تمدد خفي.. تنظيم القاعدة يملأ فراغ داعش في مناطق الصراع

أميرة رضا

ترجمة بواسطة – آية سيد

في الوقت الذي احتل فيه تنظيم الدولة الإسلامية العناوين الرئيسية وشغل مسؤولي الأمن القومي على مدار الأربع سنوات الماضية, كان تنظيم القاعدة يعيد بناء نفسه بهدوء. إن إعلانه الصيف الماضي عن فرع جديد – مكرس لتحرير كشمير – مصحوبًا بإحياء تواجده في أفغانستان وترسيخ نفوذه في سوريا, واليمن, والصومال, يؤكد على صمود العدو الإرهابي البارز للولايات المتحدة ونشاطه المستمر.

على الرغم من أن إعادة تنظيم وبناء القاعدة يعود إلى ما قبل الربيع العربي في 2011, إلا أن الانتفاضة التي أعقبته ساعدت الحركة على إعادة إحياء نفسها. في ذلك الوقت, اعتبر التفاؤل الجامح الذي شاع بين النشطاء الحقوقيين المحليين والإقليميين والحكومات الغربية أن الاحتجاجات الشعبية, والعصيان المدني, ومواقع التواصل الاجتماعي جعلت الإرهاب مفارقة تاريخية ليست ذات صلة. لقد قيل أن التطلع للديمقراطية والإصلاح الاقتصادي تفوق بحسم على القمع والعنف. مع هذا, حيثما رأى المتفائلون تغييرًا إيجابيًا لا يمكن الرجوع فيه, رأى تنظيم القاعدة فرصًا جديدة ومغرية.

إن عمليات القتل المتعاقبة في 2011 و2012 لأسامة بن لادن؛ وأنور العولقي, المروج الرئيسي للتنظيم؛ وأبو يحيى الليبي, الرجل الثاني, أكسبت ثقلًا جديدًا لتوقعات المتفائلين بأن القاعدة أصبحت قوة مستنفذة. إلا أنه بالنظر إلى الماضي, يبدو أن تنظيم القاعدة كان من ضمن القوى الإقليمية التي حققت أقصى استفادة من الاضطراب الذي خلفته ثورات الربيع العربي. بعدها بسبع سنوات, ظهر أيمن الظواهري كقائد قوي, برؤية استراتيجية طبقها بطريقة منهجية. بلغ عدد القوات الموالية لتنظيم القاعدة والجماعات التابعة له عشرات الآلاف الآن, بقدرة على زعزعة الاستقرار المحلي والإقليمي, وكذلك أيضًا شن هجمات ضد أعدائهم المعلنين في الشرق الأوسط, وأفريقيا, وجنوب آسيا, وجنوب شرق آسيا, وأوروبا, وروسيا. في واقع الأمر, من شمال غرب أفريقيا إلى جنوب شرق آسيا, نسج تنظيم القاعدة حركة عالمية من أكثر من أربعة وعشرين فرعًا. في سوريا وحدها, يمتلك تنظيم القاعدة الآن ما يصل إلى عشرين ألف رجل مستعدين للقتال, ويمتلك على الأرجح أربعة آلاف آخرين في اليمن وحوالي سبعة آلاف في الصومال.

الرابح الأكبر من ثورات الربيع العربي

حمّس آلاف المقاتلين الذين أفرج عنهم الرئيس محمد مرسي من السجون المصرية في 2012-2013 الحركة في وقت حاسم, عندما ساد الاضطراب واستطاع حفنة من الرجال المتمرسين في الإرهاب والتخريب إغراق الدول والمناطق في حالة من الفوضى. سواء في ليبيا, أو تركيا, أو سوريا, أو اليمن, كان وصولهم مبهجًا من ناحية تحقيق مصالح القاعدة أو زيادة نفوذ التنظيم. إن الانقلاب العسكري اللاحق الذي أطاح بمرسي أثبت صحة تحذيرات الظواهري المتكررة بعدم تصديق الوعود الغربية حول ثمار الديمقراطية أو قداسة الانتخابات الحرة والنزيهة.

أثبت تدخل القاعدة أهميته في سوريا. كان أحد أول الإجراءات الرسمية التي إتخذها الظواهري عقب خلافة بن لادن كأمير هو توجيه أمر لأبو محمد الجولاني بالعودة إلى سوريا وتأسيس جماعة تابعة للقاعدة والتي ستصبح فيما بعد جبهة النصرة.

تسببت الرسائل الطائفية التي بثها تنظيم القاعدة عبر مواقع التواصل الاجتماعي في زيادة حدة الخلافات التاريخية بين السُنة والشيعة ومنحت التنظيم مدخلًا للسياسة السورية الداخلية والذي احتاجه لترسيخ تواجده في تلك الدولة. كانت الأداة التي اختارها تنظيم القاعدة هي جبهة النصرة, ثمرة الاندماج مع الفرع العراقي لتنظيم القاعدة, الذي أعاد تسمية نفسه بالدولة الإسلامية في العراق. لكن بينما نمت جبهة النصرة في القوة والتأثير, اندلع خلاف بين تنظيمي الدولة الإسلامية في العراق والقاعدة على قيادة الجماعة. في انتزاع جرئ للسلطة, أعلن زعيم تنظيم الدولة الإسلامية في العراق, أبو بكر البغدادي, أعلن دمج النصرة مع تنظيم الدولة الإسلامية في العراق بالقوة ليصبحوا تنظيمًا جديدًا يُدعى تنظيم الدولة الإسلامية في العراق وسوريا (داعش). رفض الجولاني قبول الدمج المنفرد ولجأ إلى الظواهري. ازداد الخلاف, وبعد فشل محاولات الظواهري للتوسط, طرد داعش من شبكة القاعدة.

على الرغم من أن داعش – الذي أعاد تسمية نفسه بالدولة الإسلامية – استولى على انتباه العالم منذ حينها, كان تنظيم القاعدة يعيد بناء وتحصين فروعه المتعددة. طبق تنظيم القاعدة بطريقة منهجية استراتيجية طموحة مصممة لحماية قياداته الكبرى المتبقية وتعزيز نفوذه بحرص في الأماكن التي يتمتع فيها التنظيم بتواجد كبير. وفقًا لهذه الاستراتيجية, انتشرت قياداته في سوريا, وإيران, وتركيا, وليبيا, واليمن, مع بقاء كبار القادة فقط في أفغانستان وباكستان. إن التقدمات في وسائل الإتصال الرقمي, إلى جانب الكشف العلني المتلاحق لقدرات التنصت لدى أجهزة المخابرات الأمريكية وحلفائها, مكنوا زعماء القاعدة وقادتها من الحفاظ على التواصل عبر تقنية تشفير آمنة.

أهمية سوريا
إن عدد قيادات القاعدة الكبار المرسلين إلى سوريا على مدار الستة أعوام الماضية يؤكد على الأولوية المرتفعة التي يُلحقها التنظيم بتلك الدولة. كان من ضمن هؤلاء محسن الفضلي, رفيق بن لادن الذي, حتى وفاته في غارة جوية أمريكية في 2015, قاد الذراع التشغيلي النخبوي للجماعة في تلك البلاد, المعروف بجماعة خراسان. لقد عمل أيضًا مبعوثًا محليًا للظواهري, حيث كان مكلفًا بمحاولة حل الخلاف بين القاعدة وداعش.

حيدر كيركان, تركي الجنسية وعميل نشط, أرسله بن لادن نفسه إلى تركيا في 2010 من أجل تمهيد الطريق لتوسع التنظيم في الشام, قبل أن يخلق الربيع العربي تلك الفرصة. كان كيركان مسئولًا أيضًا عن تسهيل حركة أفراد القاعدة الكبار الآخرين من باكستان إلى سوريا للهرب من حملة غارات الطائرات بدون طيار المتصاعدة التي أمر بها الرئيس باراك أوباما. لقد قُتل في 2016 في غارة أمريكية.

شهد الخريف التالي وصول سيف العدل, القائد الأكثر صلابة في التنظيم. العدل ضابط مصري سابق والذي تشمل أصوله الإرهابية, التي تعود إلى أواخر السبعينيات, مؤامرات اغتيال ضد الرئيس المصري أنور السادات, وتفجيرات 1998 للسفارات الأمريكية في كينيا وتنزانيا, والحملات الإرهابية للقاعدة ما بعد 9/11 في السعودية وجنوب آسيا. لقد عمل أيضًا ناصحًا لوريث بن لادن المفترض, ابنه حمزة, بعد أن لجأ كل من العدل والصبي إلى إيران بعد بدء العمليات العسكرية للولايات المتحدة والتحالف في أفغانستان في أواخر 2001. إن ظهور ابن بن لادن المزعوم في سوريا في الصيف الماضي يقدم دليلًا جديدًا على تمسك التنظيم بالدولة التي أصبحت المكان الأكثر شهرة لشن حرب مقدسة منذ الجهاد الأفغاني في الثمانينيات.

في الحقيقة, تواجد القاعدة في سوريا أكثر ضررًا بكثير من تواجد داعش. أصبحت هيئة تحرير الشام, وهو آخر اسم اعتمده الفرع المحلي للقاعدة, أكبر جماعة ثوار في البلاد, حيث مدت سيطرتها العام الماضي على كل محافظة إدلب, على طول الحدود السورية-التركية. هذه ذروة عملية بدأها تنظيم القاعدة منذ أكثر من ثلاث سنوات للقضاء على الجيش السوري الحر وأية جماعة أخرى تتحدى التطلعات الإقليمية للقاعدة.

ملء فراغ داعش
لم يعد داعش يستطيع التنافس مع القاعدة من ناحية النفوذ, أو الإمتداد, أو القوة البشرية, أو التماسك. إن داعش أقوى من خصمه في مجالين اثنين فقط: قوة اسمه وقدرته المفترضة على القيام بهجمات إرهابية كبرى في أوروبا. لكن الأمر الأخير هو نتيجة لقرار الظواهري الاستراتيجي بمنع العمليات الخارجية في الغرب بحيث تستمر إعادة بناء التنظيم دون تدخل. توفر مجموعة الاستثناءات عن هذه السياسة – مثل هجمات شارلي إبدو 2015 في باريس وتفجير مترو سان بطرسبرج 2017 في روسيا – توفر دليلًا دامغًا على أن قدرات تنظيم القاعدة على القيام بعمليات خارجية يمكن أن تتجدد بسهولة. كانت قدرة تنظيم القاعدة في جزيرة العرب المتمركز في اليمن على القيام بأعمال إرهابية دولية – لا سيما استهداف الطيران التجاري – موضوعًا لتحقيق كاشف للحقائق في صحيفة نيويورك تايمز.

يُعد نجاح تنظيم القاعدة في إعادة إحياء شبكته العالمية نتيجة لثلاث خطوات استراتيجية قام بها الظواهري. الخطوة الأولى كانت تعزيز نهج الفروع غير المركزية الذي سهل بقاء التنظيم. على مر السنين, تم دمج قادة ووكلاء فروع القاعدة في عمليات التشاور الخاصة بالتنظيم. اليوم, أصبح تنظيم القاعدة تنظيمًا عالميًا ومحليًا في آن واحد, حيث ضم بفاعلية المظالم والمخاوف المحلية إلى رواية عالمية والتي تشكل الأساس لاستراتيجية كبرى شاملة.

كانت الخطوة الثانية هي الأمر الذي أصدره الظواهري في 2013 لتجنب عمليات الإصابة الجماعية, خاصة تلك التي ربما تقتل مدنيين مسلمين. وهكذا استطاع تنظيم القاعدة أن يقدم نفسه عبر مواقع التواصل الاجتماعي كـ"متطرفين معتدلين," مقبولين أكثر من داعش ظاهريًا.

هذا التطور يعكس القرار الاستراتيجي الثالث للظواهري, حيث ترك داعش يمتص جميع الضربات التي وجهها له التحالف بينما يعيد تنظيم القاعدة بناء قوته العسكرية بصورة خفية. أي شخص يميل للوقوع في هذه الخدعة سيحسن صنعًا بالانتباه إلى تحذير ثيو بادنوس, الصحفي الأمريكي الذي أمضى عامين في سوريا كرهينة لدى جبهة النصرة. روى بادنوس في 2014 كيف أن كبار قادة الجماعة كانوا "يدعون الغربيين إلى الجهاد في سوريا ليس لأنهم احتاجوا للمزيد من الجنود, وإنما لأنهم أرادوا أن يعلموا الغربيين أن ينقلوا الصراع إلى كل حي ومحطة مترو في بلادهم."

وبالتالي هناك تشابه بين تصور مدير المخابرات الوطنية الأمريكية لتهديد القاعدة اليوم على أنه مقتصر بشكل رئيسي على فروعه وما يُسمى بالحرب الزائفة في غرب أوروبا في الفترة بين سبتمبر 1939 ومايو 1940, عندما كان هناك سكون غريب في القتال العنيف الذي أعقب الغزو الألماني لبولندا وإعلان بريطانيا وفرنسا الحرب على ألمانيا. زار رئيس الوزراء نيفيل تشامبرلين القوات البريطانية المحتشدة على طول الحدود الفرنسية-البلجيكية في عيد الميلاد آنذاك.

وسأل الجنرال برنارد لو مونتجومري, قائد فرقة مشاة تدافع عن الجبهة, "أنا لا أعتقد أن الألمان لديهم نية بمهاجمتنا, هل تعتقد ذلك؟" أجاب مونتجومري أن الألمان سيهاجمون في الوقت الذي سيناسبهم. هذه نقطة من الجدير وضعها في الاعتبار بينما ينهمك تنظيم القاعدة في إعادة بناء نفسه ويحشد قواته لمواصلة الحرب التي أعلنها على الولايات المتحدة منذ اثنين وعشرين عامًا.

المصدر- مجلس العلاقات الخارجية

للإطلاع على الموضوع الأصلي .. اضغط هنا

ربما يعجبك أيضا