الجارديان | جاسوسية المؤتمرات.. كيف تقوم الاستخبارات الأمريكية بتجنيد الأكاديميين؟

ترجمات رؤية

ترجمة بواسطة – بسام عباس

طرق ضابط وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية بهدوء على باب إحدى غرف الفندق. فبعد الخطب الرئيسية وحلقات النقاش والعشاء، خلد المشاركون في المؤتمر إلى النوم. وأظهرت المراقبة الصوتية والبصرية للغرفة أن مرافقي العالم النووي من الحرس الثوري الإسلامي كانوا نائمين، إلا أنه كان لا يزال مستيقظًا. ومن المؤكد أنه هو من فتح الباب وحده.`

وفقًا لشخص مطلع على هذا اللقاء، الذي وقع قبل حوالي عشر سنوات، كانت وكالة الاستخبارات تعد له منذ شهور. وذلك من خلال جهة عمل، موَّلت ونظَّمت المؤتمر في أحد مراكز البحث العلمي خارج البلاد،ودعت ضيوفًا ومتحدثين، ثم زرعت عملاءها بين العاملين في المطابخ وأطقم الخدمات الأخرى؛ من أجل اصطياد الخبير النووي الإيراني واستدراجه لدقائق قليلة – بعيدًا عن حراسه – من أجل تقديم عرضهم له وجهًا لوجه. ولكن تلك الخطة التي كادت تفسد بعد مفاجأة غير متوقعة: عندما قرر العالِم تغيير الفندق الذي رشحه له المؤتمر؛ لأن كلفته كانت 75 دولارًا، وهي أعلى من الميزانية التي خصصها رؤساؤه في إيران.

ومن أجل إظهار حُسن النية، وضع العميل الاستخباراتي يده على قلبه، وألقى التحية بالفارسية على الخبير النووي، قائلًا: "سلام حبيبي"، مضيفًا: "أنا من (سي آي إيه) وأريدك أن تستقل الطائرة معي إلى الولايات المتحدة". ارتسم مزيج من  الصدمة والخوف والفضول على وجه الإيراني، وكان العميل يعرف من تجاربه السابقة آلاف الأسئلة التي قد تدور في رأسه، مثل: ماذا عن عائلتي؟ كيف ستحمونني؟ أين سأعيش؟ كيف سأعيش؟ كيف سأحصل على الفيزا؟ هل هناك وقت لأحزم أمتعتي؟ ماذا سيحدث إن قلت لا؟ وعندما هم الخبير النووي بطرح أحد هذه الأسئلة، قاطعه العميل قائلًا: "أولًا، أحضر دلو الثلج هذا"،
"لماذا؟"  
أجاب: "إذا استيقظ أحد حراسك، فيمكنك إخبارهم أنك بأنك ستجلب بعض الثلج".

في أحد أجرأ وأدق عملياتها داخل المجتمع الأكاديمي؛ أنفقت وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية ملايين الدولارات سرًّا من أجل إعداد مؤتمرات علمية في جميع أنحاء العالم، كان الهدف منها إغراء العلماء النوويين الإيرانيين خارج وطنهم وفي بيئة يسهل الوصول إليها، حيث يمكن لعملائها الاستخباراتيين التواصل معهم على انفراد؛ ليضغطوا عليهم حتى ينشقوا. وبعبارة أخرى، استغلت الوكالة التعاون الدولي في المجال الأكاديمي، وقامت بتضليل المؤسسات التي استضافت هذه المؤتمرات، والعلماء الحاضرين؛ من أجل تعطيل تطور البرنامج النووي الإيراني؛ إذ لم يكن هؤلاء العلماء على علم بأنهم جزء من مسلسل يحاكي الواقع، يُدار من بعيد. وسواء كان مبرر الأمن القومي الأمريكي سببًا كافيًا لتضليل هؤلاء العلماء أم لا، فإن أغلب هؤلاء العلماء ما كانوا ليقبلوا– على الأرجح– بأن يكونوا جزءًا من خطة وكالة الاستخبارات المركزية المضللة.

ذلك أن المؤتمرات العلمية مهيأة للأعمال الجاسوسية أكثر من أية ساحة أكاديمية أخرى، خاصة بعد انتشارها في كل مكان بسبب العولمة. ولأنها تقام كلما كانت الظروف مناسبة، وتجذب جمعًا نخبويًا، وتستعيض عن الجوائز بالمكانة المرموقة التي تمنحها؛ إذ لا تغني محادثات العلماء الإلكترونية عن مقابلة زملائهم، والتعارف الوظيفي، ومعرفة أحدث الأدوات، وعرض أبحاثهم التي تُجمع في النهاية ضمن نتائج المؤتمر.

فجاذبية المؤتمرات تكمن في أنها: "طريقة لتحويل العمل إلى لعب، والجمع بين المهنية مع السياحة، وكل ذلك على نفقة غيرهم.. اكتب ورقة وشاهد العالم!"، كما يصفها الروائي الإنجليزي "ديفيد لودج" في روايته (عالم صغير)، التي تحاكي رواية (1984) بالنسبة للمجتمع الأكاديمي.  

قد لا تقاس أهمية المؤتمر بعدد الفائزين بجوائز نوبل أو عمداء أكسفورد الذين اجتذبهم فقط، بل بعدد الجواسيس أيضًا؛ إذ تعد المؤتمرات أرضًا خصبة للتجنيد، فمثلما تستهدف الجيوش المناطق الفقيرة بحثًا عن المجندين، ينتشر ضباط الاستخبارات الأمريكية والغربية في المؤتمرات العلمية، فقد تضم الجامعة الواحدة أستاذًا أو اثنين لتجنيدهم، لكن مؤتمرًا عن الطائرات الآلية أو عن داعش، يمكن أن يضم العشرات منهم.

وقال أحد عملاء وكالة الاستخبارات الأمريكية السابقين: "إن كل الوكالات الاستخباراتية في العالم تقيم مؤتمرات وترعاها، وتبحث عن طرق تجذب بها الناس".

بينما يقول "مارك جاليوتي"، أحد كبار الباحثين بمعهد العلاقات الدولية في براج، والمستشار الخاص السابق في وزارة الخارجية البريطانية، إن: "التجنيد هو عملية إغراء مطولة.. المرحلة الأولى هي الترتيب لتكون في ورشة عمل مشتركة مع العالم المستهدَف؛ حتى إن تبادلتم حديثًا مصغرًا، فيمكنك أن تسأله في المرة التي تليها: "هل قابلتك في إسطنبول؟".

فيما أكد مكتب التحقيقات الفيدرالي "إف بي آي"، على الأكاديميين الأمريكيين في 2011 بتوخي الحذر بشأن المؤتمرات، وذكر سيناريو يقول: "تتلقى الباحثة دعوة لم تسع إليها من مؤتمر دولي لتقديم ورقة بحثية، فتقدمها ويقبلها المؤتمر. وفي المؤتمر، يطلب منها المضيف نسخة من بحثها، ثم يوصل ذاكرة فلاش بحاسبها المحمول ليحصل على كل الملفات والبيانات الموجودة به دون علمها".

وينتشر أيضًا عملاء "إف بي آي" و"سي آي إيه" في المؤتمرات العلمية بكثافة، إذ يقول أحد العملاء السابقين في "إف بي آي" عن اللقاءات التي تقام في الولايات المتحدة: "يحاول ضباط الاستخبارات الأجنبية تجنيد الأمريكيين، ونحاول نحن تجنيد مواطنيهم". أما "سي آي إيه"، فتستغل المؤتمرات بأكثر من طريقة، فهي ترسل ضباطها إليها، وتستضيفها عن طريق شركات وهمية في واشنطن، كي يتمكن المجتمع الاستخباراتي من الاستفادة من الحكمة الأكاديمية، وتنظم مؤتمرات وهمية حتى تصل إلى من يُحتمل انشقاقهم عن الأنظمة المعادية للولايات المتحدة.

تراقب وكالة "سي آي إيه" المؤتمرات العالمية التي تقام حول العالم أيضًا، وتحدد من قد يكون ذا فائدة لها، فإن أقيم مؤتمر دولي في باكستان حول تقنيات الطرد المركزي، سترسل الوكالة عميلها المتخفي، أو تجند أستاذًا جامعيًا كان سيذهب بالفعل ليعلمها بما فيه، فإن عرفت أن عالمًا نوويًا إيرانيًا قد حضر المؤتمر، فقد تضعه ضمن احتمالات التجنيد في مؤتمر العام التالي.

ومن الممكن أن تؤثر المعلومات المستمدة من المؤتمرات العلمية على سياسة الدولة؛ إذ سبق وأن ساهمت تلك المعلومات من قبل في إقناع "جورج بوش" وإدارته بأن "صدام حسين" ما زال يطور أسلحة دمار شامل في العراق، الأمر الذي اتضح فيما بعد أنه غير صحيح. ويقول ضابط استخبارات أمريكي سابق، "جون كرياكو"، في مذكراته المنشورة عام 2009: "لاحظ جواسيسنا ومخبرونا تواجد العلماء العراقيين المتخصصون في الكيمياء والأحياء في المؤتمرات الدولية، بينما يتواجد علماء النووي بدرجة أقل. وقدموا الأبحاث، واستمعوا لما قدمه الآخرون، ودونوا ملاحظاتهم بكثرة، ثم عادوا بعدها للأردن حيث يمكنهم العودة إلى العراق برًا".

من الممكن أن يكون بعض هؤلاء الجواسيس قد استخلصوا استنتاجات خاطئة، بسبب افتقارهم لدرجات علمية في الكيمياء أو الأحياء أو الطاقة النووية، فبدون هذه الخبرة، ربما أساءوا فهم المواد المطروحة، أو أن تخفيهم قد كُشف.

ووفقًا لحديث "جين كويل"، الذي عمل لدى "سي آي إيه" من عام 1976 إلى عام 2006، فإن "مؤتمرات الوكالة الدولية للطاقة الذرية في فيينا والتي تدور حول موضوعات مثل الهيدرولوجيا النظرية والطاقة الانصهارية، تعج ساحاتها بضباط الاستخبارات الذين قد يفوق عددهم عدد العلماء الحقيقين"، ويضيف كويل: "هناك مشكلة بسيطة، إن كنت سترسل أحد رجال الاستخبارات إلى مؤتمر كهذا، فعليه أن يتحدث نفس حديثهم، فلا يمكن مثلًا أن ترسل متخصصًا في التاريخ. ربما يقول أحدهم إنه يحوز دكتوراه في فيزياء البلازما، لكن في عالم صغير كهذا إن قلت إنك من معهد "فيرمي" في شيكاجو، فقد يسألك أحدهم إن كنت تعرف "بوب أو فريد أو سوزي".

وبدلًا عن ذلك يجب على الوكالة أن تجند أساتذة مناسبين من خلال قسم الموارد القومية فيها، بحسب ما يقترح كويل. إذ يعد ذلك القسم الجانب المحلي من عملها السري، ويرتبط بعلاقة عمل مع العديد من العلماء. ويضيف كويل: "إن علموا بمؤتمر في فيينا، فقد يخبروا الأستاذ الجامعي "سميث" بأن حضوره سيبدو طبيعيًا. ليرد عليهم بأنه سيحضر بالفعل، وسيعلمهم بمن تحدث معه، وإن قابل إيرانيًا فلن يذهب بعيدًا عنه". أما إن قال إنه يرغب بالحضور، لكن جامعته لا تستطيع تحمل تكلفة سفره، فقد تقترح الوكالة توفير تذكرته من الفئة الاقتصادية.
ويشرح أحد رجال الاستخبارات الأمريكية السابقين– من الممكن أن نطلق عليه اسم "آر"- طريقة تجنيد العلماء، فيقول: "إن التودد يبدأ بما يبدو أنه لقاء بالصدفة في مؤتمر أكاديمي، ويضيف: "جندت الكثير من الناس في المؤتمرات. كنت جيدًا، ولم يكن الأمر صعبًا".

فمن بين المهام الموكلة إليه، أنه كان يطلع على قائمة المؤتمرات القادمة، يختار من بينها مؤتمرًا ويحدد عالمًا، قد يستفيدون منه، يكون من المحتمل حضوره، وسبق أن التقوا مرتين على الأقل خلال النسخ السابقة من المؤتمر. ليقوم "آر" بتكليف المتدربين في وكالتي الأمن القومي (NCA) و "سي آي إيه"، بإنشاء ملف تعريفي للمستهدف، يشمل الجامعة التي تخرج فيها، وأساتذته السابقين، إلى آخره من المعلومات المشابهة. ثم يتواصل "آر" مع المكتب الرئيس لوكالة الاستخبارات ليطلب تمويل العملية ونفقات السفر، ويحرص أن يكون كلامه مقنعًا بما يكفي لتمنحه الوكالة النقود، لكنه يحرص أيضًا ألا يثير حماس العملاء الآخرين القريبين من مكان انعقاد المؤتمر، كي لا يحاولوا مطاردة نفس الهدف بعد الاطلاع على الرسالة.

ويعمل بعدها على طريقة التخفي، والتي تكون عادة في هيئة رجل أعمال؛ اخترع اسم شركة، واشترى لها موقعًا من بين المواقع الجاهزة، وطبع بطاقات الأعمال الخاصة به، ثم أنشأ سجلات وهمية بالفواتير وأرقام الهواتف والبطاقات الائتمانية للشركة الوهمية. أما الاسم، فاختار اسمًا من إحدى الهويات السبعة التي يتخفى بها.

إن "آر" لم يكن عالمًا، لذا لم يكن في مقدوره بدء الكلام مع أحد الأساتذة الجامعيين بالحديث عن فرضية ريمان مثلًا، لكن طريقته كانت تعتمد على انطوائية أغلب العلماء وسلوكهم الاجتماعي الغريب؛ إذ يتتبع الهدف حتى يبتعد إلى أطراف القاعة التي تجمع الحضور للتعارف، ثم يسأله: "هل تكره الجموع مثلي؟" ويبتعد بعدها. وقال "آر" إن هذا اللقاء يجب أن يكون عابرًا، "أنت فقط تسجل وجهك في عقله"، ويجب ألا يلحظ أحد آخر هذا؛ إذ يعد من أخطاء المبتدئين، أن يتواصلوا مع الهدف أمام الآخرين، الذين ربما يكون من بينهم مراقبين أرسلتهم حكومته.

سيبلغ المراقبون الدولة عن هذه المحادثة؛ مما يعرض الهدف للخطر، ويجعله لا يرغب، أو لا يستطيع التفكير في أي عروض فيما بعد.
بالنسبة لباقي برامج المؤتمر، يقوم "آر" بالتجول ليلتقي صدفة بالأستاذ الجامعي في كل فرصة ممكنة، بأسلوب يطلق عليه في المصطلحات الخاصة بوكالة الاستخبارات المركزية اسم "الوقت على الهدف"، ويحتسب في مقاييس الأداء الوظيفي الخاصة به، وفي كل مرة يتسلل إلى وجدانه أكثر. مثال على ذلك أن يخبره بأنه قرأ مقالًا رائعًا عن موضوع ما، لكنه لا يتذكر كاتبه، ليخبره الأستاذ في خجل أنه هو من كتبه.

بعد عدة أيام، يدعو "آر" العالم لتناول وجبة الغداء أو العشاء معه ليقدم له عرضًا، وهو أن شركته مهتمة بمجال العالم، وتود دعم عمله. يقول "آر": "كل الأكاديميين الذين التقيتهم يبحثون باستمرار عن طريقة للحصول على منحة لإكمال أبحاثهم، هذا محور أحاديثهم". يتفقون بعد ذلك على المشروع وتكلفته، وتختلف بحسب بلد العالِم، "من ألف حتى خمسة آلاف للباكستاني، بينما الكوري يحصل على أكثر من ذلك"، ويضيف: "بمجرد ما أن تدفع الوكالة المال للعالِم الأجنبي يصبح تحت سيطرتها، حتى إن لم يكن يعلم بمصدر الأموال؛ لأن فضح هذه العلاقة في بلده الأصلي قد يكلفه حياته المهنية إن لم تكن حياته كلها.

أصبحت المؤتمرات العلمية تجذب عملاء الاستخبارات إلى درجة أن أحد مخاوف وكالة الاستخبارات المركزية هي أن يتداخل عمل زميلين في الوكالة ليطاردا نفس الفريسة. ويقول أحد الضباط السابقين بالوكالة: "عادة ما ننتشر في الأحداث المماثلة كالفيضان"، وورد حديثه هذا في كتاب "العامل البشري: داخل ثقافة التجسس المختلة للاستخبارات المركزية"، الذي نشره تحت اسم مستعار هو إشمايل جونز عام 2008.

ويتذكر جونز أنه في أحد المؤتمرات التي أقيمت في باريس عام 2005، والذي كان يتوقع أن يكون "تجمعًا مثاليًا للعلماء الزائرين من الدول المارقة"، أصيب بالإحباط عندما رأى اثنين من عملاء سي آي إيه في نفس الغرفة، وكانا ينتحلان صفة أستاذين جامعيين مثل الباقين، وتجنب أن يروه وهو يتجول في المكان، راصدًا الأسماء بحثًا عن مصادر جيدة؛ والتي يقصد بها العلماء الآتين من كوريا الشمالية أو إيران أو ليبيا أو روسيا أو الصين.

وفي أثناء أحد المؤتمرات الخاصة بالمواجهات الإلكترونية، الذي عقد في أبريل 2016 في جامعة جورج تاون التقيت برئيس قسم سياسة الأمن الإلكتروني في الخارجية الألمانية، "كارستن جيير"، وفي أثناء حديثهما أخبره جيير أنه "متفاجئ من الحضور الاستخباراتي العلني في هذه المؤتمرات"، وأن هناك أشخاصًا من أجهزة عديدة يتجولون في المكان. فيما تحدث مديرا وكالة الأمن القومي ومكتب التحقيقات الفيدرالي حول نقاط هامة في المؤتمر الذي يتناول مكافحة الهجمات الإلكترونية، التي تعد أحد أصعب التحديات في القرن الحادي والعشرين.
وتحدث فيه أيضًا أحد أبرز كاسري الشفرات السابقين في وكالة الأمن القومي، والرئيس السابق لمجلس الاستخبارات القومي الأمريكي، ونائب وزير الداخلية الإيطالي، ومدير مركز للأبحاث السرية يعمل مع الاستخبارات السويدية. وبحسب ملصقات التعريف التي يضعها الحاضرون البالغ عددهم 700، فإن أغلبهم إما يتبع حكومة الولايات المتحدة أو سفارات أجنبية أو شركات أو مقاولي الاستخبارات أو بائعي المنتجات المتعلقة بالكمبيوتر، أو أنهم أساتذة جامعات.

لم يكن كل الحضور الاستخباراتي معلنًا، فرسميًّا، تواجدت 40 دولة في المؤتمر، من البرازيل إلى موريشيوس وصربيا، وحتى سريلانكا، لكن روسيا لم تكن حاضرة رسميًّا، وعلى الرغم من ذلك قابلت شابًا نحيلًا يقف في شرفة المبنى، حاملًا في يده حقيبة مستندات، ويستمع إلى نقاشات المؤتمر، وعندما اقتربت منه وعرَّفت نفسي، ثم سألته عن اسمه، رد الشاب: "ألكسندر"، ثم أضاف بعض أن صمت لبرهة: "بلوسوف".
هل أعجبك المؤتمر؟
قال الشاب "لا"، في محاولة لمنع طرح مزيد من الأسئلة، ثم أضاف: "أنا من السفارة الروسية، ليس لي أي آراء، أنا فقط أحب المعرفة، هذا كل ما في الأمر".
فأعطيته بطاقة عمل، وطلبت منه عبثًا بطاقته، فأجاب: "أنا هنا منذ شهر واحد فقط، وما زالت بطاقاته لم تصدر بعد.
وعندما ألححت عليه في السؤال عن وظيفته في السفارة، نظر في ساعته، وقال: "آسف، يجب أن أذهب".

عندما تريد وكالة المخابرات المركزية رأي البروفيسور جون بوث، فإنها تتصل به لمعرفة ما إذا كان متاحًا للتحدث في أحد المؤتمرات. لكن اسم الوكالة لا يظهر في أي من الدعوات أو جداول الأعمال الرسمية، ويبرز فقط اسم شركة في واشنطن على أنها ترعى المؤتمر.

فمن خلال إخفاء دورها، تسهل وكالة المخابرات المركزية على العلماء تبادل آرائهم ووجهات نظرهم. وتنسب لهم تلك الأعمال في سيرهم الذاتية دون الإفصاح عن تعاونهم مع الاستخبارات المركزية، وهو ما قد ينفر منهم بعض الزملاء الأكاديميين أو الدول التي يجرون فيها أبحاثهم.

يعمل بوث أستاذًا للعلوم السياسية في جامعة شمال تكساس، ومتخصص في دراسة أمريكا اللاتينية؛ حيث المنطقة التي علّم التاريخ مسؤوليها الحذر من وكالة الاستخبارات المركزية. ويقول بوث في حديث سابق أجريته في مارس 2016: "إن كنت تنوي العودة إلى أمريكا اللاتينية، فيجب ألا يظهر في سيرتك الذاتية هذا النوع من الأطروحات. عندما تذهب إلى أحد هذه المؤتمرات، فلن يظهر في سيرتك الذاتية وجود مسئولين استخباراتيين أو عسكريين فيها. وهذا يرفع الحرج عن المشاركين، إذ إن هناك بعض التحيز ضد هذا الأمر في الأوساط الأكاديمية. عندما أذهب للقاءات حول دراسات أمريكا اللاتينية، لا أقول إنني كنت في مؤتمر أقامته الاستخبارات المركزية".

تنسق وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية مؤتمرات حول قضايا السياسة الخارجية ليتعلم محللوها، الذين ينغمسون في تفاصيل سرية أغلب الوقت أكثر من الباحثين الذين يرون الصورة الأكبر، والذين يعرفون المصادر المتاحة للعامة. ويُدفع للباحثين المشاركين ألف دولار على سبيل المكافأة، بالإضافة إلى النفقات، ويُلقي الباحثون كلماتهم وتتبعها الأسئلة، فتشبه الجلسات أي لقاء أكاديمي، لكن هناك استثناء واحد، وهو أن العديد من الحاضرين يضعون ملصقات تعريفية باسمهم الأول فقط، وهم على الأرجح محللو وكالة الاستخبارات المركزية.

ومن بين 10 مؤتمرات التي حضرها بوث على مر السنين– كان آخرها لقاء عام 2015 حول موجة لجوء الأطفال من أمريكا الوسطى للولايات المتحدة– لم ترتب وكالة الاستخبارات أو مكتب مدير وكالة الاستخبارات القومية، سوى مؤتمر أو اثنين بشكل مباشر. أما باقي المؤتمرات فنسقتها شركة "سنترا تكنولوجي"، رائدة صناعة الوساطة المتنامية في منطقة واشنطن– "القواطع" في لغة التجسس– والتي تدير مؤتمرات وكالة الاستخبارات المركزية.

وتوفر الوكالة لشركة "سنترا" التمويل وقائمة المدعوين، الذين يجتمعون لاحقًا في مركز مؤتمرات "سنترا" في مدينة آرلينجتون في ولاية فيرجينيا. وبحسب موقعهم، فهو "مثالي للمؤتمرات، والاجتماعات، والألعاب، والأنشطة التعاونية لعملائنا" وفقًا لموقع "سنترا" الإلكتروني.
وقال روبرت جيرفيس، أستاذ السياسة الدولية في جامعة كولومبيا، والذي سبق أن عمل مستشارًا لدى وكالة الاستخبارات المركزية منذ فترة طويلة: "حتى إن لم تكن تعلم سوى القليل، فإنك عندما ترى "سنترا" تعرف أنه على الأغلب مؤتمر للاستخبارات المركزية أو الاستخبارات القومية. إنهم يشعرون فقط أن الغطاء الرقيق مفيد لبعض الأكاديميين".

تأسست "سنترا" في عام 1997، وتلقت أكثر من 200 مليون دولار مقابل عقود حكومية، منها 40 مليون دولار من الاستخبارات المركزية لقاء الدعم الإداري، مثل تجميع وتحرير البرقيات والمستندات السرية تمهيدًا لدراستها من قبل لجنة الاستخبارات في الكونجرس والتي دارت حول برنامج التعذيب التابع للوكالة، وفي 2015، تعاون كبار المديرين فيها مع مسئولين استخباراتيين سابقين.

كان مؤسس الشركة ورئيسها التنفيذي، "هارولد روزنباوم"، مستشارًا للعلوم والتكنولوجيا لدى وكالة الاستخبارات المركزية، بينما عمل نائب الرئيس، "ريك بوجوسكي"، رئيسًا لقسم الجزيرة الكورية في الاستخبارات التابعة لوزارة الدفاع، وكان نائب الرئيس المختص بالأبحاث، "جيمس هاريس"، مديرًا للبرامج التحليلية في وكالة الاستخبارات طوال 22 عامًا، فيما كانت "بيجي ليونس"، مديرة قسم العلاقات الدولية، ضابطًا ومديرًا في وكالة الاستخبارات المركزية لوقت طويل، وقضت عدة فترات من خدمتها في شرق آسيا، أما مدير قسم التحليلات، "ديفيد كانين"، فقد قضى 31 عامًا محللًا في وكالة الاستخبارات المركزية.

ومثل بوث، تحدث "سوميت جانجولي"، عالم السياسة بجامعة إنديانا، في العديد من مؤتمرات "سنترا" وقال جانجولي إن "أي شخص يعمل مع "سنترا" يعرف أنه يعمل بالفعل لصالح الحكومة الأمريكية.. فلو قالوا إنهم من الاستخبارات المركزية فسيقلق الآخرون، أما أنا فلا أخفي الأمر أمام زملائي، وإن أزعجهم الأمر فلا يهم. فأنا مواطن أمريكي، وأشعر بأنني يجب أن أقدم لحكومتي أفضل مساعدة ممكنة".
كان عالم آخر قد قدم أربع محاضرات مع "سنترا" قيل له إنها تمثل "عملاء" غير معروفين، ولم يدرك أن هؤلاء العلماء من وكالات استخباراتية أمريكية حتى لاحظ أن بعض الحضور لا يضعون سوى اسمهم الأول فقط. فقد قابل واحدًا أو اثنين من هؤلاء في مؤتمر أكاديمي، ولم يكونوا يضعون ملصقات بأسمائهم، ولم يدرجوا على قائمة الحضور.

وفي سعيها الدؤوب لإخفاء علاقتها بوكالة الاستخبارات المركزية، حذفت "سنترا" السير الذاتية لمديريها من على موقعها عام 2015،  وتضمنت قائمة أبرز عملاؤها وزارة الأمن الداخلي و"إف بي آي" والجيش و16 مؤسسة فيدرالية، لكنها لم تتضمن وكالة الاستخبارات المركزية. وعندما اتصلت برئيسها "روزنباوم" وسألته عما إذا كانت الشركة تعقد مؤتمرات للوكالة، قال: "أنت تتصل بالشخص الخطأ، لا علاقة لنا بهذا الأمر"، وأنهى المكالمة.

وعندما ذهبت لمقر الشركة في الطابق الخامس من مبنى في بيرلينجتون، ماساتشوستس، الضاحية الشمالية لبوسطن، طُلب مني في استمارة دخول المكان الإفصاح عن جنسيتي وسبب الزيارة، سواء أكانت سريَّة أم لا؛ حينئذ استدعى موظف الاستقبال مديرة الموارد البشرية "ديان كولبتس"، والتي استمعت لي بأدب، ثم راجعت "روزنباوم"، قبل أن تعود وتخبرني أن "سنترا" لن تعلق على الأمر. مضيفة: "بصراحة، يفضل عملاؤنا عدم التحدث مع وسائل الإعلام".

تعد المؤتمرات العلمية هي أفضل السبل أمام العلماء الإيرانيين الذين يرغبون في الهروب إلى الغرب، وقد استغلت وكالة الاستخبارات المركزية من هذه الثغرة الأمنية. بدايةً من عهد الرئيس "جورج دبليو بوش"، وفق مل أخبرني به "ديفيد أولبرايت"، من معهد العلوم والأمن الدولي، فإن الحكومة الأمريكية أنفقت "أموال لا حصر لها" على الجهود السرية لتعطيل برنامج تطوير الأسلحة النووية الإيراني. وكانت من ضمن هذه البرامج عملية "هجرة الأدمغة" التابعة لوكالة الاستخبارات المركزية، والتي سعت إلى حث كبار العلماء الطاقة النووية الإيرانيين على الانشقاق.

وبحسب ما أخبرني به ضابط استخباراتي سابق فإنه نظرًا لصعوبة الوصول إلى هؤلاء العلماء في إيران، قامت وكالة الاستخبارات المركزية  بإغوائهم عبر مؤتمرات عُقدت في دول صديقة أو محايدة. إذ تختار الوكالة موضوعًا، بالتشاور مع إسرائيل، ثم ترتب لمؤتمر في مؤسسة علمية مرموقة عن طريق وسيط – عادة ما يكون رجل أعمال – يتعهد بتمويل المؤتمر بما يتراوح بين 500 ألف حتى مليوني دولار، من أموال الوكالة. وقد يمتلك رجل الأعمال هذا، شركة تقنية، أو قد تنشئ له الوكالة شركة وهمية، حتى يبدو دعمه منطقيًا بالنسبة للمؤسسة التي لا تعلم بتلاعب وكالة الاستخبارات. وقال لي ضابط سابق بالوكالة: "كلما كان جهل الأكاديميين بالموضوع كبيرًا كان الأمر أكثر أمانًا للجميع". أما الوسيط، فيعلم بأنه يساعد الوكالة، لكنه لا يعلم السبب، ولا تستعين به الوكالة سوى مرة واحدة فقط.

ويركز المؤتمر على أحد زوايا الفيزياء النووية ذات التطبيقات المدنية، ويُملأ بالتفاصيل التي تهم أبحاث العالم الهدف الإيراني. وفي أغلب الأوقات يتولى العلماء النوويون مناصبًا جامعية، ومثلهم مثل باقي الأساتذة الجامعيين في أي مكان، فهم يحبون هذا النوع من الحفلات. إذ تسمح لهم الحكومة بالسفر أحيانًا، تحت الحراسة، لتتعرف على آخر الأبحاث، ولمقابلة مصنعي التقنيات الحديثة، ولأغراض الدعاية.

ويقول الصحفي الإسرائيلي البارز "رونن بيرجمان": "من وجهة نظر الإيرانيين، فإنهم سيستفيدون من إرسال العلماء لمؤتمرات حول الاستخدام السلمي للطاقة النووية". وجدير بالذكر أن بيرجمان  قد ألّف كتاب "الحرب السرية مع إيران: الصراع السري الذي دام 30 عامًا ضد أخطر قوة إرهابية في العالم"، ويعمل على كتابة تاريخ جهاز الاستخبارات الإسرائيلي (الموساد). ويقول بيرجمان إن الإيرانيين سيقولون: "نعم، نرسل علماءنا للمؤتمرات لنستخدم تقنية مدنية لأغراض مدنية".

وقد ينتحل ضابط الوكالة المكلف بالقضية صفة طالب، أو مستشار فني، أو أحد العارضين من أصحاب الأكشاك. وأولى مهامه أن يبعد الحراس عن العالِم المستهدف. وكانت الطريقة في إحدى المرات هي تسميم وجبة الحراس بواسطة عمال المطبخ الذين جندتهم الوكالة، ما جعلهم عاجزين بسبب القيء والإسهال، على أمل أن ينسبوا علتهم هذه لطعام الطائرة، أو أي طعام غريب آخر تناولوه.

وإن كان العميل محظوظًا، فيحصل على بضع دقائق مع العالم منفردًا، ليقدم له عرضه. ولكي يسيطر عليه يكون العميل قد راجع معلوماته عن الإيراني بقراءة الملفات وإرسال بعض المجندين من العلماء للتقرب منه؛ لكي يثبت العميل أنه يعلم عنه كل شيء، حتى أسراره الحميمية، إن شك العالم أنه لا يتبع وكالة الاستخبارات المركزية فعليًا، ففي إحدى المرات أخبر قال أحد الضباط لأحد المنشقين المحتملين: "أعلم أنك مصاب بسرطان الخصية وفقدت الخصية  اليسرى".

قد يتراجع العالم عن انشقاقه ويهرب بعد أن يوافق. يقول أحد الضباط السابقين: "نعيد تجنيد الرجل عدة مرات بشكل مستمر". بمجرد استقلال العالم للسيارة المتجهة للمطار، تبدأ الوكالة في إصدار الأوراق والتأشيرات اللازمة له بالتنسيق مع الوكالات الاستخباراتية الحليفة، كما أنها لا تدخر جهدًا لإحضار زوجته وأطفاله إلى الولايات المتحدة، لكنها لن تحضر عشيقته، كما طلب أحد العلماء. وتسكنهم الوكالة مكانًا جديدًا، وتوفر لهم ولعائلاتهم مزايا تمتد لفترات طويلة، بما في ذلك دفع مصاريف الدراسة الجامعية وما بعد الجامعية.

وأخبرني أحد الضباط السابقين المطلعين على تلك العملية أن عدد العلماء المنشقين الهاربين إلى الولايات المتحدة، عن طريق المؤتمرات الأكاديمية وغيرها من الطرق، كان كافيًا لإعاقة برنامج التسليح النووي الإيراني. وقال: "إن أحد مهندسي الطرد المركزي في برنامج التسليح النووي قد وافق على الانشقاق تحت شرط واحد، أن يدرس الدكتوراه في معهد ماساشوستس للتكنولوجيا". ولسوء الحظ، لم يُحضر المهندس شهاداته أثناء هروبه، الذي ساعدته وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية فيه، فرفضه المعهد في البداية، لكن الوكالة أصرت على قبوله، وأراد المعهد إرضاء الوكالة؛ فاشترط أن يجتاز العالِم اختبارات القبول، وأعد مجموعة من الأساتذة ليمطروه بالأسئلة، لكن الإيراني برع في الاختبار، وقبله المعهد، وحصل على درجة الدكتوراه.

ومع أن مسئولو المعهد ينكرون معرفتهم بأيِ من هذه التفاصيل، حيث قال رئيس قسم الهندسة الميكانيكية "جانج تشن": "أنا أجهل هذا الأمر تمامًا"، أكد اثنان من الأكاديميين هذه القصة. أحدهم هو أستاذ هندسة النفط بجامعة جنوب كاليفورنيا، "محمد السحيمي"، والذي يدرس التطور النووي والسياسي الإيراني، والذي قال إن أحد الهاربين من البرنامج النووي الإيراني قد حصل على الدكتوراه في الهندسة الميكانيكية من معهد ماساشوستس. بينما قال "تيموثي جوتوفسكي"، أستاذ الهندسة الميكانيكية في المعهد: "أعرف شابًا كان في معملنا، وبطريقة ما تعلمت أنه عمل على أجهزة الطرد المركزي في إيران. وبدأت أفكر: "ماذا حدث هنا؟".

ومع موافقة إيران في عام 2015 على اتفاق الحد من تطوير الأسلحة النووية في مقابل رفع العقوبات الدولية، فقد تراجعت أهمية تجنيد الاستخبارات الأمريكية للعلماء الإيرانيين الهاربين من البرنامج النووي. لكن إذا ألغى الرئيس الأمريكي "دونالد ترامب" الاتفاق أو سعى لإعادة التفاوض حوله، وهو ما ندد به في خطاب ألقاه في سبتمبر أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، فإن المؤتمرات التي تنظمها وكالة الاستخبارات المركزية  الأمريكية لاصطياد علماء الطاقة النووية الإيرانية يمكن أن تعود في السر كما بدأت.

للإطلاع على الموضوع الأصلي .. اضغط هنا

ربما يعجبك أيضا