الصحافة الفرنسية|فرنسا بين أزمتي كورونا والهجوم على الإسلام.. وكيف استعدت باريس لدعوات مقاطعة منتجاتها؟

مترجمو رؤية

من جديد.. فرنسا تحت الحجر في مواجهة كوفيد-19

سلّطت جريدة “لوبوان” الضوء على التطورات السريعة لانتشار فيروس كوفيد-19 في فرنسا. فعلى أمل كسر الموجة الثانية من الوباء، قررت باريس حماية نفسها مرة أخرى، وإعادة فرض الحجر الصحي لمدة شهر على الأقل؛ حيث تخشى الحكومة من أن تكون الموجة الثانية أكثر فتكًا من الأولى وتوجه ضربة قاسية لاقتصاد البلاد.

وأثناء إعلانه هذه الإجرات، أصر رئيس الوزراء الفرنسي “جان كاستيكس”، على أنه لا يوجد “حل آخر” لمحاولة وقف تفشي الوباء. وفي أعقاب كلمات رئيس الجمهورية في اليوم السابق، حذر كاستيكس قائلًا: “كنا قد توقعنا الموجة الثانية، لكن الذروة التي سيشهدها شهر نوفمبر ستكون أعلى من تلك التي شهدناها في أبريل الماضي”.

ووفقًا لاستطلاع أجرته موسسة أودوكسا دنتسو للاستشارات لصالح جريدة لوفيجارو وموقع فرانس انفو، فإن سبعة من كل 10 فرنسيين يؤيدون إعادة فرض الحجر الصحي، لكن ذلك لم يمنع خروج عدة مظاهرات، شارك فيها بضع عشرات، في باريس وعدة مدن فرنسية أخرى احتجاجًا على الحجر، كما صوّت البرلمان على قرار الحكومة، حيث وافق على استراتيجية الحكومة بأغلبية 399 صوتًا مقابل 27، بينما رفض مجلس الشيوخ، الذي يهيمن عليه اليمين، دعم قرارها، فيما ارتفعت أصوات المعارضة في كل من مجلس الشيوخ والجمعية الوطنية، على الرغم من الانطباع الذي أعطته الغالبية العظمى من النواب بوجود إجماع حول قرار الحكومة.

وقال رئيس تجمع الجمهوريين في مجلس الشيوخ، السيد برونو ريتايو: إن هذا التصويت يكرس الإخفاقات المتراكمة للحكومة والعجز عن استباق الأمور، لافتًا إلى أن طرح القرار للتصويت هو أمر “عديم الجدوى” لأنه لا يستطيع التأثير على قرار رئيس الجمهورية. ومن جانبها قالت السيدة فاليري رابو، رئيسة مجموعة النواب الاشتراكيين، صوت البرلمان “بنعم الغاضبة” على استراتيجية الحكومة، بينما اتهم زعيم حزب فرنسا الأبية السيد جان لوك ميلينشون الحكومة بأنها تفاجأت بالأزمة.

حجر صحي يختلف عن سابقه

ومن المقرر أن تختلف شروط هذا الحجر الذي أعلنه رئيس الدولة ويستمر حتى الأول من شهر ديسمبر كحد أدنى، عن تلك الخاصة بحجر الربيع الماضي، لأن الحكومة، وفقًا لما أكده السيد كاستكس، قد تعلمت من الموجة الأولى. فكما حدث في مارس وأبريل الماضيين، سيتم السماح بالذهاب للتسوق والذهاب إلى الطبيب، لكن سيتم أيضًا السماح بالخروج لاستنشاق الهواء لمدة ساعة واحدة كحد أقصى في دائرة قطرها كيلومتر واحد حول المنزل، وسيتم الإبقاء على الغرامة عند 135 يورو.

وقد تم إجراء ثلاثة تغييرات رئيسية مقارنة بفترة الحجر الماضية، حيث ستظل المدارس والكليات والمدارس الثانوية مفتوحة، وسيمكن للعمل أن يستمر، ويمكن أيضًا زيارة دور رعاية المسنين، لكن سيتم إيقاف الأنشطة غير المدرسية للأطفال، مثل الرياضة والموسيقى.

وفيما يخص العمال، قالت وزيرة العمل إليزابيث بورن: “يجب أن يتم تعظيم اللجوء إلى العمل من المنزل بقدر الإمكان أثناء الحجر الصحي، وأن يتم استيفاء خمسة أيام عمل في الأسبوع. ووفقًا لرئاسة الوزراء: “لا يوجد بديل عن الالتزام”. وعلى الصعيد الاقتصادي، سينخفض ​​النشاط هذه المرة بنسبة 15٪ بعد أن انخفض بنسبة 30٪ خلال فترة الحجر الأولى، وستظل جهات تقديم الخدمات العامة وأسواق المواد الغذائية مفتوحة ما لم يقرر المحافظ خلاف ذلك. لكن الشركات التي تعدّ غير أساسية، بما في ذلك الحانات والمطاعم، ستبقى مغلقة، غير أن جيوفري رو رئيس جمعية أرباب العمل الفرنسية، يرى أن هذا الإجراء “خطأ” وقد يكلف الدولة “ما بين 50 و75 مليار يورو من الناتج المحلي الإجمالي”.

وقد أدى الأسلوب الذي تنتهجه الحكومة في الحجر الصحي أيضًا إلى حدوث نزوح جماعي حقيقي على طرق منطقة إيل دو فرانس، حيث جرى تسجيل أكثر من 700 كيلومتر من الاختناقات المرورية التراكمية. وفي مواجهة الوضع المتدهور إلى حد كبير في جميع أنحاء القارة، أعلن الاتحاد الأوروبي عن تخصيص220 مليون يورو لتمويل عمليات نقل مرضى كورونا من دولة إلى أخرى، وذلك بالاعتماد على تعاون أفضل بين الدول الأعضاء لتسهيل هذه العمليات.

فرنسا عند ملتقى خطرين

من جانبها، ألقت جريدة “لوموند” الضوء على التحديات الفرنسية الراهنة؛ فبينما تتسارع حدة تفشي وباء كورونا، يجب على فرنسا أن تواجه أيضًا الهجمات الإرهابية في كونلان سانت أونري ونيس، بسبب الشمولية الأصولية التي تسعى إلى فرض الحرب الأهلية عليها، كما يجب أن تواجه فرنسا، في هذه الأيام المظلمة، مجموعة من الأخطار التي يتعرض لها عددٌ قليلُ جدًّا من بلدان العالم لمواجهتها في أوقات السلم. فوباء كوفيد-19، الذي تضاعفت شراسته، يقترن مع اندلاع موجه جديدة من أعمال الإرهاب الإسلاموي ذات الفظائع المروعة، ويبعث هذا التهديد المزدوج على الشعور بحالة من اليأس بسبب تكررها من جديد.

وبالرغم من قلة عدد إجراءات الحجر الصحي مقارنةً بما كانت عليه في مارس الماضي، غير أن مجرد دخولها حيز التنفيذ يقدّم اعترافًا بوجود حالة من العجز أكثر قسوة مما كانت عليه في الربيع الماضي، حيث لجأنا إلى الحجر كملاذ أخير، وهذه الوسائل القديمة والسلبية الضارة باقتصادنا وحياتنا الاجتماعية والثقافية، إنما نلجأ إليها فقط لتجنب حدوث الأسوأ، وعندئذٍ يصبح الحجر ضروريًّا لمحاولة إبطاء الآثار الرهيبة والارتفاع في عدد المرضى والقتلى الذين ستأسف عليهم الدولة في الأيام المقبلة، تمامًا كما ستفعل جيرانها أيضًا.

استراتيجية واضحة

وبعد حادث مدرس التاريخ صموئيل باتي، أعاد حادث اغتيال ثلاثة من المصلين بكاتدرائية نوتردام في نيس على يد إرهابي إسلاموي التذكير بأصداء هجمات عامي 2015 و 2016. فبعد مذبحة رسّامي الكاريكاتير في شارلي إبدو، لا يزال الرفض المتعصب للرسوم الكاريكاتورية للنبي محمد سببًا للأعمال البربرية. وبعد مذبحة بروميناد ديزونغليه في يوليو 2016، ضرب الإرهاب قلب مدينة نيس مرة أخرى، وبعد اغتيال الأب جاك هامل، في نفس الشهر من عام 2016 في سانت إتيان دو روفراي، لا يزال الإرهاب الجهادي يصل لداخل الكنائس.

وفي الواقع لا تزال الأفعال المشينة والاستراتيجية التي تقف وراءها، والتي يتم التنظير لها منذ سنوات، واضحة للعيان، فعبر الدخول إلى مكان العبادة، لا يستهدف القاتل الطعن فقط، بل الأماكن والمجتمع الكاثوليكي في فرنسا. لقد سعى بعمله هذا إلى الغضب والانتقام،  على غرار أسلافه، من أجل الانتقام الأعمى الذي من شأنه أن يدخل البلاد بأكملها في نفق إمبراطورية الكراهية، وبسبب عدم تحقيق ذلك حتى الآن، يقاوم الفرنسيون أي إغراء برد فعل عنيف. لكن يبدوا أن المتوحشين من المتطرفين الإسلامويين، هذه الطائفة المضللة من المسلمين، بدأوا يضاعفون الضربات.

ويمتلك بلدنا القدرة التامة على تدمير هذا المشروع الذي يسعى لفرض الشمولية الأصولية عليه من خلال الحرب الأهلية؛ بشرط ألا نفرط تمامًا في قيم الديمقراطية والسلام. وبما أن أولى المهام المنوطة بالدولة في الأنظمة الديمقراطية تتمثل في حماية الشعب، فإن النقاش الذي تشهده الدولة الفرنسية حاليًا يبحث بشكل منطقي في وسائل مكافحة الإرهاب، وكذلك وسائل تحقيق  الأمن الصحي. والتقييم المستمر والنقدي للسياسات المتبعة، لا سيما من قبل المعارضة، هو من حتميات تلك اللعبة السياسية، ويجب أن تكون السلطة التنفيذية والمؤسسات قادرة على إدراك أنه في هذه المعركة القاسية ضد الجهادية، وفي هذه المعركة التي لا هوادة فيها ضد فيروس كورونا، يمكن ارتكاب أخطاء، ويجب تحسين الأنظمة.

لسنا في حالة حرب             

لسوء الحظ، ومن خلال تزامنهما، فإن الأزمتين الرئيسيتين في فرنسا حاليًا تبرزان العطب الواضح في عمل مؤسسات الدولة؛ فحالات الطوارئ الصحية أعقبت حالات الطوارئ الأمنية، وجرى تأجيل الانتخابات، وازدادت آليات الطوارئ، وصار رئيس الجمهورية يظهر بمفرده في عملية صنع القرار الشاقة بشكل متزايد. وكدليل على هذا العطب في عمل المؤسسات، يبرز النقاش الإجباري في الجمعية الوطنية حول إعادة فرض الحجر الصحي، والذي جاء في وقت متأخر جدًا، وأعقبه صدمة الهجوم الإرهابي على مدينة نيس.

وفي الواقع، تزداد إعاقة المناقشات داخل وخارج الساحة السياسية بسبب المزايدات اللفظية. ومهما بلغت مأساوية الأوقات التي نمر بها، إلا أننا لسنا في حالة حرب، هكذا اختار إيمانويل ماكرون دون قصد أن يصف الأمر خلال خطابه الأول حول وباء كوفيد-19. ومهما كانت قسوة الضربات والخسائر التي نتكبدها، يجب عدم محو قوانين زمن السلم في مواجهة الظروف الاستثنائية.

وأمام الصدمات العنيفة، مثل الهجمات الإرهابية وهذا الوباء الخارج عن السيطرة، من الطبيعي أن تتعارض الخيارات وتتباين الرؤى. لكن الغضب والخوف يحملان الخطاب العدواني إلى أبعد من هذه الحدود، لأنهما يغذّيان المعسكرين المتضادين بما يقوّض التضامن الوطني الذي لا غنى عنه من خلال معارضة الأجيال “الساذجة” ضد “الذكية”، و”الشجاعه” ضد “الجبانة”. ويبقى رفض هذه التجاوزات واستعادة الحيوية لحياتنا الديمقراطية شرطًا أساسيًّا للتغلب على الشرور التي تصيبنا دون إنكار أنفسنا.

باريس تُظهر الحزم في مواجهة دعوات المقاطعة

وأبرزت جريدة “ليبراسيون” رد الفعل الفرنسي على المطالبات بمقاطعة منتجاتها، وذلك بعد أن تصاعدت الأعمال الانتقامية التجارية ضدها في منطقة الشرق الأوسط على شبكات التواصل الاجتماعي؛ ما أجبر السلطات الفرنسية على شن هجوم دبلوماسي مضاد. يقول جيوفروى رو دي بيزيو، رئيس جمعية أرباب العمل الفرنسية : “هذه أخبار سيئة للشركات التي تعمل هناك، ولكن ليس هناك ثمة فرصة للاستسلام لهذا الابتزاز”.

وتتبنى الجمعية نفس الموقف الحازم الذي تتخذه السلطة التنفيذية في مواجهة دعوات المقاطعة التي تضاعفت في الأيام الأخيرة، اعتراضًا على تعليقات الرئيس ماكرون على الرسوم الخاصة بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم. وبالنسبة لرئيس الجمعية الفرنسية؛ فقد حان الوقت للمقاومة الدبلوماسية والسياسية أكثر من الأعمال التجارية، حيث يقول: “هناك وقت يتعين علينا فيه إرساء المبادئ قبل التفكير في تنمية أعمالنا”.

كان ماكرون قد نشر سلسلة تغريدات متتالية ليوضح موقف فرنسا، لا سيما إلى دول الخليج، التي شهدت تطبيق القرارات الرمزية ضد المنتجات والأفكار الفرنسية على مدار ثلاثة أيام. ولضمان وصول الرسالة لأكبر قدر ممكن، كتب رئيس الدولة رسالة بالفرنسية والإنجليزية والعربية على صفحته الرسمية بموقع تويتر جاء فيها: “لا شيء يجعلنا نتراجع أبدًا.. نحن نحترم كل أوجه الاختلاف بروح السلام، ولا نقبل أبدًا خطاب الحقد وندافع عن النقاش العقلاني، وسنقف دومًا إلى جانب كرامة الإنسان والقيم العالمية”. كما أصدرت وزارة الخارجية الفرنسية بيانًا نص على أن “دعوات المقاطعة ليس لها أي هدف ويجب أن تتوقف على الفور، فضلًا عن جميع الهجمات الموجهة ضد بلدنا، على يد أقلية متطرفة”.

مظاهرات في طرابلس وغزة

ومستهدفةً السيارات والدجاج والأجبان، تسعى الدعوات القائمة منذ أيام إلى مقاطعة المنتجات الفرنسية في قطاعات كالأغذية الزراعية ومستحضرات التجميل وغيرها. وهذه الدعوات تنتشر بشكل رئيسي على شبكات التواصل الاجتماعي في العديد من دول العالم الإسلامي، وتتسبب بإثارة مخاوف من العواقب الاقتصادية المحتملة على الشركات الفرنسية، كما تستند هذه الدعوات إلى تصريحات أدلى بها ماكرون خلال التكريم الوطني للمعلم صمويل باتي، حيث قال حينها: “لن نتخلى عن الرسوم الكاريكاتورية، وسنواصل الكفاح من أجل الحرية والعقل”، في إشاة إلى مُعلّم التاريخ الذي فَقَدَ حياته في كونفلانس سانت أونورين بعد نشره رسومًا مسيئة للنبي محمد صلى الله عليه وسلم أثناء محاضرة حول حرية التعبير.

وأُحرقت صور الرئيس الفرنسي في العاصمة الليبية طرابلس، حيث استجابت مجموعة صغيرة من 70 شخصًا لدعوة التظاهر، ولوحظت ردود فعل مماثلة في قطاع غزة، حيث تجمّع نحو 200 شخص خارج منزل السفير الإسرائيلي في يافا، وجرى التخطيط لأحداث أخرى في تونس وسوريا. وقالت وزارة الخارجية المغربية: إن المملكة “تُدين بشدة استمرار نشر الرسوم المسيئة للإسلام والنبي”. واستنكرت السلطات في بيان “الأعمال التي تعكس عدم نضج الجناة”، وتؤكد “أن حرية البعض تنتهي حيث تبدأ حرية ومعتقدات الآخرين”. وفي الأردن، وصف وزير الشئون الإسلامية الرسوم الكاريكاتيرية بأنها “جريمة تُحرّض على العنف”.

الرغبة في إثارة الكراهية

ومع توتر العلاقات بين باريس وأنقرة بشكل متزايد، كان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان من أوائل القادة الذين ردوا رسميًّا على خطاب ماكرون، حيث شكك في الصحة العقلية للرئيس الفرنسي. وفي غضون ذلك، استدعت باريس سفيرها في أنقرة، وقال رئيس الدبلوماسية الفرنسية السيد جان إيف لودريان: قمنا بهذا العمل للرد على “الرغبة في إثارة الكراهية ضدنا وداخل بلادنا، والشتائم المباشرة ضد رئيس الجمهورية”.

ولم يمنع ذلك أردوغان من مقارنة معاملة المسلمين في أوروبا بمعاملة اليهود قبل الحرب العالمية الثانية، متهمًا بعض القادة الأوروبيين بالفاشية والنازية. وقال الرئيس التركي في كلمة ألقاها في أنقرة: “هناك حملة إعدام ضد المسلمين شبيهة بتلك التي استهدفت يهود أوروبا قبل الحرب العالمية الثانية”. كما دعا إلى المقاطعة قائلًا: “إنني أخاطب أمتي هنا: قبل كل شيء، لا تهتم بالعلامات التجارية الفرنسية، ولا تشتريها”. لكن المتحدث باسمه “إبراهيم كالين” أخذ يخفّف من حدة الأزمة الدبلوماسية الحالية من خلال إدانة “الاغتيال البشع” لصمويل باتي.

من جهتها، دعت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الفرنسية، سلطات الدول إلى “النأي بنفسها” و”ضمان أمن” الفرنسيين في الأردن أو الكويت أو باكستان أو المغرب. ووصفت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل الهجمات التي شنّها أردوغان على إيمانويل ماكرون بأنها “تشهيرية”، بينما قال ستيفن سيبرت المتحدث باسم الحكومة الألمانية: “هذه تصريحات غير مقبولة على الإطلاق”، لا سيما في سياق “القتل المروع للمعلم الفرنسي صموئيل باتي على يد متطرف إسلاموي”.

كرامة ومسئولية المواطنين المسلمين في فرنسا

وتحت عنوان “كرامة ومسئولية المواطنين المسلمين في الجمهورية الفرنسية”، نشرت جريدة “لاكروا” وثيقة لأعضاء من معهد الدراسات الإسلامية العليا بفرنسا (IHEI) يردّون من خلالها على خطاب الرئيس ماكرون بشأن مشروع قانون مناهضة الانفصالية، فالمعهد وأعضاؤه معروفون ونشطون لأكثر من 20 عامًا في المشهد الإسلامي في فرنسا.

ونصّت الوثيقة على أن الجريمة البربرية التي أودت بحياة المعلم صموئيل باتي في 16 أكتوبر تُوضّح بشكل مأساوي عواقب التلاعب بالإسلام لتحقيق مكاسب شخصية وعقائدية. فهؤلاء الإرهابيون الذين يُزعمون أنهم يقتلون من أجل الإسلام ينتهكون كلًّا من اسم الله وحرمة الإنسان. يقول النبي محمد صلوات الله عليه: ” الإنسان بنيان الله، ملعون من هدمه!».

إن المشاعر التي سادت بلدنا مشروعة، ولكن بخلاف هذه المشاعر، يجب عمل كل شيء لضمان عدم تكرار مثل هذه الجرائم مرة أخرى، وهذا يعني التفكير في كيفية الاستعداد للمستقبل. وفي خطابه يوم 2 أكتوبر 2020، عرض رئيس الجمهورية المحاور الخمسة لاستراتيجية تهدف إلى خلق “صحوة جمهورية” في مواجهة مخاطر “الإسلام الراديكالي”، وأشار في هذه المناسبة إلى أن المشروع لا يتعلق بـ”استهداف من يريدون الإيمان بالإسلام لأن هؤلاء مواطنون كاملون في جمهوريتنا”. ومع ذلك، قد تكون بعض تصريحاته قد أساءت إلى مشاعر العديد من المسلمين في فرنسا وأماكن أخرى حول العالم، الذين اعتبروا الرغبة في “بناء إسلام تنويري في فرنسا” هجومًا على كرامتهم الدينية والمدنية، بما يحتويه هذا الأمر من خلق إسلام لا مركزي.

وفي الواقع، إذا كانت الإشارة إلى “التنوير” تشير إلى التيار الفلسفي الذي وُلِدَ في القرن الثامن عشر في أوروبا، والذي جعل العقل البشري المعيار المطلق للحقيقة، فإن مثل هذه الملاحظات قد تُفسَّر بشكل سلبي، كما لو أن الإسلام نفسه كان مرادفًا للظلامية والجهل، وكأن العقلانية ستحمي المجتمع الفرنسي والمسلمين من الإرهاب، كما لو أن المسلمين، قبل كل شيء، لم يكن لديهم بالفعل في تراثهم الفكري والروحي والثقافي جميع الموارد ليعيشوا دينهم بذكاء في وئام مع القيم الجمهورية.

وفي الواقع، ينظر الإسلام إلى العقل في ضوء الإيمان، ويرتبط كل منهما بمصدره الإلهي المتمثل في سر الروح. لقد علّم أساتذة مسلمون مثل الغزالي وابن عربي والرومي أو الأمير عبد القادر والميتافيزيقي رينيه غينون كيفية التوفيق بين الوحي والإيمان والعقل، وكيف يتغلبون قبل كل شيء على معارضاتهم النسبية من الأعلى، عبر ضياء القلب. إن إعطاء أهمية مبالغ فيها للعقل، من خلال السعي إلى تحرير مبدأه الحيوي، يمكن أن يؤدي إلى ظهور “انفصالية” خطيرة عبر توليد محاكاة ساخرة لإسلام مقطوع من جذوره، حروف بلا روح، وصدفة بلا معنى، يصبح فريسة لكل المؤثرات الضارة وكل التيارات الأيديولوجية.

ولا يمكن أن يمثل تبني النماذج العقلانية المخرج الوحيد في مواجهة التطرف، ولا الوسائل المميزة للتكيف المفترض للمسلمين مع المجتمع الفرنسي؛ فالغالبية العظمى من المسلمين في فرنسا يعيشون عقيدتهم براحة بال واحترام للقانون، وهم يشهدون على توافق مبادئهم الروحية وممارساتهم مع القيم الديمقراطية، وتجنب الحرفيّة العمياء، والمحافظة التي عفا عليها الزمن، والإصلاح العقلاني، والسبب وراء كونهم مواطنين فرنسيين صادقين هو نتاج هويتهم الروحية، وليس التكيف السلبي مع البيئة الاجتماعية.

نحن نرحّب برغبة الرئيس ماكرون “في العمل ودعم كل ما من شأنه أن يسمح لنا، في بلدنا فرنسا، بتصدير فهم أفضل للإسلام،  وللتعرف على بعضنا البعض بشكل أفضل لأن هذا يمثل تحديًا بالنسبة لنا، لكننا نعتقد أن معرفة الإسلام، حتى تكون وفية لروحه، لا يمكنها الاستغناء عن مساهمة المثقفين المسلمين، الذين يساهمون في إحياء الفهم وعدم تراجع مبادئه بكل ما تحتويه من قيم العالمية، بما يتوافق مع عصرنا.

وكمثل الأجيال السابقة في مناطق أخرى من العالم، فإن مسلمي فرنسا مدعوون لمواصلة رحلتهم الداخلية والوفاء بالتزاماتهم في المجتمع، في الأماكن والأوقات التي وضعتهم فيها العناية الإلهية، على غرار النبي محمد صلوات الله عليه الذي “أُرسل رحمة للعالمين”. وتمثل العبودية الروحية، وحكمة الإيمان، وإدراك المقدسات والشعور بالمسئولية أمام الله تعالى وتجاه جميع المخلوقات، السمات الأساسية للنموذج النبوي الذي يحاول المسلمون المخلصون الالتزام به.

وهذا النموذج والأسلوب النبوي هو تعهد بالصلاح والموثوقية، وهو أيضًا تعهد بالأخوة والتضامن مع جميع البشر، بغض النظر عن انتمائهم أو أصلهم أو هويتهم، وهو نوع من القيمة المضافة لخدمة الصالح العام والحفاظ عليه.

ربما يعجبك أيضا