ناشيونال إنترست: كيف تتغلب الولايات المتحدة على منافسيها من خلال استراتيجيتها تجاه أوروبا؟

ترجمات رؤية

ترجمة – بسام عباس

أدت نهاية الحرب الباردة، منذ هدم جدار برلين وحتى انهيار الإمبراطورية السوفيتية، إلى نجاح واضح على مدى عقود من السياسة الخارجية الأمريكية في أوروبا. ومع ذلك، ففي العقود الثلاثة اللاحقة، واجهت الولايات الأمريكية خيبات أمل متكررة، سواء في تعاملاتها مع روسيا ما بعد الاتحاد السوفيتي أو فيما يتعلق بالعلاقات عبر الأطلسي مع حلفائها المفترضين في أوروبا. ولذلك فنحن بحاجة إلى النظر إزاء كلا الطرفين، خصومنا وحلفائنا، ولكن عندما نفعل ذلك، فإننا نواجه معضلة استراتيجية أساسية.

فقد برزت روسيا الانتقامية في عهد بوتين كمنافس استراتيجي، كما اعترفت استراتيجية الأمن القومي لعام 2017 بشكل لا لبس فيه. وعادت موسكو إلى موقفها العدائي تجاه واشنطن، مشابه في النهاية في طابعه، إن لم يكن في الدرجة، للسياسات الروسية في الحقبة السوفيتية. إن مثل هذه المنافسة بين روسيا والولايات المتحدة ليست مفاجئة في نهاية المطاف، إذ إن لها جذور عميقة تضرب في التاريخ إلى القرن التاسع عشر.

وفي أثناء ذلك، تجد الولايات المتحدة نفسها على خلاف متكرر مع بعض الشركاء الأوروبيين، خاصةً فرنسا وألمانيا. ومثل هذه الاختلافات تعكس حقيقة جوهرية في فترة ما بعد الحرب الباردة. فعلى عكس أوروبا الغربية قبل عام 1989، أصبحت أوروبا الموحدة اليوم أقل اعتمادًا على الضمانات الأمنية الأمريكية، وبالتالي تطمح بشكل متزايد إلى تحقيق أهداف سياستها الخارجية المستقلة، بغض النظر عن مخاوف واشنطن أو حتى تعارضها معها. وعلى النقيض من ذلك، فإن تلك الدول التي تدرك الأسباب التاريخية لضعفها أمام روسيا ودول البلطيق ودول حلف وارسو السابقة، هي الآن الأكثر التزامًا بعلاقات قوية مع الولايات المتحدة. وبالتالي، تواجه السياسة الخارجية الأمريكية مشكلة مزدوجة على الرغم من الانتصار الكبير في عام 1989، وهذه المشكلة تتمثل في عودة ظهور روسيا، خصم الحرب الباردة، والمضايقات المتكررة في العلاقات عبر الأطلسي، حيث تواجه أوروبا إغراءات الابتعاد عن الغرب، وهو نوع من التحول إلى أوراسيا.

وتولد هذه التحديات المتزامنة معضلة للسياسة الخارجية الأمريكية. فهل ينبغي لواشنطن أن تتبنى مواقف أكثر صرامة تجاه موسكو التي توفر باستمرار أسبابًا كافية لردود حازمة؟ والقائمة تطول: شبه جزيرة القرم، ودونباس، وسوريا، وليبيا، وبيلاروسيا، فضلًا عن القمع الداخلي والاغتيالات خارج الحدود الإقليمية. أم يجب أن تركز الدبلوماسية الأمريكية على إصلاح العلاقات عبر الأطلسي؛ ما يعني العودة إلى علاقات تعاون أكثر مع باريس وبرلين؟

كانت تلك التحالفات أصولًا مهمة في السياسة الخارجية الأمريكية لعقود من الزمن، لذلك هناك الكثير للتوصية بالاستمرار في هذا المسار. ومع ذلك، فالمشكلة تتمثل في أن هاتين الرؤيتين تتعارضان مع بعضهما البعض، حيث إن فرنسا وألمانيا أكثر ليونة تجاه روسيا من أي شخص في واشنطن تقريبًا، سواء أكان جمهوريًّا أم ديمقراطيًّا. وكلما زادت الولايات المتحدة من انتقادها لبوتين واتباعها سياسات المواجهة، زاد الضغط على علاقات الولايات المتحدة مع الحلفاء التقليديين في أوروبا. ومع ذلك فكل مسار له مصداقيته، ولكن من الوهم أن نتخيل أن الولايات المتحدة يمكنها أن تسير في كليهما في نفس الوقت، على الأقل ليس دون إعادة توجيه الأوروبيين بعيدًا عن روسيا.

ويتساءل الأوروبيون بشكل مشروع عمَّا إذا كانت اليد العليا في واشنطن للصقور. فعلى الأقل منذ بداية هذا القرن، أظهرت الإدارات الأمريكية تناقضات غير متوقعة في مواقفها تجاه روسيا. ففي بعض الأحيان، انغمست في نوع من التقارب الرومانسي، كما هو الحال عندما ادّعى “جورج دبليو بوش” أنه يرى “روح” بوتين، أو مع محاولة إدارة أوباما عملية “إعادة ضبط” مشؤومة للعلاقات، ناهيك عن لحظة الحوار الودي بين أوباما و”ديمتري ميدفيديف” دن الانتباه إلى أن الميكروفون مفتوح على الهواء.

لقد تكسّرت خيالات تلك الانفراجة كثيرًا أمام وحشية طموحات موسكو العنيفة. وبالمقارنة مع سابقاتها، كانت إدارة ترامب أكثر صارمة تجاه روسيا، خاصة في ظل سعيها المستمر لفرض عقوبات ما بعد شبه جزيرة القرم، وتطبيق قانون ماغنيتسكي، ومعارضتها لخط أنابيب نورد ستريم 2.

الأوروبيون أكثر ترددًا في مواجهة موسكو. فحتى الآن، لم تتهم برلين ولا باريس الحكومة الروسية بمحاولة اغتيال نافالني، ولم يتبنَّ الاتحاد الأوروبي بعد أداة عقوبات مماثلة لقانون ماغنيتسكي. وفي غضون ذلك، سعى الرئيس الفرنسي “إيمانويل ماكرون”، في جهوده لتلميع أوراق اعتماده في السياسة الخارجية، إلى إعادة الارتباط غير المشروط مع روسيا. ومع ذلك، ليس من قبيل الصدفة بالتأكيد أن تتداخل المصالح الروسية والفرنسية في ليبيا وأرمينيا، وحتى فيما يتعلق بتركيا.

أما بالنسبة لألمانيا، فإن المستشارة “أنجيلا ميركل” تستحق الثناء لدفعها نحو استمرار عقوبات شبه جزيرة القرم، رغم احتجاجات اللوبي المؤيد لروسيا، أو ما يسمى (فاهمو بوتين). ومع ذلك، فإن الاغتيال المرتبط بموسكو في شوارع برلين أثار ردًّا دبلوماسيًّا فاترًا، كما أن الحكومة ثبطت الدعوات التي انطلقت في ألمانيا لإيقاف مشروع نورد ستريم 2 ردًّا على تسميم نافالني. إن دعوة ميركل إلى “حل أوروبي” لمشروع نورد ستريم تعني حقًّا إرجاءً غير محدود، حيث سيكون من المستحيل تقريبًا التوصل إلى إجماع بين جميع الأعضاء الـ 27 على خط الأنابيب.

والنقطة المهمة هي أن كلًا من ألمانيا وفرنسا يفضلان تقليل الضرر الذي يلحق بعلاقاتهما مع روسيا. وبالتالي فإن أي مقترحات أمريكية لمواجهة موسكو بقوة أكبر ستساهم في تدهور العلاقات مع حلفائنا عبر الأطلسي؛ إذ ربما تدفعهم الخطوات الخاطئة التي اتخذتها واشنطن نحو العلاقات مع موسكو، وإلى ما كان يُطلق عليه اسم “الفنلدة” خلال الحرب الباردة، وهو خضوع فعلي للهيمنة الروسية.

وبدلًا من ذلك، فإن السؤال المناسب الذي يجب أن تطرحه واشنطن هو ما إذا كانت هناك طرق لمواءمة استراتيجية الولايات المتحدة مع مصالح برلين وباريس من أجل إقامة تعاون أطلسي ضد نزعة بوتين الانتقامية. ويجب طرح هذا السؤال أيضًا في الحملات الانتخابية، ليس فقط 2020 في الولايات المتحدة، ولكن أيضًا في 2021 في ألمانيا و2022 في فرنسا.

مهما كانت نتيجة الانتخابات الأمريكية، فهناك أوقات عصيبة أمام العلاقات الأمريكية الألمانية، فإذا تم الانتهاء من مشروع نورد ستريم 2، وهو أمر مرجح، فإن العقوبات التي جرى تمريرها بدعم واسع من الحزبين في الكونجرس ستبدأ؛ ما ينتج عنه مصدر دائم للغضب الثنائي. وعلاوة على ذلك، إذا تضمنت الحكومة الائتلافية التالية في برلين بعد عام 2021 حزب الخضر– وهو أمر محتمل أيضًا– فسيكون هناك ضغط على ألمانيا للتراجع رسميًّا عن تعهد “ويلز”، ونسبة 2% من إجمالي الناتج المحلي للدفاع، وحظر الأسلحة النووية بين الولايات المتحدة والناتو. وهو ما سيكون له أيضًا تداعيات سلبية على الحزبين في الولايات المتحدة.

إن استراتيجية الولايات المتحدة المثمرة تجاه ألمانيا بحاجة ماسة إلى استراتيجية اتصال قوية موجهة إلى الطبقة السياسية والجمهور العريض. لقد توقفنا عن تقديم القضية الأمريكية بصورة جيدة، بينما تمتلئ وسائل الإعلام الألمانية بالمعلومات المضللة الروسية. ورغم ذلك، فإن عمليات التواصل الجيدة وتحسين العلاقات العامة غير كافية، إذ تحتاج الدبلوماسية الأمريكية إلى استكشاف سبل التعاون المثمر مع ألمانيا.

وربما تتضمن إحدى الفرص غير المتوقعة على توحيد الجهود لإعادة بناء الجسور مع تركيا، حيث تحتاج ألمانيا بشدة إلى علاقة عمل مع أنقرة باعتبارها العمود الفقري في استراتيجيتها للحد من الهجرة إلى أوروبا، في حين أن واشنطن لديها مصلحة راسخة في تنمية العلاقة مع هذا الحليف المهم في الناتو. ويمكن لمبادرة دبلوماسية ألمانية أمريكية مشتركة تجاه تركيا أن تُبنى أيضًا على شك أنقرة العميق تجاه موسكو، وفي حين أن مثل هذه المبادرة لن تجعل اليونان وتركيا تتخليان عن اتهاماتهما المتبادلة، غير أنها قد تمنع هذين الحليفين في الناتو من الدخول في حرب مع بعضهما البعض.

وأما فيما يتعلق بانتخابات عام 2022 في فرنسا، فإن الخبر السار هو أنه من غير المرجح أن يفوز المعارضون للأمريكيين في أقصى اليسار أو أقصى اليمين. وستكون النتيجة: إما سيحصل ماكرون على فترة ولاية ثانية، أو سيحل محله مرشح الجمهوريين من يمين الوسط. وقد تستلزم نتيجة السياسة الخارجية استمرار الدعوة الفرنسية المميزة لـ “الحكم الذاتي الاستراتيجي”، وهو نوع من الديجولية الجديدة، غير أن باريس تدرك أن هناك حدودًا حقيقية لسلطتها.

ونظرًا لعدم قدرتها على فرض إرادتها العسكرية حتى في مالي، لا تستطيع فرنسا فرض نفسها في أي مكان آخر دون دعم كبير، ولهذا الدعم، لا يوجد مرشح آخر غير الولايات المتحدة. وتكمن فرص التعاون الفرنسي الأمريكي في منطقة الساحل ضد الإسلاميين وفي منطقة المحيطين الهندي والهادئ، حيث لفرنسا مصالح بسبب أراضيها فيما وراء البحار، ويمكن، على سبيل المثال، الانضمام إلى المزيد من عمليات حرية الملاحة كوسيلة لمواجهة منافس استراتيجي آخر، ألا وهو الصين.

يمكن لأمريكا إعادة بناء علاقاتها عبر الأطلسي مع ألمانيا وفرنسا من خلال محاذاة الأهداف الدبلوماسية والأمنية المشتركة، ويمكن لمثل هذه التحالفات أن تعمل على احتواء منافسي الولايات المتحدة من القوى العظمى، سواء روسيا أو الصين. ولكن في المستقبل المنظور، تواجه القيادة الأوروبية قيودًا سياسية فيما يتعلق بمدى قدرتها على مواجهة روسيا مباشرةً.

إن الاقتراحات بأن تصبح إدارة ترامب أكثر إصرارًا مما كانت عليه بالفعل في إدانة بوتين قد تكون مبررة بالتأكيد، بالنظر إلى الإجراءات الروسية، ولكن يجب أن نظل على دراية بالتأثير الضار الذي يمكن أن تحدثه كلماتنا على علاقاتنا مع الحلفاء الأساسيين. ومن ثَمَّ لن يكون الخطاب القاسي تجاه موسكو منطقيًّا إلا إذا ساعد في الوصول إلى هدف سياسي جدير بالاهتمام، ولا زالت هناك طرق أكثر ذكاءً ودقة لمواجهة خصومنا، بالتزامن مع إعادة بناء تحالفاتنا الاستراتيجية الحيوية.

للاطلاع على الموضوع الأصلى .. اضغط هنا

ربما يعجبك أيضا