فورين أفيرز| كيف تهدد الصين الديمقراطية الأمريكية؟

بسام عباس

ترجمة – بسام عباس

لعقودٍ من الزمان، كانت الحكمة السائدة في الولايات المتحدة ترى أن الأمر مسألة وقت فقط قبل أن تصبح الصين أكثر ليبرالية، اقتصاديًّا ثم سياسيًّا. لم يكن من الممكن أن نكون مخطئين أكثر من ذلك، وهو سوء تقدير يمثّل أكبر فشل للسياسة الخارجية للولايات المتحدة منذ الثلاثينيات.

كيف إذًا ارتكبنا مثل هذا الخطأ؟

لقد ارتكبنا هذا الخطأ في المقام الأول بتجاهل أيديولوجية الحزب الشيوعي الصيني، فبدلًا من الاستماع إلى قادة الحزب الشيوعي الصيني وقراءة وثائقه الأساسية، صدقنا ما أردنا تصديقه، وهو أن الحزب الحاكم الصيني هو شيوعي اسمًا فقط. واليوم، سيكون من الخطأ الفادح أيضًا افتراض أن هذه الأيديولوجية مهمة فقط داخل الصين؛ لأن أجندة الحزب الشيوعي الصيني الأيديولوجية تمتد في الواقع إلى ما هو أبعد من حدود الدولة، وتمثّل تهديدًا لفكرة الديمقراطية نفسها، بما في ذلك الديمقراطية الأمريكية، حيث لا تقتصر طموحات الرئيس الصيني “شي جين بينغ” في السيطرة على شعب الصين؛ بل يهدف الحزب الشيوعي في جميع أنحاء العالم إلى نشر الدعاية وتقييد الكلام واستغلال البيانات الشخصية لتحقيق أهدافه الخبيثة. وبناءً عليه، لا يمكن للولايات المتحدة ببساطة تجاهل أهدافه الأيديولوجية؛ بل يجب أن تفهم واشنطن أن الحرب ضد العدوان الصيني تتطلب أولًا الاعتراف به والدفاع عن أنفسنا ضده هنا في الداخل، قبل فوات الأوان.

إن الحزب الشيوعي الصيني ما هو إلا منظمة ماركسية لينينية نصبت نفسها بنفسها، ويعتبر “شي”، بصفته القائد الأعلى للحزب، نفسه خليفة لستالين. والماركسية اللينينية هي نظرة عالمية شمولية تؤكد أن جميع جوانب الحياة المهمة يجب أن تسيطر عليها الدولة، ومن ثَمَّ يُعبّر الحزب الشيوعي الصيني عن نيته للسيطرة على الفكر السياسي علانية ويتابعها بقوة، فعلى مدار سنوات عديدة، أكد قادة الحزب الشيوعي الصيني على أهمية “الأمن الأيديولوجي”، واعتبرت السياسة الصينية لعام 2013 بشأن “الوضع الحالي للأيديولوجيا” أنه لا ينبغي أن تكون هناك “أي فرصة أو منافذ على الإطلاق لنشر التفكير أو وجهات النظر غير الصحيحة”.

من جانبه، أشار الصحفي والمسئول السابق في الحكومة الأسترالية “جون جارناوت” إلى أن “القادة الصينيين يعتقدون بأن القوة تنبع من السيطرة على كل من ميدان المعركة المادي والثقافي”. فبالنسبة لهم “الكلمات لا تُعد أدوات للعقل والإقناع، بل إنها رصاصات، فالكلمات مخصصة لتعريف المعارضين وعزلهم وتدميرهم”.

ويتحول هذا النهج، داخل الصين، إلى جلسات دراسة إلزامية حول الأيديولوجية الشيوعية والاستخدام المطلوب لتطبيقات الهواتف الذكية التي تعلم “فكر شي جين بينغ”، وهو ما يستدعي رقابة شديدة على جميع وسائل الإعلام، ولذلك فالمصادر الخارجية للمعلومات محظورة، سواء الصحف الأجنبية أو تويتر أو الفيسبوك أو واتساب. كما أن الحزب الشيوعي الصيني يعيد تفسير النصوص الدينية، بما في ذلك الكتاب المقدس، لدعم أيديولوجيته، فيما يحبس ملايين الأويغور المسلمين والأقليات الأخرى في معسكرات إعادة التأهيل، حيث يتعرضون هناك للتلقين السياسي والعمل القسري.

 أما على الصعيد العالمي، فإن الجهود المبذولة لتوسيع نطاق هذه السيطرة على المعلومات والتعبير تجرى على قدم وساق. وتقريبًا فإن جميع المنافذ الإخبارية الناطقة باللغة الصينية في الولايات المتحدة مملوكة للحزب الشيوعي الصيني أو تتبع سياسته التحريرية، حيث يسمع الأمريكيون دعاية مؤيدة لبكين على أكثر من 12 محطة إذاعية على موجة إف إم. كما أن تطبيق “تيك توك” المملوك للصين يحذف الحسابات التي تنتقد سياسات الحزب الشيوعي الصيني. ومنذ أغسطس 2019، أزال تويتر أكثر من 170 ألف حساب مرتبط بالحزب الشيوعي الصيني لنشره دعاية “تلاعبية ومنسقة”، وليس من قبيل المصادفة أن تطرد الصين العديد من المراسلين الغربيين في الأشهر الأخيرة، إذ تريد بكين أن يحصل العالم على أخبارها، وخاصة حول أصل فيروس كورونا المستجد، من أجهزتها الدعائية الخاصة. كذلك يستخدم الحزب الشيوعي الصيني نفوذه بشكل متزايد للسيطرة على الخطاب الأمريكي، فبالإضافة إلى التأثير على المعلومات التي يتلقاها الأمريكيون بشأن الصين، يستخدم الحزب الشيوعي الصيني نفوذه بشكل متزايد للسيطرة على الخطاب الأمريكي.

وعندما غرَّد المدير العام لفريق “هيوستن روكتس” لكرة السلة داعمًا المتظاهرين السلميين في هونغ كونغ، أعلن الحزب الشيوعي الصيني أن ألعاب روكتس لن تُعرض على التلفزيون الصيني، فيما ضغط على الآخرين المرتبطين بالدوري، بما في ذلك النجوم، لانتقاد التغريدة. وتحت هذا الضغط الصيني، أزالت شركة “أمريكان” و”دلتا” و”يونايتد أيرلاينس” للطيران الإشارات إلى تايوان من مواقعها على الإنترنت والمجلات على متن طائراتها، كما اعتذرت شركة مرسيدس بنز عن نشر اقتباس ملهم من الدالاي لاما، في حين غيرت شركة “مترو جولدوين ماير” لإنتاج وتوزيع الأفلام الأمريكية جنسية الجيش الغازي من الصين إلى كوريا الشمالية في نسخة جديدة من فيلم “ريد دون”.  وسعيًا منها لاعتماد إتمام تصوير فيلم “مولان” للعام 2020، شكرت شركة “ديزني” مكاتب الأمن العام والدعاية في إقليم “شينجيانغ”، حيث يحتجز الحزب الشيوعي الصيني ملايين الأقليات في معسكرات اعتقال.

ويعمل الحزب الشيوعي الصيني أيضًا على جمع بيانات الأمريكيين، كلماتهم ومشترياتهم وأماكن تواجدهم والسجلات الصحية والمشاركات والنصوص والشبكات الاجتماعية، وذلك من خلال الثغرات الأمنية والأبواب الخلفية في الأجهزة والبرامج والاتصالات وغيرها من المنتجات، ويدير العديد منها شركاتٌ مدعومة من الحزب الشيوعي الصيني هواوي و”زي تي إي”، وكذلك عن طريق السرقة.

كما أن بكين اخترقت شركة “أنثيم” الأمريكية للتأمين الصحي في عام 2014؛ والمكتب الأمريكي لإدارة شئون الموظفين، الذي يحتفظ بمعلومات التصريح الأمني لملايين الموظفين الحكوميين، في عام 2015؛ وشركة إكويفاكس (للتقارير الائتمانية) عام 2017، وماريوت للفنادق عام 2019.  وفي هذه الحالات وحدها، جمعت الصين مركز معلومات أساسية عن نصف الأمريكيين الأحياء على الأقل، بما في ذلك أسماؤهم وتواريخ ميلادهم وأرقام الضمان الاجتماعي وعشرات كروت الائتمان والسجلات الصحية وأرقام جوازات السفر. وسيستخدم الحزب الشيوعي الصيني هذه البيانات بنفس الطريقة التي يستخدم بها البيانات داخل حدود الصين لاستهداف الأمريكيين والتأثير عليهم ومضايقتهم، وحتى ابتزازهم لقول وفعل أشياء تخدم مصالح الحزب الشيوعي الصيني.

كذلك يستخدم الحزب الشيوعي الصيني أيضًا التجارة للابتزاز. فعلى سبيل المثال، عندما دعت أستراليا إلى إجراء تحقيق مستقل في أصل فيروس كورونا وانتشاره، فرضت بكين تعريفة بنسبة 80٪ على صادرات الشعير الأسترالية، وهددت بالتوقف عن شراء المنتجات الزراعية الأسترالية تمامًا، وأشارت إلى أنها ستمنع الطلاب والسياح الصينيين من السفر إلى أستراليا. وفي الآونة الأخيرة، تردد أن الحزب الشيوعي الصيني أمر المستوردين بالتوقف عن شراء الفحم الأسترالي.

إن إعادة تشكيل المنظمات الدولية جزء آخر من خطة الصين، فقد سعت بكين إلى تولي مناصب قيادية في العديد من الهيئات العالمية، فهي الآن ترأس أربع وكالات من أصل 15 وكالة متخصصة تابعة للأمم المتحدة، أكثر من فرنسا وروسيا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة (الأعضاء الدائمون الآخرون في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة) مجتمعين. وتستغل بكين قادة هذه الوكالات من أجل مصالحها من استقطاب المؤسسات الدولية، وتركيب معدات الاتصالات الصينية في منشآتها، فقد شجع الأمين العام للاتحاد الدولي للاتصالات، “تشاو هولين”، بقوة مبيعات هواوي، فيما منع الأمين العام لمنظمة الطيران المدني الدولي، “فانغ ليو”، تايوان من المشاركة في اجتماعات الجمعية العامة، وتستر على اختراق إلكتروني صيني للمنظمة، ومكّنت عضوية الصين في مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة الحزب الشيوعي الصيني من منع انتقاد انتهاكاته في هونغ كونغ والتبت وشينجيانغ.

وفي كثير من الحالات، يمتد تأثير الحزب الشيوعي الصيني إلى رؤساء المنظمات الدولية حتى ولو لم يكونوا هم أنفسهم صينيين، فقد كرر المدير العام لمنظمة الصحة العالمية “تيدروس أدهانوم غيبريسوس”، الدعاية الصينية المضللة حول تفشي فيروس كورونا، وعارض قيود السفر الدولية على الصين، بينما أشاد بالقيود المفروضة على السفر المحلي في الصين.

ويدرك صانعو السياسة الأمريكيون، بقيادة الرئيس “دونالد ترامب”، ما يفعله الحزب الشيوعي الصيني ويتخذون إجراءات حاسمة لمواجهته على كافة الأصعدة، إذْ تقوم وزارة العدل ومكتب التحقيقات الفيدرالي بتوجيه الموارد لتحديد العملاء الأجانب الذين يسعون للتأثير على السياسة الأمريكية. فعلى سبيل المثال، أبلغت وزارة العدل، شركة الإعلام الحكومية الصينية بضرورة التزامها بشروط التسجيل كوكيل أجنبي على النحو المحدد بموجب قانون تسجيل الوكلاء الأجانب، والذي يتطلب من المسجلين الكشف عن أنشطتهم للسلطات الفيدرالية وتسمية مواد المعلومات التي يوزعونها بكل وضوح، كما صنّفت وزارة الخارجية عمليات تسع منافذ دعائية صينية تسيطر عليها الدولة في الولايات المتحدة على أنها “مهام أجنبية” – مما يتوجب عليها الإبلاغ عن الأفراد والممتلكات – كما أنها نفذت سياسات تتطلب من الدبلوماسيين الصينيين إخطار الحكومة الأمريكية، وفي بعض الحالات الحصول على إذن منها، قبل الاجتماع مع المسئولين الحكوميين المحليين والمؤسسات الأكاديمية.

ومن هنا، يجب على واشنطن أيضًا أن تستمر في فرض مزيد من التكاليف على بكين لإجبارها على وقف أو تقليل الأعمال التي تضر بالمصالح الوطنية الحيوية الأمريكية ومصالح حلفائها وشركائها. ولم يعد بإمكان الولايات المتحدة أن تدع الحزب الشيوعي الصيني يزداد قوة على حسابها أو بمساعدتها. لقد ولَّت أيام السلبية والسذاجة الأمريكية، وسوف تستمر في تحدي الحزب الشيوعي الصيني والرد عليه كما هو في الوقع، وليس كما تمنى صُناع السياسة الأمريكيون الأوَّلون أن يكون، وعليها أن تطلق استراتيجية الأمن القومي لعام 2017 على هذا النهج اسم “الواقعية المبدئية”.

إن السلام الدائم يأتي من القوة، والولايات المتحدة هي أقوى دولة على وجه الأرض، ويجب عليها أن تتحدث بصوتٍ عالٍ وتقاوم، وقبل كل شيء، أن تظل وفية لمبادئها– وخاصة حرية التعبير– التي تقف في تناقض صارخ مع الأيديولوجية الماركسية اللينينية التي يتبناها الحزب الشيوعي الصيني.

للاطلاع على الرابط الأصلي من هنا

ربما يعجبك أيضا