بلومبرج| كورونا لن يقضي على العولمة

ترجمات رؤية

ترجمة بواسطة – بسام عباس

من بين العديد من المنتجات الثانوية لوباء كورونا، ظهرت سلسلة شعارات تمجّد العولمة، مثل: "إن التفشي العالمي للوباء يُغذّي ردَّ فعلٍ عنيفًا للعولمة"، و"انتشار الفيروسات يمكن أن يعجّل بالعودة الكبرى للعولمة"، و"هل سينهي الفيروس التاجي العولمة كما نعرفها؟"..

وبإجابة مختصرة: لا، لن تفعل ذلك، على الأقل ليس إذا جرى تعريف العولمة على أنها أكثر من سلاسل توريد عابرة للقارات وسفن الحاويات الضخمة. علاوة على ذلك، تقوض إشعارات الوفاة المبكرة هذه التحدي المتمثل في إدارة العولمة مع تحول ميزان القوى في العالم.

تركز العديد من هذه التحليلات المحمومة على بُعد واحد من العولمة ضمن إطار زمني ضيق: النمو المذهل وتكامل الأسواق العالمية على مدى العقود القليلة الماضية؛ فهي لا تتجاهل المكونات السياسية والاجتماعية والثقافية للعولمة فحسب، بل تتجاهل أيضًا مدها وجزرها خلال القرن والنصف الماضيين.

ولنأخذ بعين الاعتبار ما حدث خلال النصف الأخير من القرن التاسع عشر، عندما فتحت الإمبريالية مسارات جديدة للتجارة والاستثمار. وعُقدت مؤتمرات دولية جديدة في تخصصات مثل الرياضيات والإحصاء والكيمياء والفلسفة، كما تعاونت هيئات الصحة العامة الوطنية للتعامل مع أمراض مثل الحمى الصفراء، التي عملت زيادة التجارة على تفشيها، حيث انتشرت عبر مدريد وهافانا وممفيس خلال سبعينيات القرن التاسع عشر، أو الأوبئة الدبلية التي أصابت المدن الساحلية بشكل دوري خلال العقدين قبل الحرب العالمية الأولى.

صحيح أن اندلاع تلك الحرب والمذبحة، التي لا يمكن فهمها، حطمت السوق العالمية الناشئة كما كسرت عجرفة الأمميين وصلفهم. وبدورها أدت العواقب الاقتصادية والسياسية للسلام إلى الكساد الكبير. ولكن حتى خلال هذه الفترة، كما ذكرت المؤرخة "إميلي روزنبرج": "تَسارعَت وتيرة توسيع الشبكات عبر الوطنية في العلوم والصحة والترفيه وغيرها من الانتماءات المحددة". وعلى الرغم من النزعة الوطنية وكراهية الأجانب المتزايدة التي أغلقت الباب الذهبي للولايات المتحدة في عشرينيات القرن الماضي، غير أن سنوات ما بين الحربين العالميتين شهدت أيضًا إنشاء منظمات غير حكومية ثرية مثل مؤسسة كارنيجي (1922) ومؤسسة فورد (1936)، وكلتاهما أسستا للتبادل التعليمي والثقافي الدولي.

وإضافة إلى ذلك، وعلى الرغم من فشل عصبة الأمم بين الحربين في منع الحرب العالمية الثانية، فقد عملت العصبة كمظلة حكومية دولية في جميع المجالات، من مؤتمرات نزع السلاح ومكافحة الاتجار الجنسي والمخدرات إلى منظمة العمل الدولية. ثم جرى ضم هذه الكيانات أو أُعيد تأسيسها تحت مظلة الأمم المتحدة ما بعد الحرب.

وبيت القصيد هنا أنه حتى بعد العديد من الاضطرابات الزلزالية، استمرت عملية العولمة، وخلقت شبكات وروابط سياسية وثقافية واجتماعية توسعت أحيانًا حتى في أوقات الاضطراب الشديد. واستمر هذا النمط حتى هجمات 11 سبتمبر والكساد الكبير. وبحلول عام 2004، وصلت السياحة الدولية إلى مستويات قياسية، واستمر اتصال الإنترنت في الارتفاع، وتوسّع حلف الناتو والاتحاد الأوروبي، وكانت هناك زيادات كبيرة في التجارة والاستثمار الدوليين. وعلى عكس الكساد الكبير، لم تتسبب الأزمة الاقتصادية في 2007-2008 في انخفاض مستويات التجارة العالمية والاستثمار، ومع ذلك فقد أجبر الكساد الكبير صانعي السياسات على إدراك أن الاعتماد المتبادل يتطلب المزيد من التنسيق العالمي.

 ولا يمكن إنكار ما أحدثه فيروس كورونا من اضطرابات هائلة في سلاسل التوريد والتجارة الدولية وجميع أشكال السفر، ناهيك عن الحياة اليومية. لكن سلاسل التوريد كانت تتغير بالفعل وأصبحت أقصر وأكثر إقليمية حتى قبل ظهور كورونا. إضافة إلى ذلك، جعل تطور الاقتصاد العالمي الخدمات أكثر أهمية نسبيًّا من السلع، فيما تزايدت الشركات متعددة الجنسيات، كما بات الابتكار أكثر عالمية. والأهم من ذلك، أن الاتصال الواسع النطاق والطفرة المتتالية للمعلومات الرقمية أدت إلى دفع تدفق الأفكار والروابط الافتراضية، سواء بين الأفراد أو المؤسسات أو الدول. وهذا شيء لا يمكن عزله.

ولكن يتعين إدارة العولمة. ولسوء الحظ، كما أظهر رد الولايات المتحدة الفاشل إزاء فيروس كورونا مرة أخرى، فهذا ليس اتجاه الرئيس الأمريكي "دونالد ترامب" ولا أحد تفضيلاته أيضًا. لقد استخف بجائحة الفيروس المتفشي باعتباره خدعة حزبية، تمامًا كما نفى الحاجة الملحة لمواجهة تغير المناخ. كما أنه يرى الخبرة التكنوقراطية على أنها مجرد مظهر من مظاهر "الدولة العميقة" التي تقاوم أجندته، ويَعتبر أيضًا أن المنظمات متعددة الأطراف التي تأسست للتعامل مع العولمة، سواء كانت الأمم المتحدة أو منظمة التجارة العالمية، بمثابة انتهاكات لسيادة الولايات المتحدة، وليست وسيلة لتعزيز نفوذ الولايات المتحدة وتعزيز تقاسم الأعباء.

إن النزعة القومية ورهاب الأجانب وضرب البيروقراطية الحكومية والمؤسسات العالمية هي عناصر أساسية في السياسة الأمريكية، ولكن في عصر تزايد التنافس بين القوى العظمى وتراجع نفوذ الولايات المتحدة وقوتها (غير العسكريين)، فإنهما يؤديان إلى نتائج عكسية بشكل متزايد؛ حيث تبذل الصين قصارى جهدها لإعادة تشكيل النظام العالمي لتعزيز مصالحها، وقد اكتسبت قبضتها الحديدية الحاسمة في احتواء فيروس كورونا بعض المعجبين الجدد.

ولكن لا نبغي أن يخدع المعجبون بالنموذج الصيني أنفسهم، فقيادة الحزب الشيوعي الصيني ستسعد ببلقنة الإنترنت وتمزيقه، وتقلل من الشفافية، وتستمر في انتهاك حقوق الإنسان، وتتلاعب بالنظام الدولي الليبرالي لصالحها. ولذلك فالاستجابة الصحيحة لهذا الواقع هي أن تدعم الولايات المتحدة تحالفاتها، وتدعم المؤسسات المتعددة الأطراف التي أنشأتها لتعزيز القيم المشتركة، وأخذ زمام القيادة في مواجهة التحديات العالمية.

نعم، كان الجهد الذي استمر لعقود لزيادة فوائد العولمة إلى أقصى حد وتقليل تكاليفها مبالغًا فيه، إن لم يكن مضللًا، بيد أن جهود المملكة الوسطى لملء هذا الفراغ لن تؤدي إلى نتائج تروق للولايات المتحدة؛ بل إنها في الواقع، ستكون نهاية العولمة كما نعرفها

أنا لست من هؤلاء الداعين للعولمة، التي هي في الأساس محايدة القيمة، إنها قناة تكافؤ الفرص لكل من البؤس والسعادة، فهي قناة للأوبئة وكذلك اللقاحات، والنشاط الإجرامي وكذلك الأعمال المشروعة، والجهادية والفاشية والشيوعية، وكذلك حقوق الإنسان والديمقراطية، لكن إقامة صلات أوثق، سواء للخير أو للمرض، ليست فقط ضرورية على كوكب صغير ذي نظام بيئي محاصر؛ بل لا مفر منها.

للإطلاع على الموضوع الأصلي .. اضغط هنا

ربما يعجبك أيضا