ناشيونال إنترست| بين اليسار واليمين.. تعرف على مسارات الاقتصاد السياسي للصين بعد أربعين عاماً من الإصلاح؟

ترجمات رؤية

ترجمة بواسطة – شهاب ممدوح

يصادف العام 2018 الذكرى الأربعين لتدشين عملية "الإصلاح والانفتاح" في الصين، ففي العقود الأربعة الماضية، مرّ برنامج الإصلاح الاقتصادي الصيني بأيام يُسر وأيام عُسر؛ فيما شهدت الدولة موجتين من التحرر، كل واحدة منهما تبعتها حالة من التقشف.

استمرت الموجة الأولى من الإصلاح من عام 1978 حتى 1989، واتسمت بإجراء إصلاحات زراعية وإعادة إحياء القطاع الخاص، فيما كانت المرحلة الأولى من التقشف منذ عام 1989 حتى 1992، واتسمت بحدوث تحوّل أيديولوجي نحو اليسار وفرض قيود على القطاع الخاص.

أما الموجة الثانية من الإصلاح فقد استمرت من عام 1992 حتى 2012؛ وقد اتسمت بإضفاء الطابع القانوني على اقتصاد السوق، وانضمام الصين لمنظمة التجارة العالمية، وازدهار القطاع الخاص، وجادل الكثيرون بأنه منذ عام 2012 تمر الصين بموجة أخرى من التقشف.
وتتميز هذه الموجة بحدوث تحوّل نحو اليسار في المجال الأيديولوجي، وإطلاق حملة لمكافحة الفساد، وتعزيز قيادة الحزب الشيوعي، والنهوض بالأمة الصينية، وتقليص القطاع الخاص.

السؤال الآن هو: هل ستواصل الصين تقشفها؟
الإجابة هي لا. فمن المرجح أن تعود الدولة لمسار الإصلاح في السنة أو السنتين المقبلتين.

 رسم "دينغ شياو بينغ" حدود النقاشات الأيديولوجية أثناء فترة الإصلاح والانفتاح الصيني في عام 1986. فمن جهة، قرر "دينغ" التخفيف من حدّة الترويج البارز للمُثل الشيوعية. وعوضًا عن ذلك، شدّد على أن إنجاز تلك المُثل الشيوعية سيتطلب مجهودًا يستمر لعقود لتحقيقها.

والشيء الأكثر أهمية هو التركيز على الاقتصاد بدلاً من الشيوعية في الوقت الراهن. ومن جهة أخرى، أصرّ "دينغ" على أن الحزب الشيوعي الصيني سيواصل معارضة التحرر البرجوازي لثلاثين سنة أخرى على أقل تقدير.

بعد عام 1986، انقسمت حدود النقاشات الأيديولوجية في الصين إلى معسكرين واضحين، أحدهما على اليمين والآخر على اليسار؛ ففي الوقت الذي أراد اليمينيون تشجيع اقتصاد السوق والقطاع الخاص، أصرّ اليساريون على قيادة الحزب الشيوعي الصيني.

منذ عام 2012، أكّدت القيادة الصينية الجديدة مرارًا وتكرارًا على أهمية ألا ينسى الحزب الشيوعي الصيني تفويضه الأصلي. لقد استيقظت المثالية الشيوعية من سباتها، وذلك بعد حملة ترويج بارزة ومتواصلة لصالحها. في الوقت ذاته، عملت القيادة الحالية أيضًا على تقييد المجال السياسي المفتوح لليبراليين في الصين. وبهذا تجاوزت القيادة الحالية الخط اليساري الفاصل الذي وضعه "دينغ" في المشهد الأيديولوجي للصين.

الأمر الأكيد هو أن خطاب الإدارة الحالية لا يتمحور بالكامل حول المُثل الشيوعية؛ فيما أصدرت الجلسة العامة للجنة المركزية للحزب الشيوعي قرارين في عامي 2013 و2014. أكّد القرار الأول على أهمية تعزيز اقتصاد السوق في الصين، بينما شدّد القرار الثاني على أهمية تشجيع حكم القانون وحكم الدستور في الصين. لقد تجاوز هذان القراران الخط اليميني الفاصل الذي وضعه "دينغ" في المشهد الأيديولوجي الصيني.

بالمقارنة مع "دينغ"، أولى الرئيس الحالي "شي جين بينغ" مزيدًا من الاهتمام لتعزيز القطاع الخاص، وبالمثل، وقبل مجيء القيادة الحالية، نادرًا ما أصدر الحزب الشيوعي الصيني أي تعليمات لتشجيع المبادئ الدستورية قبل عام 2014.

وقد أكّدت إدارة الرئيس "شي" دومًا على أهمية تشجيع إجراء مراجعة دستورية وتحت حكم الرئيس "شي"، بات يتعيّن على مسؤولي الحكومة الرفيعين أداء القَسَم على احترام دستور جمهورية الصين الشعبية قبل توليهم مناصبهم. ومن الناحية العملية، انتقلت الصين ناحية اليسار خلال السنتين أو الثلاث سنوات الماضية.

واليوم، يقارن بعض الناس في الصين مازحين بين حال بلدهم وحال سيارة. فتحت حكم "دينغ"، أضاءت الصين مصباح السيارة الموجود على اليسار، لكنها انعطفت يمينًا. ومباشرة بعد اجتماع الجلسة العامة للجنة المركزية في عام 2013، أضاءت الصين مصباح السيارة الموجود على الجهة اليمنى، لكنها انعطفت يسارًا. اليوم، تضيء الصين مصباحَيها على يمين ويسار السيارة في الوقت ذاته.

حملة مكافحة الفساد.. ضرورة حتمية  
لقد أدّى الإصلاح والانفتاح الذي قاده "دينغ" لحدوث نمو اقتصادي، لكنه تسبب أيضًا في الكثير من المشاكل. أولها كان عدم المساواة في الدخل، وثانيها استشراء الفساد.

حيث واجهت إدارة "هو-وين" مشكلة انعدام المساواة في الدخل عبر بناء نظام ضمان اجتماعي وإلغاء الضرائب الزراعية. تحاول الصين تحت حكم "شي" الآن التعامل مع مشكلة الفساد، والانتقال نحو اليسار سيساعدها في هذه المهمة.

إن إجراءات مكافحة الفساد ضرورية. فتاريخيًا، انهار نحو أربعين بالمائة من السلالات الصينية الحاكمة بسبب ثورات شعبية، فيما انهار أربعون بالمائة من تلك السلالات بسبب ثورة النخب، وانهارت العشرين بالمائة المتبقية منها بسبب الغزو الأجنبي.

في عام 2012، وصلت الكراهية تجاه المسؤولين الحكوميين الفاسدين والأثرياء لمستويات خطيرة، فأي شرارة في ذلك الوقت كان يمكن أن تؤدي لاشتعال الوضع، وارتفعت نسبة احتمالية حدوث ثورة شعبية، وهو ما هدد استقرار النظام، في الوقت الذي كان من الممكن لحملة مكافحة الفساد، أن تخفف خطورة اندلاع ثورة شعبية على المدى القصير.

الآثار الجانبية لحملة مكافحة الفساد  
بالرغم من ضرورة حملة مكافحة الفساد، غير أنه نتج عنها أثران سلبيان:
أولاً، زاد ثمن الحرية في الصين اليوم، فقد تعهّدت قيادة الحزب الشيوعي الصيني بإجراء إصلاح وانفتاح، لكن ذلك كان فقط الاتجاه العام. أما على أرض الواقع، فإن النجاحات في مجال التحرر الاقتصادي تطلبت العديد من الصفقات المشبوهة من تحت الطاولة.

إن الرشوة هي الفدية التي يدفعها الناس مقابل حريتهم. علاوة على ذلك، فإن رأس المال يشتري غالبا الحماية السياسية والامتيازات الخاصة وذلك عبر الرشاوى. هذه المعاملات خلقت حالة كراهية ضد مسؤولي الحكومة الفاسدين وضد الأثرياء.

ولهذا، فإن حملة مكافحة الفساد ساعدت في تقليل غضب الناس تجاه مسؤولي الحكومة والرأسماليين. لكنها زادت أيضًا من ثمن الحرية الاقتصادية في الصين، وقد أثّر هذا سلبيًا على النمو الاقتصادي.

علاوة على ذلك، شجّعت حملة مكافحة الفساد مسؤولي الحكومة على إهمال واجباتهم. ففي الصين، يُعدّ المسؤولون الحكوميون المحليون رواد أعمال، فهم يبيعون الحرية الاقتصادية مقابل عوائد ضريبية ونمو الناتج القومي المحلي.

باختصار، هناك تأثير سلبي مهم لحملة مكافحة الفساد، يتمثل في أن الطرفين الأكثر أهمية في الاقتصاد الصيني، رواد الأعمال والمسؤولين الحكوميين المحليين، باتوا يعيشون حالة خوف.

ثانيًا، إن احتمال اندلاع ثورة نخبوية قد زاد الآن؛ وفي التاريخ الصيني، تعدّ احتمالات اندلاع ثورة شعبية وثورة نخبوية مرتفعة بنسبة أربعين بالمائة لكلا الاحتمالين. ومنذ عام 1949، كان هناك أيضًا عدد غير قليل من الثورات النخبوية طمعًا في القيادة، وقد نجحت ثلاث منها على أقل تقدير.

إن حملة مكافحة الفساد اليوم هي أشبه بحركة سياسية؛ فهي واسعة النطاق وفعّالة، لكنها لا تحترم دومًا حكم القانون، ومنذ عام 2012، استهدفت تلك الحملة ما يزيد على أربعمائة مسؤول حكومي رفيع.
 
إن طبقة الكوادر في الصين هي عبارة عن مجموعة مصالح ضخمة استفادت كثيرًا من النمو الاقتصادي؛ بيد أن هذه الكوادر صارت الآن في وضع خطير، وهذا قد يجعلهم أكثر اهتمامًا بفكرة وجود نظام دستوري وحكم قانون وضوابط وموازين في الصين.

علاوة على ذلك، أدّت حملة مكافحة الفساد لتقويض القيادة الجماعية في الحزب الشيوعي الصيني. إن الرئيس "شي" مسؤول نزيه، لكن العديد من الأشخاص في المستويات العليا للحزب الشيوعي لديهم مشاكل، وتشير دروس التاريخ إلى أن هذا الوضع قد يمنح القائد الأعلى نفوذًا للهيمنة على النخب الأخرى وابتزازها.

العلاقات الصينية – الأمريكية وحرب ترامب التجارية والضغط على النظام الصيني  
بالنسبة للصين، تتسم العلاقات الصينية – الأمريكية بالازدواجية، فمن ناحية، هناك حاجة للتعاون مع الولايات المتحدة، وهو أمر مهم لتطوير اقتصاد السوق الصيني. ومن ناحية أخرى، هناك مقاومة، تفرضها حاجة الصين للدفاع عن نظامها السياسي وقيادة الحزب الشيوعي الصيني. فالنظام السياسي الغربي يعدّ جذابًا جدا للكثيرين في الصين، وبالتالي فهو يمثل خطرًا شديدًا للغاية على نظام الحزب الواحد في الصين. لهذا، يقوم الحزب الشيوعي الصيني بتشويه سمعة الغرب. هذا هو السياق الأوسع الذي يكمن خلف الحرب التجارية الراهنة والاختلافات الصينية – الأمريكية بشكل أعمّ.

علاوة على ذلك، فإن أثمان عوامل الإنتاج، مثل العمال والأراضي، ارتفعت كثيرًا في السنوات الماضية، فقد اقتربت التكلفة الإجمالية لإدارة عمل في الصين من مستوى نظيرتها في الولايات المتحدة، وللحفاظ على تنافسية الصين، بات من الضروري تقليل تكاليف المعاملات السياسية التي تواجه الأعمال التجارية الصينية، وذلك عبر انتهاج سياسات مثل تقليل المخاطر السياسية والاحتكارات. وبعبارة أخرى، لكي يستمر الاقتصاد الصيني في التوسّع، من المهم إجراء إصلاح مؤسساتي.

إن الحرب التجارية التي أطلقها دونالد ترامب، خلقت ضغطَا إضافيًا على نظام الاقتصاد السياسي في الصين، فيما تطالب الولايات المتحدة بوجود تجارة أكثر عدلاً مع الصين، مستهدفة بصورة رئيسية الاحتكارات والامتيازات الخاصة التي تتمتع بها الشركات الصينية المملوكة للدولة. وبهذا المعنى، تمارس هذه الحرب التجارية أكبر ضغط على القطاع العام الصيني والدولة الصينية التي تسعى لتعزيز وضع الشركات المملوكة للدولة.

لقد أفادت هذه الحرب التجارية القطاع الخاص الصيني وأضرّته في الوقت ذاته، فقد ألحقت الرسوم الجمركية الأذى بالقطاع الخاص، ومع ذلك، استفاد القطاع الخاص لأن الدولة اضطرت لتقليل الضرائب، وتطبيق سياسيات تحابي القطاع الخاص، وتلاعبت بالنقاش الأيديولوجي من أجل الحفاظ على النمو الاقتصادي.

باختصار، خلقت الحرب التجارية ضغطًا إضافيًا على الصين للعودة إلى سياسات "دينغ" وخطه السياسي، والعمل على تحقيق انفتاح سياسي لإعادة ثقة رؤوس الأموال المحلية والدولية في الصين، ولو كان هذه هو الحال، فإن رواد الأعمال والمستهلكين في الصين ربما يصبحون أكبر المستفيدين من حرب ترامب التجارية.

هل هى نهاية التقشف؟  
هناك ثلاث طرق يمكن أن تضع نهاية لموجة التقشف الثانية، وتدفع الصين للعودة إلى مسار الإصلاح والتحرر:
أولاً، احتمال إجراء القيادة العليا عددًا من التعديلات على نحو استباقي. في الواقع، فإن العودة إلى سياسيات "دينغ" وخطه السياسي، سيفيد الجميع. بالتالي، فإن هذا هو الإجراء العقلاني الذي ينبغي أن يفعله الحزب الشيوعي الصيني، وبهذا من المرجّح أن تنتهي الموجة الثانية من التقشف.

بالطبع، يظن بعض الناس أن القادة غالبًا ما يكونون غير عقلانيين، لا سيما القادة المستبدين الذين يفضلون الاستماع للأخبار السارة وليس الأخبار السيئة. مع ذلك، فيما يتعلق بالصين، نحن نعرف أنه حتى أكثر نخب الحزب الشيوعي محافظة لديهم ازدواجية ويعتنقون أفكار كلٍّ من "ماو" و "دينغ" في الوقت ذاته. ولهذا، هناك أيضًا أساس عاطفي للعودة لسياسات "دينغ"، لهذا ليس من الضروري الاعتماد حصريًا على حسابات سياسية عقلانية.

ثانيًا، يمكن لثورة النخبة أيضًا أن تؤدي لحدوث تعديلات، وهناك حالات ناجحة لهذا في تاريخ الاتحاد السوفيتي وجمهورية الصين الشعبية.

ثالثًا: ربما يعوّل الناس على مرور الوقت وانتظار تغيّر الأمور. فلا أحد بمقدوره الاحتفاظ بالسلطة للأبد.

لقد رأينا بالفعل إشارات على حدوث تعديلات في مجال السياسات، فعلى سبيل المثال، لم تعد وسائل الإعلام الصينية تتحدث اليوم عن الحرب التجارية، وفي التقارير الإعلامية، جرى استبدال مصطلح "الحرب التجارية" بمصطلح "الخلاف التجاري"، كما أن نبرة المواجهة خفّت حدّتها.

كما أدلى الرئيس "شي" أيضًا بسلسلة من الأحاديث في الأسابيع القليلة الماضية، أكّد فيها مرارًا وتكرارًا على أهمية تعزيز القطاع الخاص، ونظرًا إلى الضغوط الداخلية والخارجية، فقد بدأت إدارة الصين الحالية بالفعل في إجراء تعديلات، ومن المتوقع إجراء المزيد منها في المستقبل.  

للإطلاع على الموضوع الأصلي .. اضغط هنا

ربما يعجبك أيضا