشرة من شعوبها. بدأت الولايات المتحدة تشعر أن الشرعية يمكن اكتسابها بمرور الوقت عبر وسائل ديمقراطية مناسبة. ووفقًا لذلك المبدأ، وفي ثلاثينيات القرن الماضي، اعترفت الولايات المتحدة بحكومات جديدة في الأرجنتين وبوليفيا وبيرو. في عام 1932، عندما اعترفت الولايات المتحدة بحكومة جديدة في تشيلي، طرح وزير الخارجية “هينري إل ستيمسون” مبدأ جديدًا: سيكون كافيًا لو أن الحكومة الجديدة أظهرت دلائل تشير إلى “سيطرتها على البلاد وعدم وجود مقاومة نشطة ضدها”. مع هذا، أضاف “ستيمسون” المبدأ الأخلاقي المتمثل في أن كل حكومة يجب ان “تنظم، في الوقت المناسب، انتخابات لتنظيم وضعها”.

بالتالي، فإن سياسة الولايات المتحدة فيما يتعلق بالاعتراف بحكومة طالبان ليست راسخة وغير قابلة للتغيير. نظرًا لتنافس العديد من القوى المتخاصمة للحصول على نصيبها من كعكة أفغانستان، ربما تتجه واشنطن في نهاية المطاف نحو البرغماتية واستيعاب حركة طالبان.        

للاطلاع على الرابط الأصلي .. اضغط هنا

ربما يعجبك أيضا