الجارديان | باتفاق لن يرضي أحدًا.. بوريس جونسون يُتمّم “البريكست”

آية سيد

ترجمة: آية سيد

لم يكن البريكست مشروعًا اقتصاديًّا، فقد كان دائمًا يتعلق أكثر بما قيل في ورقة الاقتراع في 2016. كان البريكست يتعلق بتوقف بريطانيا عن كونها عضوًا في الاتحاد الأوروبي، فهم مؤيدو الرحيل هذا، وعلى العكس، لا يزال مؤيدو البقاء يصارعون معه. وبالنسبة للكثيرين من مؤيدي البقاء، لا بد أن البريكست وكيل لشيء آخر: المشاعر المُعادية للمهاجرين، أو ربما الاستضعاف الاقتصادي، أو حنين ما بعد عصر الإمبريالية. تلك القضايا كانت ذات صلة بالبريكست، لكنها لم تكن النقطة الرئيسية على الإطلاق.

كانت مغادرة الاتحاد الأوروبي اقتراحًا سياسيًّا مشحونًا عاطفيًا، وليس اقتراحًا اقتصاديًّا. لقد كانت رغبة متأصلة في رؤية للسيادة البريطانية يغمرها مزيج متهور من الحنين إلى الماضي والإحساس الزائف بكونهم ضحايا، الذي يشعله الإعلام البريطاني، والتي تسببت في الخطأ الجسيم المتمثل في الخلط بين السيادة والقوة، وسوف تؤدي حقيقة ذلك الخطأ إلى تداعيات في الشهور والسنوات المقبلة، لكن البريكست لم يكن يتعلق مطلقًا بسعر البطاطس أو السيارات. وفي النهاية، لم يكن يتعلق حتى بالدفاع عن الانتصار الدبلوماسي المشترك لبريطانيا في العقود الأخيرة، ألا وهو اتفاقية السلام مع أيرلندا الشمالية.

يجب النظر إلى الضجة الأولية عشية الكريسماس حول اتفاق التجارة مع الاتحاد الأوروبي من ذلك المنظور. إن العناوين الحمقاء التي تحتفي بالبريكست تخفي حقيقة أن ما يُحتفى به هو في الواقع اتفاق هزيل وخبر اقتصادي سيئ لبريطانيا، لكن الاقتصاد كان دائمًا أمرًا ثانويًّا في البريكست. إن الاتفاقيات التجارية، مثل الترتيبات الاقتصادية بشكل عام، ليست ضمن الأهداف الأولية للبريكست لكنها عواقب ثانوية، ولو كانت التجارة الحرة هي الهدف، كانت بريطانيا ستبقى في السوق الواحدة والاتحاد الجمركي، وكان من السخافة أيضًا أن يتظاهر بوريس جونسون بأن اتفاق الاتحاد الأوروبي سيخلق “منطقة تجارة حرة ضخمة”. كانت هناك واحدة بالفعل، وهذا الاتفاق لا يقول الكثير عن الخدمات.

إنَّ ما جرى الاتفاق عليه هذا الأسبوع هو اتفاق تجاري أسوأ مما كان موجودًا عندما كنا دولة عضو في الاتحاد الأوروبي. لقد طردت بريطانيا نفسها من الاتحاد الأوروبي لأن السيادة هي ما يهم فعلًا لبريطانيا ما بعد البريكست، وليس التجارة. ونتيجة لهذا، ولعلها للمرة الأولى في تاريخ البشرية، كانت تلك مفاوضات تجارية تهدف إلى إبعاد الشركاء التجاريين أكثر وليس التقريب بينهم. ولا شك أن هذا صعب بما يكفي مع النية الحسنة، وكان أصعب بسبب تكتيكات بريطانيا غير الواقعية، بيد أن ذلك هو العالم المعكوس الذي تسكنه بريطانيا الآن. وإذا كانت استعادة السيطرة تعني التنازل عن بعض الازدهار، إلى جانب المزايا الأخرى التي صاحبت عضوية الاتحاد الأوروبي – وهي تعني ذلك بالتأكيد – يقول مؤيدو الرحيل: فليكُنْ.

إنها حقيقة مزعجة ومثيرة للسخرية أن كل اتفاقيات التجارة، ومن ضمنها هذا الاتفاق، سوف تنطوي على تنازل عن السيادة مقابل المنفعة المتبادلة، وهذا هو ما يعنيه عقد الاتفاقات. كانت أورسولا فون دير لاين محقة عندما وصفت “تجميع قوتنا والتحدث معًا” بأن ما تعنيه السيادة بشكل عملي في القرن الحادي والعشرين. هذا الاتفاق ليس مختلفًا، وبالطبع جرى التغافل عنها في سخافة الإعلام التي اندلعت يوم الخميس. لكن عندما تهدأ الأمور ويعود أعضاء البرلمان إلى وستمنستر لمناقشة الاتفاق الأسبوع المقبل، سيرون أن بريطانيا كان عليها التنازل عن بعض سيادتها لكي تتمكن من الاستمرار في التجارة مع أكبر وأقرب سوق لنا حتى الآن بشروط تفضيلية.

إن المنطق الوحيد الذي يجعل هذا انتصارًا لجونسون هو أنه يتمم انفصال المملكة المتحدة عن الاتحاد الأوروبي الذي اختارته أغلبية المصوّتين منذ أربعة أعوام ونصف. هذا مهم دون شك. إنه إتمام لحملة أكاذيب جونسون المستمرة عن الاتحاد الأوروبي. في الواقع، إنها ربما تعني أن رئاسة جونسون للوزراء لم يعد لها أي غرض محدد آخر، لكن الاتفاق ينطوي على قدر كبير من المخاطر السياسية للحكومة؛ لأن اقتصاد البريكست وسياسته كانا دائمًا ما يسحبان جونسون في اتجاهات متعاكسة.

إن جونسون ليس ذكيًا مثلما يعتقد، لكنه ليس غبيًّا أيضًا. إنه يعلم أن القرب الجغرافي وشبكات الإمداد القائمة مهمان جدًا في التجارة، ولذلك لا يمكن التخلي عن التجارة مع الاتحاد الأوروبي، كما أنه يعلم أن مكتب مسئولية الميزانية اعتقد أن الفشل في عقد اتفاق كان سيؤدي إلى خسارة الناتج المحلي الإجمالي المحتمل بنسبة أكثر من 5% على مدار 15 عامًا. إنه يعلم أن الشركات الصغيرة والمتوسطة والكبيرة تبقى على هامش أرباحها فقط مع اشتداد جائحة كورونا مرة أخرى، كما يعلم أنه بعد انتهاء الجائحة سوف تواجه المملكة المتحدة ضغوطًا مالية ضخمة، والتي ستكون أسوأ بكثير في حالة عدم وجود اتفاق.

كما يعلم شيئًا آخر أيضًا، فحتى لو فضّل جزء منه تجاهله، هو يؤمن بأن عدم وجود اتفاق كان سيمنح نيكولا ستارجن أكبر وأفضل هدية كريسماس حلمت بها في جهودها لفصل اسكتلندا عن المملكة المتحدة، وبينما يبدأ البريكست في التلاشي من المرآة الخلفية لرئيس الوزراء العام المقبل، فإن مهمة إنقاذ الاتحاد تقترب أكثر، وكل هذه العوامل أشارت دائمًا باتجاه الاتفاق.

غير أنه كان هناك دائمًا منطق سياسي حزبي في حسابات جونسون أيضًا، وهذا سحبه في الاتجاه المعاكس، باتجاه عدم عقد اتفاق. إن جونسون، في النهاية، ليس مجرد رئيس لوزراء المملكة المتحدة. إنه أيضًا زعيم حركة متقلبة ومتعصبة وقوية مؤيدة لمغادرة الاتحاد الأوروبي، وهذا ما جعله زعيمًا لحزبه، كما أنه السبب الذي جعله يربح انتخابات 2019، فيما ستصبح حركة المغادرة كانت أكثر سعادة بعدم وجود اتفاق؛ لأن الانفصال الكامل عن أوروبا هو النموذج المثالي لمناصري السيادة.

لذلك؛ فإن فهم تصميم اتفاق التجارة مع الاتحاد الأوروبي كان ضروريًّا، وكان ذلك سيكون صحيحًا حتى لو كان عامنا هذا والكريسماس أيضًا عاديًّا، لكن ظروف 2020 – في ظل تعامل جونسون مع مسألة انتشار كوفيد19 والانتقاد المستمر له حتى من داخل حزبه، ووسط فوضى الشاحنات في مقاطعة كنت – جعلت كل ذلك ضروريًّا بشكل مضاعف.

كانت استراتيجية جونسون الأصلية بعد انتخابات 2019، التي دعمها دومينيك كامنيجز، هي المطالبة بالانضباط الحزبي الصارم، ووحدة مجلس الوزراء، وتجاوز البرلمان، وقبل كل شيء، حرمان نايجل فاراج من أي متنفس سياسي للاتهام بالخيانة. وقد عرقل كوفيد19 هذا النهج بشدة، لكنه لم يُخرجه عن مساره، إلا أنه عندما هددت الجائحة بالخروج عن السيطرة في الخريف، بات التحكم في المشهد العام أكثر أهمية. كان على العملية أن تظل غير محسومة حتى اللحظة الأخيرة، ومع انهيار ظاهري واحد على الأقل، لضمان أقل وقت ممكن للمقاومين داخل الحزب لينظموا أنفسهم ولفاراج لكي يبني ثورة، وهذا هو ما حدث.  

ومع ذلك، لا يضمن أي من هذا أن جونسون قد أتم بنجاح الاتفاق التجاري مع الاتحاد الأوروبي. إن البريكست لن يتوقف أبدًا عن تقسيم بريطانيا، ولن تتم تسوية المسألة أبدًا. وفي الوقت نفسه، الممارسة المفرطة لسياسة حافة الهاوية قبل الكريسماس تشير إلى أنه يوجد في الواقع الكثير في الاتفاق ليعترض عليه المتعصبون في البرلمان وفاراج. إن تعليق فون دير لاين بأن هذا اتفاق عادل ومتوازن ومسئول ليس ما يريد سماعه أعضاء البرلمان في مجموعة الأبحاث الأوروبية.

وحتى في نهاية العام، وفي ظل انتشار فيروس كورونا، وفي ظل تركيز معظم العقول على الموسم الاحتفالي وتصوير الصحافة لجونسون على أنه الزعيم القائد، قد تنهار الأمور في الأيام المقبلة، ولا ينبغي أن ينسى الشخص أن من ضمن كل صفاته المتعددة، جونسون مجازف سياسي.

ونظرًا لشراسة المشاعر التي يثيرها البريكست دائمًا، ربما يثبت هذا الاتفاق كونه مجازفة أكبر بكثير مما يتصور أي شخص، ومن بينهم بالطبع جونسون. 

لقراءة النص الأصلي .. اضغط هنا

ربما يعجبك أيضا