نيويورك تايمز| ما الاقتصادات النامية التي ستصعد بعد الجائحة؟

آية سيد

ترجمة: آية سيد

بعد عام 2000، عززت العولمة وارتفاع أسعار السلع الأساسية النمو الاقتصادي بصورة هائلة في الدول ذات الاقتصادات الناشئة. وتضاعفت حصتهم في الاقتصاد العالمي على مدار العقد التالي، حيث ارتفعت إلى 35%. وبحلول 2007، لحقت 107 من أصل 110 اقتصادات نامية في جدول Penn العالمي بالولايات المتحدة في متوسط الدخل، وهو ما ساعد الملايين على الهروب من الفقر، كما ظهرت الحالة الاحتفالية في العبارة الشهيرة: “صعود البقية”.

ثم جاءت أزمة 2008. هبطت التجارة وتدفقات رأس المال وانخفضت أسعار السلع الأساسية، بينما بدأ نمو سكان العالم المتباطئ في تقليص حجم القوى العاملة. وبدلًا من الصعود مرة أخرى، شهدت الاقتصادات النامية ركود حصتها في الاقتصاد العالمي في العقد الثاني من الألفية. تراجعت نصف الدول في جدول Penn العالمي خلف الولايات المتحدة في متوسط الدخل. تنمو النجوم الصاعدة حديثًا مثل البرازيل وروسيا بوتيرة أبطأ من الاقتصاد الأمريكي. وباستثناء الصين، سقطت “البقية” عن رادار وسائل الإعلام والأسواق المالية العالمية.

كان هذا سيكون محبطًا أكثر إذا لم يكن طبيعيًّا. في معظم العقود بعد الحرب العالمية الثانية، نمت الاقتصادات المتقدمة والناشئة بنفس الوتيرة. وحيث إن الدول ذات الاقتصادات الناشئة اتجهت لامتلاك عدد سكان ينمو بمعدل أسرع، كان دخل الفرد فيها يتراجع في الواقع في كثير من الأحيان. ربما تقفز هذه الدول إلى الأمام لعقد أو اثنين، وربما ترفع فئة الدخل، فقط لتتعثر في أزمة وتجد نفسها تراجعت إلى حيث بدأت. 

من ضمن 195 اقتصادًا تتبعه صندوق النقد الدولي، 39 فقط “متقدم”، ومعظمهم كان متقدمًا بالفعل بحلول 1945. القلة التي صعدت من الفقر إلى الفئة المتقدمة يُحتفى بها كـ”معجزات”، مثل اليابان وكوريا الجنوبية وتايوان. والسر هو: تصنيع الصادرات، والتي عن طريق جلب العائدات من كل أنحاء العالم يمكنها أن تعزز معدلات النمو وهو شيء مستحيل في السوق الداخلية وحدها.

واليوم، يتقلص التصنيع والصادرات كقوى في الاقتصاد العالمي، لذلك من الصعب تخيل ما سيشغل معجزات النمو التالية، وهذا يفسر الصمت الذي يحيط بالاقتصادات الناشئة.

لكن في الاقتصادات، كما في الطبيعة، لا شيء يُخلق، ولا شيء يُدمَر – كل شيء يتحول. وتحولات الجائحة تقدم بالفعل إمكانيات مُحفِّزة لبضعة اقتصادات ناشئة على الأقل، وتتضمن تلك التحولات ثورة رقمية متسارعة، وإصلاحًا اقتصاديًّا وانتعاشًا في أسعار السلع الأساسية.

تُسرّع الجائحة تبني التكنولوجيا الرقمية، التي تمتلك تأثيرًا قويًّا بشكل خاص على الاقتصادات غير الناضجة. ومن المستبعد أن تدر التكنولوجيا الرقمية نموًا من رقمين لأن تأثيرها يقتصر بشكل كبير على الاقتصادات المحلية، دون تعزيز إضافي من الصادرات، لكن يمكنها أن تحول الاقتصادات المحلية الناشئة بشكل متزامن ومستدام.

إن الدول ذات الاقتصادات النامية أقل ارتباطًا بـ”البنية التحتية القديمة” من المتاجر التقليدية والخطوط الأرضية، لذلك هي تتبنى التكنولوجيا اللاسلكية أسرع من الدول ذات الاقتصادات المتقدمة. وعلى الرغم من المشاكل في صناعاتها القديمة التي تديرها الدولة، لا تزال الصين تنمو أسرع من الولايات المتحدة بصورة ملحوظة، وتلحق بها في متوسط الدخل، بفضل الظهور السريع لـ”اقتصادها الجديد” غير النقدي.

تصعد شركات الإنترنت الجديدة بسرعة خارج الصين أيضًا، من روسيا وبولندا إلى الأرجنتين وكينيا. وفي ظل المعرفة العميقة للأذواق واللغات المحلية، توسع إمكانية الوصول إلى مجموعة واسعة من الخدمات مثل العمليات المصرفية وعمليات المكاتب الخلفية، وهو ما يُسهّل على الشركات الناشئة الانطلاق. في المتوسط، ترتفع العائدات الرقمية، وتنخفض تكلفة بدء نشاط تجاري، في الدول ذات الاقتصادات الناشئة أسرع من الدول ذات الاقتصادات المتقدمة.

ومن المحرك البخاري إلى السيارات، اتجه التأثير الاقتصادي للثورات التكنولوجية لأن يكتسب الزخم مع مرور الوقت ويصل إلى ذروته بعد عقود من الاختراع الأصلي. والثورة الرقمية يافعة؛ تأثيرها الأكبر على نمو الاقتصادات الناشئة لم يظهر بعد، فيما يُعدّ الإصلاح الاقتصادي أحد التطورات الرئيسية الأخرى.

إن واحدةً من أكبر المعوقات للآفاق طويلة الأمد لهذه الدول هو اتجاهها لأن تعلق في دوامة من النجاح والفشل، حيث تقوم بالإصلاح فقط عندما تُجبر على ذلك خلال أزمة ما، وتهدر المكاسب خلال الازدهار اللاحق، ثم تقع في أزمة مرة أخرى. يمكن الاعتماد على أزمة كبيرة بحجم الجائحة للإجبار على القيام بإصلاحات كبرى – وقد فعلت هذا.

ترفع الولايات المتحدة والدول الأخرى ذات الاقتصادات المتقدمة الإنفاق لتخفيف المعاناة المالية للجائحة، لكن ستكون هناك عواقب سلبية على النمو في المستقبل. وفي ظل غياب وسائل الإنفاق، تدفع الدول الأكثر فقرًا الإصلاح الذي، وفي حين أنه لا يحظى بشعبية، ينبغي أن يعزز الإنتاجية ويحفز النمو. وتخفف الهند قوانين وقواعد العمل التي حمت المزارعين من عوامل السوق لعقود، كما تخفّض إندونيسيا الضرائب والروتين لجلب الاستثمار وفرص العمل، فيما تمضي البرازيل قدمًا في خطط لتقليص حجم نظام معاشاتها السخي على نحو لا يمكن تحمله، وتجري السعودية إصلاحات شاملة في قوانين الهجرة لفتح المنافسة في سوق العمل، كما توجد حاليًا حملات مشابهة في مصر والإمارات العربية المتحدة ودول أخرى.

ومع الأسف، تعتمد الكثير من الاقتصادات الناشئة على صادرات النفط والمعادن والمنتجات الزراعية والسلع الأساسية الأخرى، لذلك تتغير آفاقها مع أسعار تلك السلع. إن فترات الازدهار والكساد الطويلة تركت أسعار السلع ثابتة بشكل أساسي من ناحية التعديل حسب التضخم منذ أن بدأت السجلات في 1850، وهذا يفسر لماذا الكثير من الاقتصادات عالقة في مرحلة “النامية”. إن دخل الفرد في البرازيل، وهي مُصدِّر رئيس للسلع الأساسية، ليس أعلى اليوم مقارنةً بالولايات المتحدة، مما كان عليه في 1850. ومعظم مُصدِّري النفط الرائدين ليسوا أغنى اليوم، مقارنة بالدول الغربية، مما كانوا عليه في العام الذي اكتشفوا فيه النفط.

مع هذا، في العقود التي ترتفع فيها أسعار السلع الأساسية، يرتفع عدد الاقتصادات النامية التي تلحق بنظيراتها المتقدمة. الآن، بعد عقد من التراجع، والذي أجبر المنتجين على خفض فائض العرض، تشير عوامل السوق إلى انتعاش لأسعار السلع الأساسية في العقد القادم. وينبغي أن يرفع هذا في المقابل حظوظ الأسواق الناشئة مثل البرازيل وروسيا والسعودية، على الأقل حتى تدور دورة السلع الأساسية مرة أخرى.

والجدير بالملاحظة أيضًا أنه على الرغم من أن الطريق إلى الازدهار عبر التصنيع يضيق، إلا أنه لم يغلق؛ ففي الماضي، مثّل التصنيع أكثر من 15% من الناتج المحلي الإجمالي في مراكز التصدير، واليوم تشمل الاقتصادات في هذه الفئة فيتنام وبنجلاديش وبولندا وجمهورية التشيك. إنهم من ضمن الرابحين الكبار؛ حيث إن الشركات التي تبحث عن أجور أقل وخطوط إمداد أقصر تنقل مصانعها خارج الصين.

إن التأثير التحولي للتصنيع واضح في بلد مثل بولندا، حيث تصنع الشركات متعددة الجنسيات، السيارات وتجهيزات الإضاءة والبضائع الأخرى. وقبل الجائحة، تسبب ربع قرن من النمو المتواصل في زيادة الدخول البولندية إلى عشرة أضعاف تقريبًا لتصل إلى حوالي 16 ألف دولار – وهي على مشارف الفئة الاقتصادية المتقدمة، ويجري حاليًا تحول مماثل في فيتنام، التي تستثمر ليس فقط في مصانع وطرق وموانئ جديدة، بل أيضًا في برامج للقضاء على الفقر.

وإذا كانت دول قليلة فقط ستستفيد من تصنيع الصادرات، فالكثير غيرها لديه فرصة للازدهار على خلفية الإصلاح الاقتصادي، أو الانتعاش المحتمل في أسعار السلع الأساسية أو الثورة الرقمية المتسارعة. إن محركات النمو هذه لن تعيد “صعود البقية”، الذي رفع كل الاقتصادات النامية تقريبًا في العقد الأول من الألفية، لكنها ستكون كافية لشحن عدد قليل من نجوم النمو، وفي العقد القادم، من المرجح أن يصعد بعض من “البقية” مرة أخرى.

للاطلاع على الرابط الأصلي اضغط هنا

ربما يعجبك أيضا