مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية| هل أصبح الغاز سلعة عالمية؟

أميرة رضا

ترجمة بواسطة – آية سيد

هل أصبح الغاز سلعة عالمية, مثل النفط؟ يُطرح هذا السؤال كثيرًا, وتكون الإجابة في العادة هي "ليس بعد". لكن التغييرات التي تحدث في السوق اليوم تبدو عميقة وتحولية. تتوسع تجارة الغاز الطبيعي المسال بسرعة, وتربط الأسواق المختلفة حتى الآن. هناك سوق متنامية لشراء وبيع الغاز الطبيعي المسال على أساس قصير المدى, مما ينتج عنه المزيد من المرونة والسيولة. لقد سقطت الحواجز المفروضة على الدخول, مما أدى إلى استيراد المزيد من الدول للغاز الطبيعي المسال. وأسعار الغاز تُحدد بشكل كبير حسب معايير خاصة به, مما يُضعف الارتباط التاريخي بالنفط والذي يمتد إلى عقود. حسب معظم المقاييس, أصبح الغاز عالميًا أكثر من أي وقت مضى وتزداد عالميته مع مرور الأيام. لكن من المبكر جدًا أن نسميه سلعة عالمية. تشهد السوق تحولًا, لكن الانتقال نحو السوق العالمية بطئ, وغير منتظم, ومتقطع. وإلى أن تحدث تغييرات أكثر عمقًا في آسيا, ستبقى السوق العالمية بعيدة عن متناولنا.

ما هي السوق العالمية؟
في السوق العالمية, تنعكس أصداء التقلبات عالميًا. إن الإنتاج المرتفع للغاز في الولايات المتحدة ينبغي أن يُخفض الأسعار في الولايات المتحدة وكذلك أيضًا في اليابان؛ موجة البرد في المملكة المتحدة ينبغي أن ترفع الأسعار في الأرجنتين وتايلاند؛ والجفاف في البرازيل ينبغي أن يرفع أسعار شراء الغاز للهند وبولندا. هكذا تعمل سوق النفط: إضراب في فنزويلا؛ هجوم في ليبيا أو نيجيريا؛ عقوبات ضد إيران؛ طفرة في إنتاج النفط في أمريكا – كل هذه الأحداث تؤثر على الأسعار عالميًا, على الرغم من أن تأثيرها الدقيق ربما يختلف من مكان لآخر.

لكن الغاز مختلف عن النفط. النفط سلعة عالمية, بينما الغاز لا يزال خاضعًا لهيمنة القوى الإقليمية والمحلية. 30 في المائة فقط من الغاز المستهلك في العالم يعبر الحدود, مقابل 70 في المائة للنفط. إن سوق النفط مرنة وسريعة الحركة, لكن سوق الغاز جامدة, وتعتمد على بنية تحتية مكلفة وتتم التجارة فيها عبر عقود طويلة الأجل. إن سعر النفط هو نفسه في جميع أنحاء العالم, زائد أو ناقص تكاليف المواصلات والفروق في الجودة. أسعار الغاز, على النقيض, متفاوتة: إنها تختلف من منطقة لأخرى, وتختلف داخل البلدان نفسها. وفي حين أن أسعار النفط تتجه للتحرك مع بعضها البعض, أسعار الغاز لا تفعل ذلك: ربما يرتفع سعر معين, وينخفض الآخر. إن أسعار النفط التي تتحرك في إتجاهات معاكسة هي استثناء نادر, لكن بالنسبة للغاز, هذه هي القاعدة.

لماذا يحدث ذلك؟ أولًا, نقل الغاز أكثر تكلفة من نقل النفط, خاصة لمسافات طويلة وعندما يحتاج الغاز للتبريد لكي يتحول إلى غاز طبيعي مسال. لذلك القليل من الدول تستورد وتُصدِّر الغاز (ونادرًا ما تفعل الأمرين). ثانيًا, تتم تجارة الغاز بصورة تقليدية عبر عقود طويلة الأجل بمصدر ووجهة ثابتين – مما يعني أن القليل من الغاز يمكنه التدفق إلى الأسواق المحتاجة. وثالثًا, رُبطت أسعار الغاز تاريخيًا بالنفط, وهي في الواقع تعكس ندرة النفط, وليس الغاز, وبالتالي لا توصل إشارات ذات مغزى للتجارة أو الاستثمار. في تلك السوق, من الصعب أن تنعكس أصداء التقلبات عالميًا.

هل اقتربنا بعد؟
مع هذا السوق تتغير. يبقى تصدير الغاز الطبيعي المسال متطلبًا لرأس مال ضخم, لكن استيراد الغاز الطبيعي المسال أصبح أبسط وأرخص, في الغالب بسبب السفن التي يمكنها تحويل الغاز الطبيعي المسال إلى غاز (الوحدات العائمة للتخزين وإعادة تحويل الغاز). في 2006, كانت هناك 17 دولة استوردت غاز طبيعي مسال؛ أصبح العدد الآن 39 وفي زيادة, جزئيًا بسبب الوحدات العائمة للتخزين وإعادة تحويل الغاز. علاوة على ذلك, خطوط الأنابيب الفردية خلقت شبكات إقليمية, والتي قرّبت الدول من بعضها. لا يزال نقل الغاز مكلفًا, لكن المزيد من الدول تمتلك البنية التحتية لفعل ذلك.

لا تزال العقود طويلة الأجل مهمة, وخاصة لمشروعات الغاز الطبيعي المسال الجديدة. لكن في السنوات الأخيرة, كان هناك اتجاه للعقود قصيرة الأجل. هذه الخطوة, في حد ذاتها, لا تعني الكثير, على الأقل في قياس السيولة. ما يهم هي المرونة. فكر في المثال التالي: مشتري بعقد مدته 20 عامًا ربما يعيد بيع ذلك الغاز الطبيعي المسال في السوق الفورية. ذلك الغاز الطبيعي المسال مرن ويمكنه الاستجابة للصدمات. الآن تخيل أن هذه الكمية يُعاد بيعها على أساس قصير الأجل – مثلًا عقد من خمس سنوات. في تلك الحالة, تختفي الكمية من السوق الفورية. إنها لا تكون متوفرة لإعادة البيع. ولذلك العقود قصيرة الأجل لا تعزز السيولة بالضرورة؛ إنها حتى قد تقلصها. يعتمد الأمر كله على المصدر الذي يأتي منه الغاز وما كان يحدث لذلك الغاز في السابق.

نفس الشيء صحيح بالنسبة لمرونة الوجهة. مرونة الوجهة, الحق في إعادة توجيه الغاز الطبيعي المسال, كانت القاعدة التعاقدية في حوض الأطلنطي لعقدين الآن, وتنطبق على معظم الغاز الطبيعي المسال الذي يتم بيعه من الشرق الأوسط (وليس كله). وهناك المزيد من الغاز الطبيعي المسال الذي يتمتع بمرونة الوجهة يأتي من الولايات المتحدة. لكن المرونة التعاقدية تعطي المشتري الخيار لإعادة توجيه شحنات الغاز الطبيعي المسال. إنها لا تعني أن الشحنات سيتم تحويلها بالفعل. والمرونة ليست ثابتة. في السنوات الأخيرة, خسرت السوق الكثير من الغاز الطبيعي المسال مرن الوجهة عندما انخفض إنتاج دول معينة (على سبيل المثال, مصر, واليمن, وترينداد). ما يهم هو الكمية الصافية, وليس الكمية الإجمالية.

في الواقع, نمت السوق قصيرة الأجل والسوق الفورية للغاز الطبيعي المسال في أوائل هذا العقد ثم استقرت عند أقل من 30 في المائة من السوق الإجمالية (البيانات حتى 2016؛ لم نحصل على بيانات 2017 بعد). بالإضافة إلى هذا, هذا الرقم يشمل العقود قصيرة الأجل (أقل من أربع أو خمس سنوات) وأيضًا المعاملات الفورية, لذلك هو ليس مؤشرًا دقيقًا لكمية الغاز الطبيعي المسال المتاح فوريًا للاستجابة للتقلبات. وحتى بعد هذا النمو, الغاز الطبيعي المسال قصير الأجل يمثل أقل من 10 في المائة من تجارة الغاز الكلية وأقل من 3 في المائة من إجمالي الغاز المستهلك في العالم.

هل يمكن لهذه الكمية الصغيرة -حتى لو زادت- أن تساعد في دمج سوق عالمية للغاز؟ يعتمد الأمر كله على تحديد الأسعار. من الناحية التاريخية, أسعار الغاز المتداول عالميًا خارج أمريكا الشمالية كانت مرتبطة بالنفط بشكل كبير. لكن المعادلات التي تربط النفط والغاز سويًا تختلف, ولذلك سعر النفط الواحد يُنتج أسعار غاز مختلفة في عقود مختلفة. في تلك السوق, من المستحيل وجود سعر مشترك أو استجابة مشتركة للتقلبات. في أفضل الأحوال, قد تكون أسعار الغاز متجاوبة بصورة مماثلة لتقلبات النفط.

في العقد الماضي, تطور نظام تحديد الأسعار هذا. في 2016, تم تحديد سعر حوالي 45 في المائة من غاز العالم على أساس مبادئ السوق وبدون الرجوع للنفط. كان هذا ارتفاعًا من 31 في المائة في 2005. لكن بالنسبة إلى الغاز المتداول عالميًا, لا يزال ربط الأسعار بالنفط يمثل 49 في المائة من الكميات المتداولة, منخفضًا من 63 في المائة في 2005. بشكل كبير, حدثت النقلة في أوروبا, حيث انفصلت الأسعار عن النفط, على الرغم من أن هذا لم يكن كاملًا أو موحدًا. في آسيا, لا يزال ربط الأسعار بالنفط مهيمنًا. حتى اليوم, سعر واردات اليابان من الغاز الطبيعي المسال يتبع سعر النفط اتباعًا وثيقًا.

بعبارة أخرى, تبقى السوق مزيجًا من الأسعار المختلفة والأنظمة المختلفة لتحديد الأسعار. في معظم الدول, تعكس أسعار الغاز عدة أنظمة وتُظهر اختلافات كبيرة. في ديسمبر 2017, على سبيل المثال, دفعت اليابان 30 في المائة أكثر مقابل الغاز الطبيعي المسال القادم من نيجيريا عن القادم من قطر. في كوريا, كان النطاق من الأرخص إلى الأغلى 40 في المائة. هذه الفروقات شائعة في معظم الأسواق, وتدحض وجود سوق عالمية حقيقية.

لا يوجد أيضًا دليل على أن الأسعار مترابطة اليوم أكثر مما كانت عليه في الماضي. في النصف الثاني من 2017, ارتفعت أسعار الغاز في المملكة المتحدة 70 في المائة, لكنها انخفضت 7 في المائة في الولايات المتحدة و2 في المائة في اليابان. ولم يكن هناك إتساق داخل المناطق. في ألمانيا, ارتفع سعر الحد بنسبة 19 في المائة في نفس الفترة, لكنه انخفض في فرنسا بنسبة 6 في المائة, وارتفع سعر صادرات النرويج 28 في المائة. ارتفع سعر صادرات كندا بنسبة 18 في المائة مع انخفاض مجمع هنري هب. في آسيا, ارتفع سعر الواردات القادمة إلى تايلاند بنسبة 13 في المائة بينما انخفض سعر اليابان. تتحرك الأسعار في إتجاهات مختلفة وبأحجام مختلفة.

بعبارة أخرى, لدينا سوق عالمية إذا نظرنا فقط إلى المؤشرات المادية – كمية الغاز المنقول كغاز طبيعي مسال؛ عدد الدول التي تستورد وتُصدِّر الغاز؛ إلى أي مدى الروابط التجارية معقدة؛ كمية الغاز الطبيعي المسال المتداول خارج العقود طويلة الأجل. لكن لا توجد سوق عالمية إذا نظرنا للأسعار – سواء كانت تتحرك بصورة ترادفية؛ سواء كانت أصداء التقلبات تنعكس عالميًا. في الواقع, في 2017, أظهرت الأسعار أقل قدر من الترابط فيما يقرب من عقدين. هذه ليست سوقًا عالمية.

ماذا يجب أن يحدث؟
من الشائع أن نركز على السوق الفورية للغاز الطبيعي المسال كمقياس لما إذا كانت ستنشأ سوق عالمية أم لا. هذا منطقي – تحتاج السوق العالمية لسوق فورية قوية وتتمتع بالسيولة. لكن لكي تنعكس أصداء التقلبات عالميًا, نحتاج لسوق فورية لنقل الصدمات, وأيضًا لأسعار تعكس أساسيات الوقت الحقيقي.

وازنت السوق الفورية تفاوتات الأسعار بدون تقليصها. الغموض يساعد في هذا الصدد: يبقى الغاز الطبيعي المسال مبهمًا, وخاصة عندما يتعلق الأمر بتحديد الأسعار. هناك أدوات مالية جديدة وسيولة أكبر, لكن تفاوتات الأسعار الموضحة بالأعلى لا تزال تترنح. الغموض, بالطبع, مربح – إنه تفاوت في السعر يدفع 30 أو 40 في المائة أكثر لنفس المنتج في نفس السوق في نفس الوقت. في السوق التي تعمل بشكل جيد, تلك الفروقات في الأسعار, والأرباح التي تجلبها, ينبغي أن تتقلص بشكل كبير. لكن هذا يتطلب نظام جديد لتحديد أسعار الغاز.

في الواقع, هذا يعني مزيدا من تحديد الأسعار حسب الغاز فقط. أمريكا الشمالية, والمملكة المتحدة, وأوروبا القارية يُظهرون لنا أن التحول إلى سوق تتمتع بسيولة بنظام تحديد أسعار قائم على الغاز فقط طويل ومؤلم. يحتاج الأمر لتجربة وتكرار, ويحتاج لدعم حكومي قوي. يخسر أصحاب المناصب من التغيير. يحدث هذا عادةً عند وجود فائض في الإمداد, مما يدفع العملاء للبحث عن شروط أفضل. يتطلب الأمر منافسة من المنبع بحيث يستطيع المستخدمون النهائيون تجاوز اللاعبين الراسخين لعقد صفقاتهم الخاصة. يحتاج الأمر لإمكانية وصول مفتوحة وعادلة لخطوط الأنابيب, تطبقها جهة رقابية قوية. ويشمل الأمر في كثير من الأحيان مقاضاة أو تحكيم مستمر وطويل. وحتى حينها, تستغرق العملية سنوات لكي تنتهي.

توجد القليل من هذه العناصر في آسيا. إن عملية تحرير السوق غير منتظمة في أنحاء آسيا, والدافع لتأمين الإمداد كثيرًا ما يصطدم بالرغبة في وجود أسواق أكثر انفتاحًا. تريد الحكومات منافع التحرر وليس تكاليفه. يخسر أصحاب المناصب مليارات الدولارات, والجنيهات, واليوروهات مع تحرر الأسواق في أمريكا الشمالية وأوروبا. هل ستتبع الحكومات الآسيوية الأبطال القوميين بنفس النشاط؟ هل ستعاقب الجهات الرقابية أصحاب المناصب الذين يقيدون الوصول إلى شبكتهم؟ هل ستخاطر الحكومات بالتعرض لسقطة دبلوماسية والتي تأتي من التدخل في النزاعات التجارية؟

إن التحولات مسببة للاضطراب وفوضوية, وتحتاج لإشراف حكومي قوي لكي تتم. إلى أن تُظهر الحكومات الآسيوية, بالتحديد, استعدادًا مماثلًا لتعطيل أسواق الغاز والطاقة المحلية, ستبقى سوق الغاز العالمية بعيدًا عن متناولنا.

المصدر – مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية

للإطلاع على الموضوع الأصلي .. اضغط هنا

ربما يعجبك أيضا