Geopolitical Futures | البحث عن حل لمشكلة روسيا الاستراتيجية

آية سيد

ترجمة – آية سيد

وصف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين انهيار الاتحاد السوفيتي بأنه أكبر كارثة جيوسياسية في التاريخ. وعلى الرغم من أنه ربما لا يكون صحيحًا بالنسبة إلى التاريخ ككل, فإنه بالتأكيد صحيح بالنسبة إلى تاريخ روسيا الحديث, لأنه كلّف روسيا أكثر ما تحتاجه: العُمق الاستراتيجي. حتى عام 1989, كانت الحدود الغربية لروسيا تقع في وسط ألمانيا، والقوقاز حصّن روسيا من الجنوب، وكانت آسيا الوسطى عازلًا ضخمًا ضد جنوب آسيا والصين. بعبارة أخرى, كان قلب روسيا آمنًا من كل الاتجاهات. 

وقد تسبب سقوط الاتحاد السوفيتي في سحب حدوده الغربية إلى ما وراء دول البلطيق وأوكرانيا وبيلاروسيا. واحتفظت روسيا بشمال القوقاز لكنها خسرت جنوب القوقاز – أذربيجان وجورجيا وأرمينيا، وقُسّمت آسيا الوسطى إلى دول مستقلة، هذا التقلص الروسي لم يمثل فقط تضاؤلًا في الحجم بل أيضًا انخفاضًا في المسافة بين الأعداء المحتملين.

سعت روسيا إلى إعادة رسم الحدود قبل أن يظهر تهديد خطير، وحقيقة عدم وجود تهديد خطير منح روسيا بعض الوقت، لكن لدولة مثل روسيا, يمكن أن يتجلى انعدام الأمن سريعًا. لقد تحولت ألمانيا من حطام وطني إلى تهديد وجودي في أقل من عقد. تعين على الروس زيادة عمقهم الاستراتيجي, لكن كان عليهم فعل هذا من دون إثارة الهجوم الذي خشوا منه قبل زيادة عمقهم الاستراتيجي.

لقد شهدنا ثلاثة أحداث في الأشهر الأخيرة – واحدًا في بيلاروسيا, وواحدًا في جنوب القوقاز, وواحدًا في قيرغيزستان – والتي تضم مجتمعة أجزاء من الأراضي الحدودية التي فقدتها روسيا. ولكي نكون واضحين, من الممكن دائمًا رؤية ثلاثة أحداث منفصلة مترابطة بالمنطق, والافتراض بأن هذا المنطق له علاقة بمشكلة روسيا الاستراتيجية. يزخر التاريخ بالمصادفات وهذه الأحداث الثلاثة لا تشكّل حتى مصادفة مثالية. لكن حتى  المصادفة قد يكون لها نفس العواقب مثل الحدث المتعمد.   

في بيلاروسيا, التي تمثل عازلًا رئيسيًّا على السهل الأوروبي الشمالي, أُعيد انتخاب الرئيس ألكسندر لوكاشينكو فيما وصفها الكثيرون بأنها انتخابات غير شرعية في أغسطس، وتستمر الاحتجاجات على النتيجة منذ ذلك الحين. إن علاقة روسيا بلوكاشينكو معقدة – إنه يحاول الموازنة بين روسيا والغرب عندما يستطيع – لكنه لا يمكن وصفه بأنه موالٍ للغرب. إن لديه خلافاته مع موسكو, لكن الأخيرة كانت دائمًا مؤثرة جدًا في مينسك وبالتالي كان لديها حل غير مثالي للمأزق الاستراتيجي مع الغرب. وإذا جرى استبدال لوكاشينكو بشخص آخر أكثر عداءً تجاه روسيا أو أكثر تعاطفًا مع الغرب, قد يحرك هذا الناتو, وبولندا والأمريكيين تجاه الشرق, محيلًا المدن مثل سمولينسك إلى مدن حدودية.

في قيرغيزستان, التي تقع بين روسيا والصين, يوجد اضطراب سياسي مماثل. هنا, أيضًا, أدت الانتخابات إلى اتهامات بالتزوير ومظاهرات واسعة النطاق. يمتلك الروس بعض المنشآت العسكرية هناك, لكن النقطة الأهم هي أنها توفر عازلًا بين روسيا والصين. إن روسيا والصين ليستا على خلاف في الوقت الحالي, لكنهما حاربتا بعضهما البعض في الستينيات. وعلى الرغم من أن هذا كان منذ 60 عامًا, فإن الجيوسياسة تتجه إلى تكرار نفسها, وأيًّا كانت المصالح الحالية التي تحركهما, كلتاهما مخضرمتان في تحولات التاريخ, ولا تريد أي منهما أن تمتلك الأخرى الأفضلية. وليس من الواضح ما إذا كانت قواعد اللعبة البيلاروسية ستنجح هنا, لكن موسكو لديها مصلحة فيما يحدث, ونظرًا لاحتمالية الحاجة لمحكم, فإن التدخل لن يكون مفاجئًا.

في جنوب القوقاز, اندلعت حرب بين أذربيجان وأرمينيا على ناجورنو قره باغ, وهي مقاطعة متنازع عليها يحكمها الأرمن داخل أذربيجان. وبشكل عام, أذربيجان مدعومة كما كانت من قبل من تركيا, الدولة التي تمتلك معها أذربيجان تقاربًا عِرقيًا, بينما أرمينيا مدعومة من روسيا. لكن الصراع أكثر تعقيدًا من ذلك. من ناحية, تمتلك أذربيجان علاقات مهمة مع روسيا والتي لا يسعها قطعها. ومن ناحية أخرى, من المؤكد أن المخابرات الروسية سيكون لديها علم باستعدادات الحرب في أذربيجان وبالتالي كانت ستنصحها بالتراجع نظرًا لعلاقات موسكو مع أرمينيا. لكن هذا لم يحدث. وأخيرًا, لاحظت روسيا أن معاهدتها مع أرمينيا لا تشمل ناجورنو قره باغ وبالتالي موسكو ليست ملزمة بالتدخل عسكريًّا إلى جانب أرمينيا. ومن الواضح أن الروس يستخدمون الحرب لزيادة نفوذهم مع أذربيجان, أقوى وأغنى دولة في جنوب القوقاز (ساعدت موسكو في التوصل لاتفاقية وقف إطلاق النار, لكنها سريعًا ما انهارت). ومن دون روسيا, تمتلك أرمينيا خيارات قليلة. جورجيا, التي غزتها روسيا في 2008, لن تستطيع تقديم الكثير من المساعدة, والولايات المتحدة, التي ساعدت جورجيا في تلك الحرب المذكورة, من المرجح أن تختار الامتناع عن التدخل.

وعن طريق تحويل دعمهم من أرمينيا إلى أذربيجان أو بالتحديد جلب الاثنين إلى المدار الروسي, يحل الروس مشكلة استراتيجية حيوية. أولًا: هذا سيساعد في تأمين جنوب القوقاز, الذي يُعد الطريق الأكثر ترجيحًا لأن يسلكه الغزاة المحتملون بعد أوروبا الشرقية. ثانيًا: عن طريق زيادة السيطرة على جنوب القوقاز, يصبح شمال القوقاز أكثر أمنًا. بالطبع, تسيطر روسيا بالفعل على شمال القوقاز وتحافظ على خط دفاع قوي هناك, لكن الشيشان وداغستان هما موطن الحركات الإسلاموية المسلحة, التي تزعم موسكو أنها مدعومة من الولايات المتحدة عبر وسطاء من جنوب القوقاز. وسواء كان هذا صحيح أم لا, فإن موسكو لن تجازف.

وهكذا نحن نرى الأحداث في الحدود الغربية والجنوبية لروسيا تسير بطريقة ما، حيث يتم تصحيح الكارثة الجيوسياسية التي تحدّث عنها بوتين. ولا توجد دبابات تتحرك في أي من الاتجاهين, لكن سياسة الموقف تبدو وأنها تتجه لذلك الطريق. طبعًا, ربما يكون كل هذا مصادفة، لكن من المثير للاهتمام ملاحظة العملية التي حركتها المصادفة أو الحسابات. لكن الروس ليسوا حمقى, وبإقصاء أرمينيا وأذربيجان المتحالفتين مع روسيا وتركيا من اللعبة, تصبح جورجيا معزولة, وتكرار 2008 سيقوض براعة التحرك الروسي. 

لمشاهدة الموضوع الأصلي اضغط هنا

ربما يعجبك أيضا