نيويورك تايمز| هل تُغذِّي فرنسا «الإرهاب» بمحاولة منعه؟

بسام عباس

كتب – بسام عباس

يضرب الإرهاب فرنسا مرة أخرى، ومرة أخرى يكشف الإرهاب التناقضات الخطيرة التي تعم البلاد.

أولاً، كان هناك مقتل “صمويل باتي”، مدرس التاريخ الذي قُطع رأسه بالقرب من باريس في 16 أكتوبر على يد شاب شيشاني بعد أن عرض باتي رسومًا كاريكاتورية ساخرة للنبي محمد على طلاب فصله الدراسي بزعم حرية التعبير. ثم، يوم الخميس، قُتل ثلاثة من رواد الكنيسة بالسكاكين في مدينة نيس الجنوبية، وكان المشتبه به الرئيس في ذلك الهجوم شاب تونسي هتف في وقت لاحق: “الله أكبر” في وجه ضباط الشرطة.

وبعد أيام من مقتل باتي، أعلن وزير الداخلية “جيرالد دارمانين” عن حملة لملاحقة “مَنْ ينشرون الكراهية عبر الإنترنت”، ثم أصدر قرارًا بحل جمعية “بركة سيتي”، وهي منظمة إنسانية غير حكومية، تقول الحكومة إنها أعربت عن “سرورها بتبرير الأعمال الإرهابية”.  كما هددت الحكومة بحظر مركز “كوليكتف ضد الإسلاموفوبيا في فرنسا”، وهو منظمة غير ربحية تواجه العنصرية ضد المسلمين، ووفقًا لتصريحات “دارمانين”، فإن المركز يعمل “ضد الجمهورية”.

وبالإضافة إلى التدابير الأمنية لمكافحة الإرهاب، ردَّت الحكومة الفرنسية على مقتل باتي بإعادة التأكيد بقوة على حق حرية التعبير – بما في ذلك حرية التهكم من الرموز الدينية – بالإضافة تأكيد الدور المركزي للنسخة الفرنسية من العلمانية، والمعروفة باسم “اللائكية”، داخل جميع مؤسسات الدولة، وخاصة المدارس الحكومية.

وفي تأبينه للمدرس باتي، قال الرئيس “إيمانويل ماكرون” إن باتي قُتل لأنه “يجسّد الجمهورية الفرنسية”، وأكد باسمه أنه “سيرفع اللائكية عاليًا”. غير أن مفهوم الحكومة الفرنسية للإسلام الراديكالي يقوم أيضًا على افتراض إشكالي قائم على فكرة أن السبب الرئيس للإرهاب في فرنسا هو فشل المسلمين الفرنسيين في تبني الثقافة العلمانية للبلاد بشكل كامل.

وفي بداية أكتوبر، وقبل عمليات القتل الأخيرة، أعلن ماكرون خطة حكومية جديدة، بما في ذلك مشروع قانون شامل “لتعزيز اللائكية وترسيخ المبادئ الجمهورية” من أجل مكافحة ما أسماه “الانفصالية”.

ويبدو أن فكرة الرئيس عن “الانفصالية” تفترض أن أقلية كبيرة من المسلمين تميل إلى تمييز نفسها بطريقة أو بأخرى عن بقية المجتمع الفرنسي، ربما عن طريق إنشاء جيوب في الضواحي المحرومة أو بناء بيئات إسلامية من نوع ما حول المدارس الإسلامية أو متاجر الحلال أو المساجد. لكن عملية التشخيص هذه مشكوك فيها، وتحمل مخاطر هزيمة الذات، فهي بحدّ ذاتها تُعرّض التماسك الاجتماعي للخطر.

وتتمثل إحدى مشكلات هذه الفكرة في أنها تعامل المسلمين ضمنيًّا كما لو كانوا فئة منفصلة من الشعب الفرنسي، ومواطنين غير ناضجين ينقصهم إدراك فكرة الجمهورية العلمانية. ولكن في الحقيقة، كشفت العديد من الدراسات والكثير من الأبحاث الإحصائية، بما في ذلك تلك التي أجراها المعهد الوطني للدراسات الديموغرافية، أن غالبية المسلمين في فرنسا مندمجين جيدًا ثقافيًا واجتماعيًا (رغم أنهم أقل من الناحية الاقتصادية، ويرجع ذلك جزئيًّا إلى التمييز الوظيفي ضدهم في سوق العمل).  ووصف عالم السياسة “برونو إتيان” ذات مرة مسلمي فرنسا بأنهم “طبيعيون بشكل غير طبيعي”.

وربما نظر كثير من المسلمين في فرنسا، في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، إلى “العلمانية” على أنها مرادف لمناهضة الأديان أو الإلحاد المؤسسي، لكن هذا التفكير قد تغير منذ فترة طويلة. فبالعودة إلى عام 2004، أعرب اتحاد الجمعيات الإسلامية في فرنسا، وهو منظمة إسلامية محافظة، عن رأيه في قانون جديد مثير للجدل يحظر ارتداء الرموز الدينية في المدارس، قائلًا: “كنّا نودُّ عدم وجود هذا القانون، لكن قانون العلمانية موجود هنا وسنطبقه”.

وقالت نسبة الثلثين من المشاركين المسلمين في دراسة أجراها المعهد اليميني “معهد مونتين” عام 2016، إنهم يعتقدون أن الدولة العلمانية تسمح بحرية التعبير الديني. وفي دراسة أخرى صدرت العام الماضي، قال 70٪ من المسلمين الذين شملهم الاستطلاع إنهم يشعرون بأنه يمكنهم ممارسة الإسلام بحرية في فرنسا. كما قال حوالي 41% إنهم يعتقدون أن الإسلام يجب أن يتكيف في بعض النواحي ليتوافق مع العلمانية، ولكن 37% قالوا إنهم يرغبون في أن تكون العلمانية أكثر مرونة.

وعندما ينتقد مسلمو فرنسا العلمانية اليوم، فهم لا ينتقدون نسخة الجمهورية العلمانية المنصوص عليها في قانون 1905 حول الفصل بين الكنيسة والدولة، فهذا القانون يهدف إلى حماية حرية المعتقد من خلال مطالبة الدولة الفرنسية ومؤسساتها بالبقاء محايدة تمامًا عندما يتعلق الأمر بالدين، حيث نص القانون على: “لا تعترف الجمهورية بالطوائف ولا توظّفها ولا تدعمها”.

أما المسلمون الذين ينتقدون العلمانية فيفعلون ذلك عادةً ضد ما يرونه تفسيرًا أحدث وأكثر أيديولوجية، والذي يُلقِي في بعض الأحيان باللوم على المسلمين لفشلهم في الاندماج، فضلًا عن الأمراض الاجتماعية الأخرى. كما أنهم يشعرون ويخشون أن هذا المبدأ الليبرالي المتأصل أصبح غطاءً للعنصرية ضد المسلمين، وهو مفهوم جرى تشويهه ونشره ليعطي العنصرية صورة محترمة ومقبولة.

من جانبه، حذر “جان بوبيرو”، المؤرخ والخبير في علم اجتماع الأديان قائلًا: “لنتوقفْ عن استخدام العلمانية ضد الإسلام”. ومن المثير للدهشة، على سبيل المثال، أن حزب “مارين لوبان” اليميني المتطرف، حزب التجمع الوطني، يضع نفسه الآن على أنه آخر معقل للقيم الجمهورية الفرنسية، بما في ذلك اللائكية، رغم أن بعض الكاثوليك المحافظين من بين أعضاء الحزب الأساسيين لا يهتمون كثيرًا بهذه الفكرة؛ بل تحول المبدأ الكوني الذي دافع عن التقدم يومًا ما، إلى مجرد شعار حزبي. ويميل الخطاب السياسي السائد في فرنسا أيضًا إلى توبيخ المسلمين الفرنسيين لفشلهم في إدانة التطرف الإسلامي بوضوح، بيدَ أن هذا الاتهام لا يعكس سوى حالة من عمى الألوان لدى النخبة السياسية.

وفي أثناء بحثي الخاص، وجدت أمثلة عديدة لجماعات إسلامية تدين الإرهاب، فبعد هجمات عام 2015، دعا اتحاد قيادي للجماعات الإسلامية أئمة المساجد إلى الدعاء في صلاة الجمعة أن “يحفظ الله فرنسا”، ويؤدي المسلمون العديد من الصلوات تعبيرًا عن التضامن مع ضحايا الإرهاب الإسلامي من غير المسلمين، وبالطبع، يكون المسلمون أيضًا من بين الضحايا. وقد أصبح إمام مدينة بوردو أحد أبرز الشخصيات الداعية لمنع التطرف في فرنسا.

كما أن قلق الحكومة بشأن “الانفصالية” الإسلامية يمثل إشكالية في الخلط بين ظاهرتين مختلفتين: الإرهاب الإسلامي الذي يهاجم رموز الأمة الفرنسية من ناحية، ومن ناحية أخرى، الطائفية الإسلامية، التي هي تعبير عن هوية بعض المسلمين كمواطنين فرنسيين ومؤمنين بالإسلام.

ومن هنا، فإن التحذير من الخطر المزعوم للانفصالية لن يساعد في حشد المسلمين الفرنسيين ضد التطرف أو تشجيعهم على الانتماء إلى الأمة، بل سيؤدي إلى النقيض من ذلك تمامًا، ولن يؤدي خطاب الحكومة الفرنسية إلا إلى إقناع بعض المسلمين بأنهم مختلفون بالفعل عن الفرنسيين الآخرين، وربما يسرع قادة البلاد في حدوث ما يخشونه، ألا وهو: هوية ومجتمع مسلم منفصل داخل فرنسا.

الرابط الأصلي من هنا

ربما يعجبك أيضا