المجلس الروسي | التحديات الخمسة.. تعرف على أسباب النزاعات الدبلوماسية بين أمريكا وروسيا

ترجمات رؤية

ترجمة بواسطة – شهاب ممدوح

"التحليلات الهجينة: خبراء يروّجون لدعايات سياسية منحازة للكرملين في موسكو وأوربا والولايات المتحدة" هذا هو عنوان تقرير مكوّن من 58 صفحة صادر عن "معهد روسيا الحديثة" في مطلع شهر أكتوبر. يشير البحث بأصابع الاتهام إلى خبراء روس وأوروبيين وأمريكيين، ويتهمهم بترويج "دعاية منحازة للكرملين في الغرب".

في الواقع، تضع مؤلفة هذا التقرير "كاترينا سماجلي"، المديرة السابقة لمكتب معهد كينان في أوكرانيا، "قائمة سوداء" لا تضم فقط مؤسسات بحثية وجامعات ووكالات استشارية روسية، لكنها تضم أيضًا مؤسسات غربية. من بينها "معهد كينان" التابع لمركز ويلسون، شركة "Kissinger Associates" للاستشارات، ومركز كارنيجي للسلام الدولي، مركز المصلحة الوطنية، وجامعة أكسفورد، جامعة "كينجز كوليج" في لندن، ومؤسسة "فريدريك إيبيرت"، ومؤسسات أخرى.  

إن الدراسة التي أصدرها معهد روسيا الحديثة، تشير مجددًا إلى أن ممارسة الدبلوماسية العامة ليست بالأمر السهل هذه الأيام، وذلك بالنظر إلى المواجهة الحاصلة بين روسيا والغرب. المفارقة أن التواصل المباشر بين الشعوب أو "دبلوماسية الخبراء" من المفترض لها أن تُحسّن العلاقات الثنائية، لكن وبدلاً من إصلاح العلاقات، أصبح هذا النوع من الدبلوماسية موضعًا للنقاشات، ويُنظر إليه باعتباره دعاية خفيّة ضمن "الحرب الهجينة".

حتى الدبلوماسيين والخبراء البارزين الذين يحاولون تعزيز الروابط بين روسيا والغرب، لم يعودوا محصّنين من الهجمات الإعلامية وحملات التشكيك. إن محاولة وكالة "بلومبيرج" الأخيرة الربط بين النشاط الذي يمارسه الدبلوماسي "هنري كسنجر" و"ديمتري سايمز"، رئيس مركز المصلحة الوطنية the Center) (for National Interest، وقضية التواطؤ الروسي مع ترامب، يزيد من انعدام الثقة تجاه الدبلوماسية العامة والحوار وسط المتشككين.

بعد وقت قصير من قمة ترامب – بوتين في هلسنكي في شهر يوليو، جرى اعتقال المواطنة والناشطة الروسية "ماريا بوتينا"، 29 عامًا، في الولايات المتحدة؛ بسبب محاولتها التواصل مع سياسيين أمريكيين في خضم التحقيق المستمر بشأن تدخل روسيا في الانتخابات الأمريكية. اتُّهمت "بوتينا" بأنها عميلة روسية وعضو في جماعة ضغط تعمل لحساب روسيا. هي الآن في السجن، وربما تواجه عقوبة سجن قصوى لعشر سنوات حال إدانتها.

كل هذا يعيق أية محاولة للتواصل بين السياسيين والناس العاديين والخبراء من روسيا والغرب، كما أنه يؤثر تأثيرًا سلبيًا على الأشخاص الذين يخططون لزيارة الولايات المتحدة بوصفهم معلقين سياسيين أو دبلوماسيين ثقافيين. في وقت تنتصر فيه السياسة على الحوار بين الشعوب، فإن هذه الدعاية السلبية ضد روسيا، تكشف النقاب عن خمسة تحديات تواجه الدبلوماسية العامة اليوم: أزمة الثقة بين روسيا والغرب، الخلافات السياسية بين روسيا وأمريكا، حروب المعلومات، التقنيات الهدّامة، وقوة الأفكار النمطية.

1-  أزمة الثقة بين الولايات المتحدة وروسيا
في السادس والعشرين من يوليو، اعتُقل "يفجيني بريماكوف" في مطار كييف، وهو رئيس مؤسسة "المهمة الإنسانية الروسية"، وهي مؤسسة خيرية غير ربحية تساعد ضحايا النزاعات والحروب. كان "يفجيني" ينوي المشاركة في مؤتمر منظمة الأمن والتعاون الأوروبية بشأن الحريات الإعلامية في الغرب. سحب أمن المطار جواز سفره واقتاده بعيدًا، ونظرًا لاتهامه بأنه يمثل تهديدًا على أمن أوكرانيا الوطني، فإنه لن يتمكّن من السفر إلى هذا البلد لمدة خمس سنوات.

يقول "بريماكوف" إنه كان ينوي المشاركة في هذا المؤتمر لتسليط الضوء على غياب الحوار بين روسيا والغرب. وكان يرغب في تعزيز التواصل بين الشعوب وإيقاف الحرب في أوكرانيا. لكن أوكرانيا أزعجها استخدامه خطابًا ناريًا ضدها: ففي السابع عشر من مايو، قبل شهر من انعقاد مؤتمر منظمة الأمن والتعاون في أوروبا، دعا بريماكوف الروس للتظاهر أمام سفارة أوكرانيا في موسكو احتجاجًا على اعتقال "كيريل فيشنسكي"، رئيس مكتب وكالة أنباء "نوفوستي" الخاضعة لسيطرة الحكومة الروسية، أثناء عمله في أوكرانيا.

إن قضية بريماكوف هي مثال آخر على تزايد فجوة الثقة بين روسيا والغرب، والتي باتت أمرًا شائعًا هذه الأيام. إنها أزمة ثقة من الجانبين. في الثامن والعشرين من مايو، منعت روسيا "سلومير ديبسكي"، مدير المعهد البولندي للعلاقات الدولية، من دخول أراضيها حتى مارس 2021؛ ما يعني منعه من المشاركة في مؤتمر للخبراء في موسكو. إن "ديبسكي" معروف بانتقاداته القاسية والمتواصلة للكرملين: في وقت سابق، دعا أوكرانيا وبولندا للتكاتف من أجل "مواجهة العدوان الروسي".

الضربة الأخرى للدبلوماسية العامة كانت بسبب قضية "سكريبال". إذ جرى اتهام الكرملين بتسميم الجاسوس السابق "سكريبال" وابنته "يوليا"، ما دفع الرئيس ترامب لطرد 60 دبلوماسيًّا روسيًّا، وإغلاق القنصلية الروسية في سياتل: من بين المرحّلين، رئيس المركز الثقافي الروسي في واشنطن.

بالمثل، فإن تحركات روسيا تعرقل عمل الدبلوماسية العامة. في سبتمبر 2017، طلب الكرملين من الولايات المتحدة تخفيض عدد العاملين في بعثتها الدبلوماسية وتسريح 755 موظفًا في السفارة الأمريكية في موسكو وسان بترسبرج وفلاديفوستوك. غالبية الموظفين الذين جرى طردهم (نحو 600 شخص) هم من روسيا، ونحو 100 موظف أمريكي. إن التخفيض الكبير في عدد العاملين في السفارة الأمريكية في موسكو، طال في معظمه الملحقية الثقافية في السفارة، والتي كانت مسئولة أيضا عن الدبلوماسية العامة.

في ظل الوضع الراهن، تتحمل كلٌّ من موسكو وواشنطن مسؤولية تصاعد الأزمة، وعجزهما عن التوصل لاتفاق فيما بينهما: طلب الكرملين من الولايات المتحدة تخفيض عدد العاملين في البعثة الأمريكية في روسيا ردًّا على سيطرة الولايات المتحدة على مجمّعات دبلوماسية روسية في ولايتي نيويورك وماريلاند. لقد أُجبر الدبلوماسيون الروس على الانتقال من مساكنهم الصيفية الأمريكية؛ بسبب الاشتباه في استخدامهم تلك المجمّعات الدبلوماسية في عمليات تجسس إلكترونية. من جانبها، نفت موسكو تلك الاتهامات وردّت بإجراءات مماثلة.  

2 –  الخلافات السياسية بين الولايات المتحدة وروسيا
إن الشكوك المتبادلة بين روسيا والغرب في حالة تصاعد منذ عام 2012؛ بسبب الخلافات السياسية العميقة بين تلك البلدان، وانتخاب فلاديمير بوتين لفترة رئاسية ثالثة؛ ما ساهم في خلق توترات بين واشنطن وموسكو. في ذلك الوقت، لم تثق الولايات المتحدة في بوتين، بينما كان لدى الأخير قناعة تامة بأن أمريكا تحاول التدخل في انتخابات 2011-2012 البرلمانية والرئاسية.

وفي ضوء هذه الخلفية، غادرت الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، التي ساهمت في جهود الدبلوماسية العامة الأمريكية حول العالم، روسيا في سبتمبر 2012. لم يكن هناك إجماع بشأن الأسباب الحقيقية لإيقاف وكالة التنمية الأمريكية أنشطتها في روسيا. بينما تزعم واشنطن أن الكرملين طلب وقف برامج تلك الوكالة في روسيا، يزعم الطرف الروسي أن الوكالة خفّضت وجودها في موسكو بسبب فقدانها الاهتمام تجاه هذا البلد.

بعد ذلك، وأثناء فترته الرئاسية الثالثة، أصدر الرئيس بوتين سلسلة من القوانين، التي قوبلت بانتقادات قاسية في الغرب: قانون "ديما ياكوفليف" الذي يمنع العائلات الأمريكية من تبنّي الأيتام الروس، وقانونان آخران بشأن العملاء الأجانب والمنظمات غير المرغوبة التي تخلق بيئة غير مواتية للمنظمات الروسية والأجنبية غير الحكومية، بالإضافة إلى القانون الذي يحظر الدعاية للمثلية الجنسية، وما إلى ذلك.

إن الضربة الأقوى التي تلقتها الدبلوماسية العامة جاءت من واضعي قانوني العملاء الأجانب والمنظمات غير المرغوبة. فبعد تبنّي القانونين، في صيف 2015، أنشأ مجلس الاتحاد الروسي "قائمة التوقيف الوطنية" التي تضم العديد من المنظمات غير الحكومية الأجنبية، التي اضطرت في النهاية لمغادرة روسيا. من بينها كانت منظمة "الوقف الوطني للديمقراطية"، ومؤسسة سوروس، ومؤسسة ماك آرثر، ومؤسسة فريدوم هاوس. وقد دعت تلك المؤسسات مبادرات مهنية وأكاديمية ووطنية.

لقد حظر الكرملين نشاط تلك المنظمات في روسيا لأنها، وفقًا لرواية موسكو، حاولت سرًا تغيير النظام السياسي الراهن في روسيا. يقول "قنسطنطين كوساشيف"، رئيس مجلس الاتحاد الروسي، إن هدف "قائمة التوقيف" هو مواجهة تلك القوى التي تحاول تغيير السلطة في روسيا.

في الوقت ذاته، لعب ولع الرئيس الديمقراطي "باراك أوباما" بالدفاع عن حقوق الإنسان في روسيا دورًا في إذكاء نار الخلافات الأمريكية-الروسية. فمنذ عام 2012، نظر الغرب إلى روسيا باعتبارها دولة مارقة تنتهك حقوق الإنسان، بينما اعتبرت موسكو واشنطن دولة متطفلة تُمثل تهديدًا على سيادة روسيا.

كذلك، عانت الدبلوماسية العامة بشكل كبير نتيجة للخلافات الروسية – الغربية بشأن سيطرة روسيا على القرم عام 2014، وانخراطها في الحرب المستمرة في إقليم "دونباس". على سبيل المثال، أنهت روسيا عمل برنامج التبادل الطلابي لقادة المستقبل، وهو برنامج ثقافي وتعليمي أمريكي لطلاب المدارس الثانوية، بحجة أن أحد طلاب البرنامج رفض العودة إلى روسيا. بعد عام من إغلاق برنامج "قادة المستقبل"، أغلقت روسيا "الركن الأمريكي" في مكتبة الأدب الأجنبي الروسية: جرى نقل هذا المركز إلى مبنى السفارة الأمريكية في وسط موسكو.

3-  الحروب المعلوماتية بين روسيا والغرب
صرّح السيناتور الجمهوري "ليندزي جراهام" في الصيف الماضي بما يلي "إن القول بأن روسيا لم تتدخل في انتخاباتنا هو أخبار مزيفة". إن المؤسسة السياسة الأمريكية لا يساورها شك في أن روسيا تدخلت في الانتخابات الرئاسية الأمريكية.

مع ذلك، فإن الكرملين نفى بصورة متكررة هذه الاتهامات، إذ يسخر العديد من المعلقين ووسائل الإعلام الروسية بشكل علني من الرواية الأمريكية بشأن دور موسكو في الانتخابات. عادة ما ترتكز الحجج الروسية على ثلاث نقاط: أولاً، أمريكا تواجه أزمة هوية وطنية (أو أزمة سياسية)، ثانيًا، أن الديمقراطيين يحاولون تبرير فشلهم في الانتخابات الرئاسية، ثالثًا، شيطنة روسيا هي وسيلة مناسبة لليبراليين لتحقيق أهدافهم السياسية.

إن الخلافات الروسية – الأمريكية بشأن تدخل الكرملين في الانتخابات، تشير إلى أن موسكو وواشنطن منخرطتان في حرب معلومات واسعة النطاق. وهذا له تأثير سلبي على الدبلوماسية العامة. وليس من الصعب على المرء أن يجد أمثلة على ذلك.

ففي يوليو 2015، نشرت صحيفة "دايلي بيست" مقالة وضعت فيها تعليقات انتقائية تعود لخبراء ودبلوماسيين أمريكيين، يتهمون فيها "مركز كارنيجي موسكو" بأنه حصان طروادة للكرملين، وبأنه يروّج لرواية منحازة لموسكو في الولايات المتحدة. إن أحد الأسباب التي تقف خلف تلك الاتهامات ربما تكون حقيقة أن مدير المركز "ديمتري ترينين" كان دائمًا متوازنًا في تعليقاته بشأن أحداث أوكرانيا، كما أنه تجنّب استخدام خطاب حاد وقاسٍ تجاه السلطات الروسية.

هناك مثال آخر وهو محاولة الصحفيين الغربيين وضع قائمة سوداء لوسائل الإعلام التي تنشر دعايات الكرملين والأخبار المزيفة في الولايات المتحدة وأوربا. في أواخر شهر نوفمبر عام 2016، قدمت صحيفة واشنطن بوست حملة دعائية لما يسمى مشروع " "PropOrNot (دعاية أم ليست دعاية). وقد نشرت الصحيفة قائمة سوداء لوسائل إعلامية روسية وغربية تقوم بنشر أخبار كاذبة في أمريكا. وفقًا لمشروع "PropOrNot"، فإن الدعاية الروسية ساهمت في فوز ترامب بالانتخابات وهزيمة هيلاري كلينتون. إن القائمة السوداء لم تضم تلك الوسائل الإعلامية فحسب، والتي تُعد أبواق دعاية للكرملين في الغرب (محطة روسيا اليوم، ووكالة سبوتنيك)، لكنها ضمّت أيضًا مشروعًا ترعاه الدولة الروسية هدفه تعزيز الدبلوماسية العامة – مشروع "Russia Diurect" (الذي جرى إغلاقه في مارس 2017). لقد نظّم هذا المشروع جلسات حوارية للخبراء بشأن العلاقات الروسية – الأمريكية.

وبالرغم من أن مشروع "Russia Direct" جرى إزالته من القائمة السوداء، غير أن المشكلة لا تزال قائمة: الحملة ضد الأخبار المزيّفة أصبحت أداة في أيدي الطرفين في حرب المعلومات – دعاية ضد دعاية. المثير للاهتمام أنه في مطلع عام 2018، نشرت وكالة "سبوتنيك" الخاضعة لسيطرة الدولة الروسية مقالة تربط فيها بين مشروع "PropOrNot" وبين "المجلس الأطلسي" (Atlantic Council) ووزارة الخارجية الأمريكية. من غير الواضح ما إذا كان هذا الأمر صحيحًا أم لا، لكن "سبوتنيك" تدعم حجتها عبر الاستشهاد بكلام صحفي التحقيقات "جورج إلياسون".

4-  التقنيات الهدّامة  
إن الإنجازات الحاصلة في تطوير تقنيات المعلومات، تمامًا مثل سيف ذي حدّين، تخلق فرصًا وتحديات للدبلوماسية الجماهيرية. أولاً، القيمة الناتجة من عمليات التواصل المباشرة أثناء اجتماعات الطاولة المستديرة والمنتديات، باتت تتقلّص، لأن وسائل التواصل الاجتماعي أصبحت تستحوذ على معظم الاهتمام، وباتت بديلاً عن الواقع. في أحيان كثيرة، يفضّل مستخدمو الإنترنت التواصل الافتراضي على الحقيقي، وهو ما لا يسهم دائمًا في زيادة كفاءة الدبلوماسية العامة.

ثانيًا، تزايد حجم التهديدات السيبرانية يثير حالة من الريبة المتبادلة بين روسيا والغرب، وبالتالي هذا يزيد المشكلة الرئيسية سوءًا- أي أزمة الثقة. لقد بدأت موجة جديدة من المواجهة الروسية -الأمريكية بعد اتهام واشنطن للكرملين بقرصنة اللجنة الوطنية للحزب الديمقراطي، وتسريب مراسلات هيلاري كلينتون الخاصة مع مستشارها "جون بوديستا".

ثالثًا، تفرض وسائل التواصل الاجتماعي الآن سيطرة أكبر على الإعلانات السياسية على منصاتها. ترتبط هذه التحولات بالضجة الأخيرة حول فيسبوك وشركة "كامبريدج أنالتيكا" البريطانية المتخصصة في تحليل البيانات، التي عملت لصالح فريق دونالد ترامب الانتخابي. في ربيع 2018، أقرّ فيسبوك بتسريب بيانات خاصة لـ87 مليون شخص لشركة "كامبريدج أنالتيكا" التي استخدمت البيانات في حملات إعلانية عديدة لصالح ترامب.

في أبريل، حضر المدير التنفيذي لشركة فيسبوك "مارك زوكربيرج" جلسة استماع للكونغرس بشأن دور روسيا في الانتخابات الأمريكية عام 2016. وفي شهر مايو، غيّر فيسبوك قواعد الإعلانات السياسية لمستخدميه الأمريكيين. من الناحية العملية، هذا يعني أن التقارير والمقالات المنشورة على مواقع المؤسسات البحثية والمنظمات غير الحكومية ربما يجري وصفها بأنها إعلانات سياسية. هذا بدوره يمكن أن يخلق حالة من انعدام الثقة تجاه الدبلوماسية العامة وسط الناس.

وما يزيد الوضع سوءًا هو أن الفيس بوك يشدّد قواعد منح تصريح الإعلانات للمنظمات الأجنبية التي تسعى لإجراء إعلانات "سياسية" للجمهور الأمريكي. من الآن فصاعدًا، الأمريكيون فقط هم من سيمكنهم فعل ذلك: المستخدم سيتعيّن عليه إثبات جنسيته الأمريكية وإقامته القانونية عبر تقديم جواز السفر ورخصة قيادة السيارة وإقرار خطّي بالإقامة ورقم الضمان الاجتماعي.

نتيجة لذلك، فإن المنشورات التحليلية الصادرة عن دول أجنبية ربما لن تصل للمستخدمين الأمريكيين، من بينهم الأشخاص الذين يتعاملون مع البحث الأكاديمي والسياسة الخارجية. ونظرًا إلى شعبية فيسبوك وسط الخبراء والمؤسسات البحثية الروسية، التي تشارك منشوراتها وتنشر إعلانات موجّهة على صفحاتها، فإن وصول المستخدمين إلى أبحاثها على وسائل التواصل ربما يجري تقييده إلى حدٍّ ما.

5-  مشكلة الصورة النمطية
إن قانون "حماية الأمن الأمريكي من عدوان الكرملين"، الذي اقترحه السيناتور لينزي جراهام، يتضمّن الجزء التالي "تحديث الدبلوماسية العامة"، ويقدم القانون إجراءات لتحسين كفاءة الدبلوماسية العامة الأمريكية "وضمان أن تعمل برامج تلك الدبلوماسية على زيادة المعرفة والفهم والثقة تجاه الولايات المتحدة وسط الجمهور المستهدف. إن حقيقة ذكر الدبلوماسية العامة في سياق مهمة مواجهة "العدوان" الروسي، يوحي بأن التواصل المباشر بين الشعوب يُنظر إليه باعتباره أداة دعائية.

في وقت سابق، تبنّى دبلوماسيان أمريكيان وهما "ريتشارد هولبروك" و "كيم إليوت" موقفًا واضحًا بشأن الدبلوماسية العامة. هما يعتبرانها "حربًا نفسية" و"دعاية دولية". لكن الدبلوماسية العامة، مدفوعة بصورة رئيسية من الحكومات، تتضمن أيضًا مبادرات شعبية لا يمكنها أن تضاهي الدعاية الحكومية. على سبيل المثال، في الفترة بين عامي 1985 و1991، صار التواصل المباشر بين الشعوب أحد أهم المحركات لعملية إصلاح الاتحاد السوفيتي المعروفة بـ "بيرسترويكا": أرسل برنامج "السوفيت يتعرفون على وسط أمريكا" (The Soviets Meet Middle America)، الذي أسسه مركز مهتم بمبادرات للتقريب بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، مئات المواطنين السوفيت للولايات المتحدة. وقد أصبحوا سفراءً ثقافيين وعملوا على تفنيد الأفكار النمطية المتبادلة.

بالتالي، فإن مشكلة التصور السائد تجاه الدبلوماسية العامة وسط الدوائر الإعلامية والسياسية والتجارية تُعد أيضًا عقبة كبيرة. ما التصور السائد تجاه دبلوماسية المواطن؟
أولاً، مشاريع التواصل بين الشعوب ليست جذابة من وجهة النظر التجارية؛ لأنها ذات طبيعة تعليمية وإنسانية. لكن الأوساط التجارية ربما تدعم مبادرات الدبلوماسية العامة من أجل الدعاية عبر تشجيع الأعمال الخيرية.

ثانيًا، من الصعب تقييم الدبلوماسية العامة، لأنها تسعى لتحقيق أهداف طويلة الأمد. علاوة على ذلك، فإن النتيجة المهمة لتلك الدبلوماسية ليست مادية: فهي تتعلق بكسب القلوب والعقول واستثارة التعاطف. من الناحية الكمية، من الصعب جدًّا تقييمها.

ثالثًا، نظرًا لافتقارها للفائدة التجارية، فإن الدبلوماسية العامة تكسب الدعم بصورة رئيسية من مراكز الأبحاث والمعاهد السياسية، التي تستخدم في أحيان كثيرة الروابط الإنسانية وعمليات التبادل المهني لتحقيق أهدافها الأيديولوجية والترويج لأجندتها الحزبية. بالتالي، فإن الدبلوماسية العامة يُنظر إليها باعتبارها دعاية راقية أو خفيّة. يزعم المتشككون أن الاستقلالية والحيادية والأمانة هي أمور صعبة المنال في الوضع السياسي الراهن، لأن هناك رعاة يحددون برنامج العمل.

بالطبع، يلعب الرعاة دورًا كبيرًا في مبادرات الدبلوماسية العامة، لكن أي محاولة للربط بين انتماءات المراكز البحثية وبين جودة عمل تلك المراكز، يقوّض من فكرة الدبلوماسية العامة نفسها ويؤثر عليها سلبًا. إن حقيقة ارتباط معاهد سياسية وأكاديمية برعاتها، لا يعني بالضرورة فقدان تلك المعاهد لسمعتها.

ما الواجب عمله؟ 
أولاً
: إن مشكلة الدبلوماسية العامة معقدة وتتطلب نهجًا شاملاً. الأولوية القصوى اليوم بالنسبة لروسيا والغرب هي التعامل مع أزمة الثقة الخطيرة. من المستحيل الحديث عن التغلب على هذه الأزمة في المستقبل القريب، نظرًا إلى تعنت واشنطن وموسكو، لكن المشكلة يمكن تخفيفها على الأقل عبر تكثيف الحوار انطلاقًا من القاعدة بين الخبراء والأكاديميين والطلاب الروس والغربيين. لقد فشلت قمة ترامب – بوتين المنعقدة في هلسنكي في شهر يوليو، لكن برامج التواصل بين الشعوب يمكن لها أن تنجح بالرغم من البيئة العدائية بين روسيا والولايات المتحدة.

ثانيًا، ينبغي على روسيا والولايات المتحدة وأوروبا أن يتعلموا من جديد أساسيات الدبلوماسية الكلاسيكية: التوصل لحلول وسط من أجل المصلحة العامة، وليست المصلحة الوطنية لبلد بعينه فقط. في هذا الوضع، ينبغي على المرء أن يكون واقعيًا ومثاليًا. فواقعية روسيا ومثالية الغرب ليستا بالضرورة غير متطابقتين. بل يمكنهما تعزيز بعضهما الآخر. إن التنازل ليس علامة ضعف، بل علامة قوة ونضوج سياسي.

ثالثًا، ينبغي على روسيا والغرب الابتعاد عن استخدام الدعاية: فهي لا تخلق ثقة، لكنها تؤجج الشكوك. من الأفضل أن يتجنب الصحفيون الروس والغربيون الاتهامات والتشنيع المتبادل: من الضروري أن يستمع ويفهم الطرفان بعضهما الآخر.  

رابعًا، يمكن استخدام التقنيات الهدّامة ليس في تأجيج المواجهة السياسية، ولكن في توسيع الحوار. إن تنظيم حلقات دراسية شبكية ومؤتمرات عبر الفيديو، هو خطوة في الاتجاه الصحيح. علاوة على ذلك، فإن تأسيس مشاريع عملية وتفاعلية في الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، مثل أدوات التثبّت من الحقائق، هو مثال على التأثير الإيجابي للتكنولوجيات على الدبلوماسية العامة. وفي هذا الإطار، فإن مشروع فيس بوك المعروف باسم: "لنجعل الحقائق عظيمة مرة أخرى" هو مثال ناصع على هذا الأمر.

خامسًا، من الأفضل لروسيا والغرب الفصل بين الدبلوماسية العامة والدعاية، والتركيز على فوارقهما الدقيقة. لا يسع المرء إلا أن يتفق مع "روبيرت بيشيل"، المدير السابق لمكتب معلومات الناتو في موسكو. هو يزعم أن الهدف الرئيس للدبلوماسية العامة هو تزويد الناس بالمعلومات والرد على أسئلتهم. هذا يعني إجراء نقاشات مفتوحة بشأن الخلافات والمشاكل. إن الدبلوماسية العامة مبنية على الحقائق والمعلومات الموثقة، أما الدعاية، الصريحة والخفيّة، فتهدف لتضليل الجمهور ونشر الأكاذيب. ثانيًا، تُعد السمعة والمبادئ والحقيقة والمسؤولية والاحترام تجاه الجمهور أولويات قصوى للدبلوماسية العامة، وهو ما لا ينطبق على الدعاية التي لا تهتم بالسمعة والمبادئ 

للإطلاع على الموضوع الأصلي .. اضغط هنا

ربما يعجبك أيضا