فورين أفيرز| عندما تحكم الصين الإنترنت

ترجمات رؤية

ترجمة بواسطة – شهاب ممدوح

لقرابة خمسة عقود تقريبًا، تزعمت الولايات المتحدة نمو الإنترنت. فمنذ نشأته كبرنامج صغير تابع للبنتاغون، وصولاً إلى وضعه الراهن كمنصّة عالمية تربط ما يزيد على نصف العالم وعشرات مليارات الأجهزة، كان الإنترنت لزمن طويل مشروعًا أمريكيًا. لكن اليوم، خسرت الولايات المتحدة زعامتها في الفضاء السيبراني لصالح الصين. لقد أوضح الرئيس الصيني "شي جين بينغ" خططه لتحويل الصين لـ "قوة سيبرانية عظمى". في الوقت الراهن، يفوق عدد الصينيين الذين يمكنهم الوصول إلى خدمة الإنترنت الأعداد الموجودة في أي بلد آخر، لكن الرئيس "شي" لديه خطط أعظم. فعبر القوانين المحلية والابتكارات التقنية والسياسة الخارجية، تهدف الصين لبناء نظام دفاع سيبراني "عصيّ على الاختراق"، ومنح نفسها صوتًا أعلى في إدارة الإنترنت، وإنشاء المزيد من الشركات ذات المستوى العالمي، وقيادة العالم في مجال التقنيات المتقدمة.
 
إن صعود الصين المتواصل كقوة سيبرانية عظمى غير مضمون. فالجهود التي تقودها الدولة الصينية من القمة للقاعدة في مجالات الابتكار والذكاء الاصطناعي والحوسبة الكميّة والروبوتات وبقية التقنيات الطموحة الأخرى، ربما يكون مصيرها الفشل. ستواجه شركات التقنية الصينية ضغوطًا سياسية واقتصادية أثناء عملية اكتسابها طابعًا عالميًّا. قد يطلب المواطنون الصينيون، بالرغم من أنهم لا يعقدون آمالاً كبيرة على احترام حكومتهم لمبدأ الخصوصية، المزيد من الشركات الخاصة. كما يمكن للولايات المتحدة أن تعيد تنشيط دبلوماسيتها الرقمية، وربما يُعيد الاقتصاد الأمريكي اكتشاف الديناميكية التي مكّنته من خلق الجزء الأكبر من تقنية العالم الحديث.
لكن نظرًا إلى حجم الصين وتقدمها التقني، فإن الصين لديها فرصة جيدة للنجاح، وبالتالي إعادة صياغة الفضاء السيبراني وفقًا لما تتخيله. لو حدث هذا، فإن الإنترنت سيكون أقل عالمية وانفتاحًا. .إذ سيشغّل جزء كبير من الإنترنت تطبيقات صينية على أجهزة صينية. حينها ستجني بكين المكاسب الاقتصادية والدبلوماسية والأمنية والاستخباراتية التي كانت تجنيها واشنطن ذات يوم.

رؤية الرئيس "شي"

منذ اللحظة التي تولى فيها السلطة عام 2012، أوضح الرئيس "شي" جليًّا حجم الدور الكبير الذي يحتله الإنترنت في رؤيته للصين. فبعد سنوات من الجمود، والتي كانت السياسة السيبرانية خلالها موزعة بين طيف كبير من الإدارات الحكومية، أعلن "شي" أنه سيرأس ما يسمى مجموعة مركزية قيادية بشأن أمن الإنترنت والمعلوماتية، وأنه سيدير تلك السياسة من القمة. لقد أنشأ الرئيس الصيني وكالة جديدة اسمها "إدارة الأمن السيبراني في الصين" ومنحها مسؤولية التحكم في محتوى الإنترنت، وتعزيز الأمن السيبراني، وتطوير الاقتصاد الرقمي.
إن القوة السيبرانية تقع في قلب أربع أولويات قومية صينية. أولاً، يرغب القادة الصينيون في ضمان وجود إنترنت متجانس. هذا يعني إنترنت يرشد الرأي العام، ويدعم الحكم الرشيد، ويعزز النمو الاقتصادي، لكنه مقيّد للغاية حتى يحدّ من التعبئة السياسية ويمنع تدفق المعلومات التي يمكن أن تقوّض النظام.

ثانيًا، ترغب الصين في تقليل اعتمادها على الموردين الأجانب للمعدات الرقمية وأجهزة الاتصالات. وهي تأمل في نهاية المطاف في قيادة العالم في التقنيات المتقدمة مثل الذكاء الصناعي والحوسبة الكميّة والروبوتات.

ثالثًا، يتزايد قلق صُناع القرار الصينيين، مثلهم في ذلك مثل نظرائهم حول العالم، من مخاطر الهجمات السيبرانية على الشبكات الحكومية والخاصة، ما قد يؤدي لتعطل خدمات حساسة، والإضرار بالنمو الاقتصادي، وحتى التسبب في دمار مادي. ولهذا، أعلن الجيش الصيني خططًا لتسريع تطوير قواته السيبرانية وتعزيز شبكات الصين الدفاعية. إن هذا التركيز على الأمن السيبراني يتشابك مع القومية التكنولوجية في الصين: يعتقد صُناع القرار الصينيون أن عليهم تقليل اعتماد الصين على شركات التقنية الأمريكية لضمان أمن بلادهم القومي، وهو اعتقاد ترسّخ عام 2013 عندما كشف إدوارد سنودن، وهو متعاقد سابق لدى وكالة الأمن القومي الأمريكية، أن أجهزة الاستخبارات الأمريكية اطّلعت على بيانات ملايين الناس الموجودة لدى الشركات الأمريكية.

أخيرًا، روّجت الصين لفكرة "السيادة السيبرانية" كمبدأ منظِم لحوكمة الإنترنت، وهو ما يتعارض مباشرة مع الدعم الأمريكية لمبدأ الإنترنت العالمي المفتوح. وحسب كلام الرئيس "شي"، فإن السيادة السيبرانية تمثل "حق كل دولة في أن تختار بصورة مستقلة مسارها الخاص في التطور السيبراني، ونموذج القوانين السيبرانية والسياسات العامة للإنترنت، والمشاركة في إدارة الفضاء السيبراني الدولي على قدم المساواة". ترغب الصين في رؤية شبكات إنترنت وطنية خاضعة لسيطرة حكومية تبررها الحقوق السيادية للدول. هي ترغب أيضًا في إضعاف نموذج الإنترنت الذي يُدار من القاع إلى القمة ويقوده القطاع الخاص، وهو نموذج تدعمه الولايات المتحدة وحلفاؤها، فيما تعتبره الصين خاضعًا لهيمنة شركات التقنية ومنظمات المجتمع المدني الغربية.

نهاية الإنترنت المفتوح

إن عهد الرئيس "شي" سيُتذكر لوضعه نهاية لتفاؤل الغرب الساذج بشأن القدرات التحريرية للإنترنت. على مدى السنوات الخمسة الماضية، شدّدت الصين سيطرتها على مواقع الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي. في مارس 2017، على سبيل المثال، أمرت الحكومة الصينية شركة "تين سينت"، ثاني أكبر عملاق تقني في الصين، وشركات تقنية صينية أخرى بإغلاق مواقع إنترنت تستضيفها تلك الشركات، تحتوي على نقاشات تخص التاريخ والشؤون الدولية وشؤون الجيش. بعد بضعة شهور، فرضت الصين غرامة على شركة "تين سينت" وشركة محرك البحث "بايدو" وموقع التدوين المصغّر "وايبو" لاستضافتهم محتوى محظور في الفترة التي سبقت المؤتمر التاسع عشر للحزب الشيوعي الصيني. كما أمر مسؤولون صينيون شركات الاتصالات لحظر الشبكات الخاصة الافتراضية VPNs)) والمستخدمة على نطاق واسع من جانب شركات ورواد أعمال وأكاديميين صينيين للالتفاف على الرقابة الحكومية. حتى الشركات الغربية امتثلت للأوامر: أزالت شركة "أبل" الشبكات الخاصة الافتراضية من النسخة الصينية من متجر أبل.

لقد أصبحت الرقابة الصينية الآن ماهرة في التحكم في المحادثات على وسائل التواصل الاجتماعي. في عام 2017، وبعد أن زاد مرض المعارض الصيني الحاصل على جائزة نوبل للسلام "ليو شياوبو"، كشفت الرقابة الصينية أنها قد تلغي صوره من الدردشات.

وبالإضافة إلى استخدام الرقابة والتجسس، أنشأت الصين شبكة معقدة من القوانين والقواعد التنظيمية والمعايير لزيادة الأمن السيبراني والاحتفاظ بالبيانات في الأنظمة الحكومية والخاصة. إذ فعّلت الحكومة إجراءات لحماية البنى التحتية المهمة للإنترنت، وأمرت بإجراء مراجعات أمنية للمنتجات والخدمات الشبكية، وألزمت الشركات بتخزين البيانات داخل الصين، حتى لا تواجه الحكومة صعوبة في الوصول إليها. كما أدخلت بكين أيضًا قواعد تنظيمية جديدة تتعلق بكيفية ردّ الوكالات الحكومية على حوادث الأمن السيبراني، وكيف ومتى تكشف الحكومة عن نقاط الضعف البرمجية للقطاع الخاص، وكيفية مشاركة الوزراء والشركات الخاصة للمعلومات بشأن التهديدات.

إن الوكالات المختلفة والحكومات المحلية قد تفسر هذه السياسات وتطبقها بطرق مختلفة، لكن على أقل تقدير، ستؤدي تلك القواعد المنظِمة لرفع كلفة وتعقيدات الاستثمار في الصين لشركات القنية المحلية والأجنبية. لقد كانت مشاريع اللوائح المنشورة في يوليو 2017 واسعة النطاق بوجه خاص، إذ نصت تلك اللوائح بأن "الهياكل الأساسية المعلوماتية المهمة" ستغطي ليس فقط الفئات التقليدية مثل شبكات الاتصالات والمال والطاقة، ولكنها ستغطي أيضًا وسائل الإعلام الإخبارية وشركات الرعاية الصحية ومزوّدي الحوسبة السحابية.

صنع في الصين

 يؤمن صناع القرار الصينيون أنه لو أرادت الصين أن تكون آمنة، فسيتعيّن عليها تحقيق الاكتفاء الذاتي التقني. ليس من المستغرب إذن أن يحتل العلوم والتقنية الصدارة في الخطة الخمسية التي أعلنت عنها الحكومة مؤخرًا، والتي بدأت في العام 2016. لقد زاد استثمار الصين في البحث والتطوير بمتوسط عشرين بالمائة سنويًا منذ عام 1999. تبلغ قيمة هذا الإنفاق حاليًا 233 مليار دولار، أو عشرون بالمائة من إجمالي الإنفاق العالمي على البحث والتطوير. كما أن عدد الطلاب الصينيين الحاصلين على درجات علمية في العلوم والهندسة يفوق ما يوجد في أي مكان آخر في العالم، وفي عام 2018، تفوقت الصين على الولايات المتحدة من حيث إجمالي عدد المنشورات العلمية.

هناك ثلاث تقنيات ستكون لها أهمية بالغة في قدرة الصين على تشكيل مستقبل الفضاء السيبراني: أشباه الموصلات والحوسبة الكميّة والذكاء الصناعي. لسنوات عديدة، حاولت الصين وفشلت في بناء صناعة محلية لإنتاج أشباه الموصلات، أي الدوائر المتكاملة (أو الرقائق الدقيقة) الموجودة في كل جهاز تكنولوجي تقريبًا. في عام 2016، استوردت الصين ما قيمته 228 مليار دولار من هذه الدوائر المتكاملة- أكثر مما أنفقته على النفط المستورد- ما يشكّل ما يزيد على تسعين بالمائة من استهلاكها، وفقًا لبيانات شركة "ماكينزي" للاستشارات. إن خطورة الاعتماد على المزوّدين الأمريكيين أثرت سلبيًا على الداخل الصيني في إبريل هذا العام، عندما فرضت إدارة ترامب عقوبات على شركة ZTE رابع أكبر شركة لإنتاج معدات الاتصالات في العالم. تعتمد تلك الشركة على مكوّنات مصنوعة في أمريكا، من بينها رقاقات دقيقة لتشغيل محطاتها اللاسلكية. عندما حرمت العقوبات تلك الشركة من إمداداتها، أوقفت الشركة عملياتها الرئيسية. في يوليو، ألغى ترامب العقوبات، لكن خطوته تلك لم تخفف من قلق الصين بشأن اعتمادها على مزوّدين أجانب. بعد وقت قصير من إعلان العقوبات، دعا الرئيس "شي" حشد أفضل العلماء الصينيين لتحقيق إنجازات في التقنيات الأساسية.

في عام 2015، وضعت الصين مبادئ توجيهية لجعل الشركات الصينية تنتج سبعين بالمائة من الرقاقات الدقيقة المستخدمة في الصناعة الصينية بحلول عام 2025. منذ ذلك الوقت، دعمت الحكومة الشركات المحلية والأجنبية التي تنقل عملياتها إلى الصين، وشجعت المستهلكين المحليين للشراء فقط من المورّدين الصينيين. لقد خصصت الحكومة 150 مليار دولار لتحسين قدرة الصين على تصنيع معالجات دقيقة متطورة. كما استحوذت الصين أيضًا على تقنيات في الخارج. وفقًا لشركة "روديوم جروب" للأبحاث، فقد أجرت الشركات الصينية بين عامي 2013 و2016 سبعة وعشرين محاولة لشراء شركات أمريكية متخصصة في صناعة أشباه الموصلات تبلغ قيمتها الإجمالية 37 مليار دولار أمريكي، مقارنة مع ست صفقات شراء قدرها 214 مليون دولار من عام 2000 إلى عام 2013. لكن تلك المحاولات اصطدمت بمشاكل: العديد من محاولات الشراء البارزة، من بينها عرض شراء قدره 1.3 مليار دولار لشركة Lattice Semiconducter وصفقة قدرها 2.4 مليار دولار لشراء شركة Fairchild Semiconductor، جرى منعها من جانب الحكومة الأمريكية لأسباب تتعلق بالأمن القومي.

ثم هناك الحوسبة الكميّة، والتي تستخدم قوانين ميكانيكا الكمّ- أي قدرة البتات الكميّة "qbits" لإجراء العديد من العمليات الحسابية في الوقت ذاته- لحل مشكلات محددة لا تستطيع الحواسيب العادية حلها. إن التقدم في هذا المجال قد يسمح لوكالات الاستخبارات الصينية بإنشاء اتصالات مؤمنة للغاية وبكسر معظم التشفير التقليدي. في عام 2016، أطلقت الصين أول قمر صناعي في العالم يمكنه الاتصال مستخدمًا قنوات مؤمّنة بتشفير كمي، وصنعت أطول كابل اتصالات كميّة في العالم، يربط بين بكين وشنغهاي.

لكن أكثر ما يقلق الغرب هو خطط الصين الطموحة في الذكاء الصناعي. خلال قمة للذكاء الصناعي في العام الماضي، قال "إيريك شميت"، الرئيس السابق لغوغل، إن الصينيين "سيتمكنون من اللحاق بالركب بحلول عام 2020. وبحلول عام 2025، سيكونون أفضل منا. وبحلول 2030، سيهيمنون على صناعة الذكاء الصناعي".

في عام 2017، وضعت الحكومة لنفسها خارطة طريق لتحويل الصين إلى "أبرز مركز إبداعي للذكاء الصناعي في العالم" بحلول عام 2030. إن هذه الخطة هي مجرد أمنية أكثر من كونها استراتيجية ملموسة، لكنها توفر توجيهًا للوزارات المركزية والحكومات المحلية بشأن طريقة الاستثمار لتحقيق إنجازات وذلك عبر تسليط الضوء على مجالات محددة للبحث والتطوير. لقد اختارت الحكومة الصينية شركات بايدو وتين سينت وشركة "علي بابا" عملاق التجارة الإليكترونية وشركة iFLYTEK المتخصصة في برامج التعرف على الصوت لتكون شركات وطنية رائدة في مجال الذكاء الصناعي وتطوير أنظمة يكون بمقدورها قيادة سيارات ذاتية القيادة، وتشخيص الأمراض، وإدارة المدن الذكية، وهي المساحات الحضرية التي تستخدم طيفًا واسعًا من المجسات لجمع بيانات بشأن طريقة حياة الناس ومن ثم تحليل تلك البيانات لتقليل التأثير البيئي للمدن، وتحفيز التطور الاقتصادي، وتحسين نوعية حياة الناس.

تسعى الصين أيضًا حثيثًا لتحديد المعايير الدولية للموجة المقبلة من الابتكار، لا سيما في تكنولوجيا الجيل الخامس لشبكات المحمول، أو جي 5، والتي ستوفر سرعات إنترنت أكبر لمستخدمي الهاتف المحمول، وستوفر استخدامات جديدة للأجهزة المتصلة بالإنترنت.

إدارة الإنترنت

تحت حكم الرئيس "شي"، حاولت الصين أيضًا تشكيل المؤسسات والمعايير الدولية التي تحكم الفضاء السيبراني. في الجزء الأكبر من العقد الماضي، وضع المقرصنون الصينيون بحكم الأمر الواقع تلك المعايير عبر انخراطهم في حملات تجسس إلكترونية مصممة لسرقة أسرار عسكرية وسياسية، والأسوأ من كل هذا بالنسبة للأمريكيين، سرقة أسرار صناعية. ضغطت إدارة أوباما على بكين بخصوص هذا الأمر، وذلك عبر نسب هذه الهجمات التي تستهدف الشركات الأمريكية علانية إلى قراصنة مدعومين من الدولة، مهددة بفرض عقوبات على مسؤولين كبار. في عام 2015، اتفق الطرفان على ألا يعمل أي طرف منهما على دعم السرقات الرقمية لكسب أفضلية تجارية. كما وقّعت الصين على اتفاقيات مماثلة مع كندا وألمانيا والمملكة المتحدة. وقد حدث انخفاض ملحوظ في تلك الأنشطة عقب توقيع تلك الاتفاقيات، لكن يبدو أن الانخفاض كان نتيجة لعملية إعادة تنظيم داخل الجيش الصيني أكثر من كونه نتيجة للجهود الدبلوماسية الأمريكية. والآن بعد تعزيز الجيش الصيني لسيطرته على قواته السيبرانية، تحوّلت مهمة التجسس الصناعي لقراصنة أكثر حرفية في وكالات الاستخبارات الصينية.
إن جهود الصين الأكثر بروزًا لكتابة قواعد الفضاء السيبراني تركّزت في الأمم المتحدة. لقد روّجت واشنطن وحلفاؤها لنموذج موزّع لإدارة الإنترنت يشمل كيانات تقنية والقطاع الخاص والمجتمع المدني والحكومات، بينما تفضل الصين نموذجًا يتمحور حول الدولة. في عام 2017، على سبيل المثال، دعت الصين إلى صياغة "نهج متعدد الأطراف لإدارة الفضاء السيبراني، تلعب فيه الأمم المتحدة دورًا قياديًا في بناء توافق دولي بشأن القواعد". تعتقد بكين أن تبنّي نهج متعدد الأطراف متمركز في الأمم المتحدة سيثمر عن فائدتين مباشرتين. هذا النهج سيعطي الأولوية لمصالح الدول على حساب مصالح شركات التقنية ومنظمات المتجتمع المدني. وسيسمح للصين بحشد أصوات الدول النامية، التي ترغب العديد منها أيضًا للسيطرة على الإنترنت والتدفق الحر للمعلومات.

قاومت الصين أيضًا جهودًا أمريكية لتطبيق القانون الدولي، لا سيما قوانين الصراع المسلح، على الفضاء السيبراني. هناك منتدى في الأمم المتحدة معروف باسم "مجموعة الخبراء الحكوميين"، وقد حدّد هذا المنتدى بعض قواعد السلوك للدول في سلسلة اجتماعات وتقارير من عام 2004 حتى عام 2017. وبالرغم من موافقة الدبلوماسيين الصينيين في تقرير عام 2013 على أن القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة ينطبق على الفضاء السيبراني، إلا أنهم تلكأوا في المناقشات الخاصة بكيفية تطبيق الحياد والتناسبية وحق الدفاع عن النفس ومفاهيم أخرى من القانون الدولي على الصراع في الفضاء السيبراني. وقد جادل الصينيون حينها بأن مناقشة القانون الدولي ستؤدي لعسكرة الفضاء السيبراني.

وبالإضافة إلى العمل عبر الأمم المتحدة، خلق صُناع القرار الصينيون منبرهم الخاص لاستعراض رؤيتهم الخاصة للإنترنت وتعزيز مكانتهم في إدارته: مؤتمر الإنترنت العالمي، المنعقد سنويًا في مدينة "وزين". في عام 2017، حضر كل من "تيم كوك" الرئيس التنفيذي لشركة أبل و "سوندار بيتشاي" الرئيس التنفيذي لشركة غوغل المؤتمر لأول مرة. قال "كوك"، وهو مدافع قوي عن الخصوصية وحرية التعبير في بلده أمريكا، إن شركة أبل تشارك رؤية الصين "لتطوير اقتصاد رقمي هدفه الانفتاح والمنافع المشتركة". إن ترديد "كوك" لخطاب المسؤولين الصينيين عن الانفتاح رغم القيود الشديدة على الإنترنت في الصين، يشير إلى استعداد شركة أبل للعب وفقًا لقواعد بكين.  
 
إن تأثير بكين الأكبر على إدارة الإنترنت العالمي ربما سيكون عبر سياستها التجارية والاستثمارية، لا سيما مبادرة الحزام والطريق، وهي مشروع هائل لبناء بنى تحتية تربط الصين بالمحيط الهندي والخليج الفارسي وأوروبا. فبالإضافة إلى ما يزيد على خمسين مليار دولار ذهبت لبناء السكك الحديدية والطرق والأنابيب والموانئ والمناجم والمرافق على طول الطريق، شدّد مسؤولون على الحاجة لأن تبني الشركات الصينية "طريق حرير رقمي": كابلات ألياف ضوئية وشبكات هاتف محمول ومحطات إعادة البث للأقمار الصناعية، ومراكز بيانات، ومدن صناعية.

إن معظم الأنشطة على طول طريق الحرير الرقمي الناشئ، أتت من شركات تقنية وتحالفات صناعية، وليس من الحكومة الصينية. إذ أطّرت شركة "علي بابا" توسُّعها في جنوب شرق آسيا كجزء من مبادرة الحزام والطريق. لقد استحوذت هذه الشركة على شركة التجارة الإلكترونية الباكستانية "داراز" وأطلقت منطقة تجارة حرة رقمية بدعم من الحكومتين الماليزية والتايلاندية، والتي ستسهّل عمليات الفحص الجمركي، وتدعم صادرات الشركات الصغيرة والمتوسطة الحجم الماليزية والتايلاندية للصين. تعمل شركة ZTE الصينية الآن فيما يزيد على خمسين من أصل أربعة وستين بلدًا تقع على طول طريق مشروع الحزام والطريق. وبالإضافة إلى تمديد كابلات ألياف ضوئية وإنشاء شبكات هاتف محمول، عملت تلك الشركة على توفير خدمات المراقبة ورسم الخرائط والتخزين السحابي وتحليل البيانات لمدن في إثيوبيا ونيجيريا ولاوس وسريلانكا والسودان وتركيا.

تأمل الحكومة الصينية في أن تمنحها تلك المشاريع التجارية نفوذًا سياسيًّا في عموم المنطقة. لكن الشركات الخاصة تركز على جني الأرباح، ولم تنجح بكين دائمًا في تحويل العلاقات التجارية إلى تأثير سياسي، حتى عندما كانت تلك المشاريع تتم بمشاركة شركات حكومية صينية، نظرًا لأن تلك الشركات أيضًا تسعى لتحقيق مصالح تجارية تتعارض مع الأهداف السياسية. مع ذلك، على المدى القصير، سيؤدي وجود مهندسين ومديرين ودبلوماسيين صينيين، لتعزيز الميل وسط الدول النامية، لا سيما تلك التي تحكمها أنظمة متسلطة، لتبنّي مفهوم الصين المنغلق للإنترنت.
 
المستقبل صيني

إن رؤية الصين للإنترنت هي في حالة صعود. وفقًا لمؤسسة "فريدوم هاوس"، فقد تراجعت حرية الإنترنت – وهي سهولة وصول الناس للإنترنت واستخدامهم له للتعبير عن رأيهم – خلال السنوات السبع الماضية. هناك المزيد من الدول التي تضغط على الشركات لتخزين بيانات مواطنيها داخل حدودها، والسماح للحكومات بإجراء مراجعات أمنية لمعداتها الشبكية. تتبع كل دولة هذه السياسات لتحقيق غاياتها الخاصة، لكن بإمكان كل هذه الدول اللجوء للصين للحصول على دعم مادي وفني وسياسي.

إن موقع الولايات المتحدة في قلب الإنترنت العالمي، منحها منافع اقتصادية وعسكرية واستخبارتية كبيرة. لقد طوّرت الشركات الأمريكية أجهزة الراوتر والخوادم التي تحمل بيانات العالم، والهواتف والحواسيب الشخصية التي يستخدمها الناس للتواصل، والبرامج التي تعتبر بوابة عبور للإنترنت. وعلى نحو مماثل، يرى الحزب الشيوعي الصيني التكنولوجيا باعتبارها مصدرًا للديناميكية الاقتصادية والقوة الناعمة. ولهذا يزيد الحزب الشيوعي من سيطرته السياسية على شركات التقنية الصينية العملاقة. وبما أن هذه الشركات توفر المزيد من البنى التحتية الرقمية العالمية، ستشعر أجهزة التجسس الصينية بالإغراء لجمع البيانات منها.

تملك شركات التقنية الصينية العديد من المزايا: الوصول للكثير من البيانات مع وجود قيود قليلة حول طريقة استخدامها، وعمالة موهوبة، ودعم حكومي. لكن إرث الدولة الصينية المتمثل في التخطيط المركزي قد يدفع الشركات للمبالغة في الاستثمار وبناء عمليات زائدة عن الحاجة وخنق الإبداع لدي موظفيها. هذا وقد أصبحت شركات التقنية الصينية هدفًا للضغط السياسي في أستراليا والولايات المتحدة وأوروبا. تفكر الحكومة الأسترالية في منع شركة "هواوي" من توريد معدات للجيل الخامس من شبكات الهاتف المحمول. كما تعمل واشنطن لتقييد الاستثمارات الصينية في شركات التقنية الأمريكية، وجعلت من الصعب على شركات الاتصالات الصينية إجراء أعمال تجارية في الولايات المتحدة: منعت الولايات المتحدة شركة China Mobile من تزويد خدمات اتصال في الولايات المتحدة، ومنعت بيع هواتف ذكية من إنتاج شركتي هواوي و ZTE داخل القواعد العسكرية الأمريكية، وسعت لمنع شركات الاتصالات الأمريكية من إنفاق أموال صناديق مهمة للبنى التحتية على معدات وخدمات قادمة من الصين.

لكن من غير المرجح أن يؤدي أي من تلك التحديات لتوجيه ضربة قاتلة لطموحات الصين الرقمية. فالصين بلد شاسع وقوي ومتطور للغاية. ولمواجهة سيطرة صينية أكبر على الإنترنت، ينبغي على الولايات المتحدة العمل مع حلفائها وشركائها التجاريين للضغط على الصين لفتح السوق الصينية للشركات الأجنبية، والحدّ من معاملتها التفضيلية للشركات الصينية، وتوفير حماية أفضل للملكية الفكرية للشركات الأجنبية. ينبغي على صُنّاع القرار الأمريكيين التحوّل من مجرد الدفاع عن نموذج إدارة الإنترنت المصمم من أعلى إلى أسفل والذي يقوده القطاع الخاص، إلى تقديم رؤية إيجابية توفر بدائل واقعية للدول النامية. كما ينبغي على واشنطن التحدث مباشرة مع الصين بشأن معايير سلوك الدول في التعامل مع الفضاء السيبراني. ينبغي على البلدين العمل سويًّا لوضع معايير عالمية لعمليات الشراء الحكومية للتكنولوجيا، وتحديد كيفية تأمين الشركات لسلسلة إمدادتها ضد الهجمات السيبرانية، وتخطيط عمليات التفتيش الحكومية لمعدات الاتصالات المهمة، غير أن هذه الجهود ستعمل فقط على تشكيل الاتجاهات، وليس لعكسها. مهما فعلت واشنطن، فإن مستقبل الفضاء السيبراني سيكون ذا طابع أمريكي أقل، وطابع صيني أكبر.  

للإطلاع على الموضوع الأصلي .. اضغط هنا

ربما يعجبك أيضا