فورين أفيرز | كيف نوقف جائحة كورونا؟

آية سيد

رؤية

ترجمة – آية سيد

وصف المدير العام لمنظمة الصحة العالمية “تيدروس أدهانوم غيبريسوس” جائحة كورونا بأنها “أزمة صحية تحدث مرة في القرن”. في الواقع، كانت آخر أزمة صحة عامة تُحدِث مثل هذا الدمار هي جائحة الأنفلونزا الإسبانية التي بدأت 1918، التي أصابت ثلث سكان العالم وقتلت 50 مليون شخص على الأقل. لكن لأن الأوضاع العالمية تصبح مواتية بصورة متزايدة للانتشار الفيروسي، فمن المستبعد أن تكون الجائحة الحالية آخر جائحة يواجهها العالم هذا القرن، وربما ليست الأسوأ.

لقد ضرب فيروس كورونا المستجد عالمًا لم يكن مستعدًا له؛ بسبب غياب القدرة على منع انتشار الفيروس عبر إجراءات هادفة، ولم تجد الدول خيارات سوى إغلاق اقتصاداتها وتوجيه الناس بالبقاء في المنـزل. لقد نجحت هذه السياسات في إبطاء ارتفاع الحالات بأواخر الربيع، لكن على مدار الصيف ومع دخول فصل الخريف، واجهت الحكومات ضغطًا لتخفيف تلك القيود، وارتفعت الحالات. في 4 نوفمبر، كان أكثـر من 48 مليون شخص حول العالم قد أصيبوا بكوفيد-19، و1,2 مليون شخص آخرين ماتوا بالفيروس.

سوف تبقى الآثار الاقتصادية والمجتمعية للجائحة لعقود، ومن المتوقع تقلُّص الإنتاجية على مستوى العالم بنسبة 5% في 2020، فيما حذر البنك الدولي من أن حوالي 150 مليون شخص سيدخلون في صفوف الفقر المدقع نتيجة للجائحة.

هذه الحصيلة الهائلة تكشف القصور الشديد في الأنظمة العالمية المعنية بالحماية من الجائحات. في حالات التفشي والأوبئة، يكون انتشار المرض محدودًا جغرافيًّا، لذلك تستطيع الدول غير المتضررة، نظريًّا على الأقل، مساعدة الدول المتضررة. لكن في حالة الجائحة، يُصاب الجميع مرة واحدة، ما يعني وجود طلب أعلى بكثير على الموارد المحدودة لمنظمة الصحة العالمية، والبنك الدولي، والمنظمات الدولية الأخرى، وهذا يعني أنه يتعين على الدول الاعتماد على نفسها لوقف الانتشار.

تحتاج الولايات المتحدة والدول الأخرى لتجاوز الأزمة الحالية والتركيـز على الاستعداد للأزمة المقبلة، وهذا يتطلب تغييرًا جذريًّا في الطريقة التي تفكر بها الدول في أمن الصحة العالمية، وأن يمنحوا منظمة الصحة العالمية والمؤسسات الدولية الأخرى الموارد اللازمة لتحديد التهديدات الصاعدة ومساعدة الدول على احتوائها، ويجب أن يبرموا اتفاقيات لمشاركة البيانات وإجراء تجارب مشتركة.

ظروف انتشار العدوى

تكون الفيروسات التنفسية مهيأة للانتقال على نطاق واسع، وتتجه الفيروسات التنفسية أيضًا لامتلاك فترات قصيرة بين التعرض للفيروس ونقل العدوى، وما يزيد الأمر سوءًا هو أنها تُسبب في كثير من الأحيان أعراضًا متشابهة مع أمراض شائعة أخرى، ما يخلق صعوبة في تحديد المصابين، وقد أظهرت الفيروسات التنفسية أيضًا قدرة على التسبب بأمراض خطيرة والوفاة في نسبة مرتفعة من الحالات.

بمجرد أن يظهر مُسبب مرض مثل هذا ويبدأ في الانتشار محليًّا، إذا لم يتم احتواؤه سريعًا، يمكنه الانتشار عالميًا بسهولة. لقد بات الانتشار أسهل بكثير اليوم، في ظل السفر الدولي، والنزوح الجماعي، والهجرة، والتوسع الحضري، في حين أن انتشار الأمراض المزمنة، ومن ضمنها السمنة، يجعل الأشخاص أكثر عرضة لتطوير حالات مرضية خطيرة بمجرد إصابتهم.

في أبريل 2009، ظهرت أنفلونزا إتش 1 إن 1، وانتشرت حول العالم، وأعقبها ظهور فيروس كورونا المميت الذي يسبب متلازمة الشرق الأوسط التنفسية؛ وأكبر جائحتي إيبولا؛ والانتشار العالمي لفيروس زيكا، وسيكون هناك المزيد، وقد نشأت معظم هذه المُسببات المرضية في الحياة البرية وانتقلت إلى البشر، وهي ظاهرة تُسمى “الانتشار” وتدفعها العولمة وتعدي الإنسان المتزايد على الطبيعة.

إدارة الجائحة

إن اللوائح الصحية العالمية هي مجموعة من المبادئ التوجيهية اعتمدتها منظمة الصحة العالمية لأول مرة في 1969 وعززتها بعد جائحة سارس في 2003. وبصفتها اتفاقية مُلزمة قانونيًّا، تتطلب اللوائح الصحية العالمية من الحكومات أن تطور القدرة على مواجهة حالات التفشي التي تمتلك القدرة على الانتشار على نطاق واسع، وتمنح المدير العام لمنظمة الصحة العالمية السلطة لإعلان “حالة طوارئ صحية تثير قلقًا دوليًّا”، وإذا استطاعت الحكومات الوطنية اكتشاف وإخطار منظمة الصحة العالمية بحالات التفشي الكبرى سريعًا، ستملك بقية دول العالم فرصة لمنعها من التزايد.

غير أن الكثير من الدول فشلت في الوفاء بالتزاماتها بموجب اللوائح الصحية العالمية. وبحلول 2012، أبلغ أقل من رُبع أعضاء منظمة الصحة العالمية عن الالتزام الكامل، بعدها بعامين، ارتفعت النسبة قليلًا إلى الثلث، وكما اتضح خلال جائحة إيبولا في غرب أفريقيا في 2013، سمح التأخير في اكتشاف التفشي في غينيا للمرض بالانتشار إلى ليبيريا ونيجيريا وسيراليون، وجرى احتواء الجائحة في النهاية فقط بعد أن أرسلت الحكومات الأجنبية والمنظمات الدولية طواقم للمساعدة.

في أعقاب تلك الواقعة، استنتجت عدة لجان مستقلة أنه توجد حاجة للمراجعة الخارجية الصارمة، واستجابةً لذلك، طوّرت منظمة الصحة العالمية عملية تطوعية للتقييم الخارجي، وفتحت أكثر من 100 دولة أبوابها أمام التفتيش، على الرغم من وجود بعض الاستثناءات البارزة: الصين والهند وروسيا، إلى جانب معظم غرب أوروبا وكل أمريكا اللاتينية. وعلى الرغم من أن هذه العملية تمثّل تحسنًا في التقييم الذاتي، القليل من الدول فقط اتخذت خطوات لمعالجة الفجوات التي جرى تحديدها.

كما تعرض تطبيق منظمة الصحة العالمية للوائحها للتدقيق عدة مرات، خاصة عمليتها لتحديد إعلان حالة الطوارئ الصحية العالمية. لقد جرى التشكيك في حكم منظمة الصحة العالمية عندما بدأ كوفيد -19 في الانتشار بمدينة ووهان الصينية في ديسمبر 2019. وفي اجتماعات يومي 22 و23 يناير، رفضت المنظمة إعلان حالة الطوارئ، مدعيةً عدم وجود بيانات كافية من الصين، قبل أن تعكس مسارها بعدها بأسبوع، وربما لم يُحدث هذا الأسبوع فرقًا كبيرًا في انتشار الفيروس، لكنه أشار إلى شيء مثير للقلق: أن منظمة الصحة العالمية تسمح لبكين بالتأثير على ما يُفترض أنها عملية مستقلة يحركها العلم.

إن اللوائح الصحية العالمية محدودة أيضًا بسبب افتقارها للفاعلية، حيث تمنح اللوائح منظمة الصحة العالمية السلطة للتوصية بقيود السفر والتجارة الضرورية، لكن الحكومات تفعل ما يحلو لها في أكثر الأحيان. عندما ظهر كوفيد-19 لأول مرة، لم توصِ منظمة الصحة العالمية بقيود السفر، وقد كان قرارًا موضع الكثير من الجدل منذ ذلك الحين، غير أن منظمة الصحة العالمية كانت تحاول أن تضع في حسبانها اعتبارًا أكبر: أن هذه القيود قد تجعل الدول غير راغبة في الإبلاغ عن حالات التفشي الكبرى. عندما ترد الدول على الإبلاغ عن تفشي الأمراض الجديدة بمعاقبة الدول التي بلغت أولًا، هذا يقوّض أكبر نقطة قوة للوائح الصحية العالمية: الكشف المبكر، وينبغي أن تُكافأ الدول التي توفي بالتزامها في التبليغ المبكر عن التفشي بالمساعدة وأولوية الحصول على الموارد، إلا أن اللوائح الصحية العالمية لا تُقدّم هذا الحافز.

إن أوجه القصور التي كشفها كوفيد-19 أدت إلى دعوات متجددة لتعزيز اللوائح الصحية العالمية، كما أن تحديث اللوائح الصحية العالمية لن يكون سهلًا: لقد جاء آخر إصلاح كبير بعد عقد من النقاش وتم فقط ردًّا على صدمة سارس. وفي أعقاب قرار إدارة ترامب بانسحاب الولايات المتحدة من منظمة الصحة العالمية، ربما تقرر الدول أن الأمر لا يستحق التفاوض على لوائح أقوى.

تشجيع الحكومات على التحرك

في نهاية المطاف، الأمر عائد للدول ذات السيادة لكي تستعد للجائحات، إلا أن المشكلة هي أن الجهود لتحفيز اتخاذ الإجراءات قد باءت بالفشل إلى حد كبير، وربما فاجأ كوفيد-19 القادة السياسيين، لكن خبراء الصحة كانوا يعربون عن قلقهم منذ عقود، موضحين أن الجائحة الخطيرة كانت مجرد مسألة وقت. ولعل أبرز هذه التحذيرات هو ما جاء في تقرير في سبتمبر 2019، ووصفت لجنة التأهب العالمي، وهي لجنة مستقلة تعقدها منظمة الصحة العالمية والبنك الدولي، جائحة مميتة وسريعة التحرك بأنها “تهديد حقيقي” وحثت الدول على التأهب.

وعلى الرغم من هذه التحذيرات المسبقة، تلكأت الحكومات في التعامل مع كوفيد-19. الكثير من الدول حظرت الرحلات القادمة من الصين أو أغلقت حدودها، لكن بعد فوات الأوان: كان الفيروس قد انتشر عبر القارات، وانتظرت الحكومات لأسابيع قبل أن تفرض عمليات الإغلاق – وهو تأخير منح الفيروس الوقت اللازم للازدهار.

وكان جزءًا من المشكلة أن منظمة الصحة العالمية رفضت وصف كوفيد-19 بالـ”جائحة”. وبرفضها استخدام الكلمة لشهور، فوتت منظمة الصحة العالمية الفرصة لتثقيف العامة عن أن مصطلح “جائحة” يشير إلى الانتشار الجغرافي للمرض، وليس إلى حدّته. وفوّتت الفرصة أيضًا لتحفيز الحكومات على اتخاذ إجراء استباقي.

وفي الوقت الذي بدأت فيه الدول فهم خطورة الجائحة، وجدوا أن أنظمة الرعاية الصحية غير الملائمة تعرقلهم، وعلى الرغم من أن المشافي والعيادات تلعب دورًا محوريًّا في تخفيف أو تضخيم الخسائر في حالات الطوارئ الصحية، منحتها الحكومات القليل من الاهتمام. ومن جانبها، أصدرت منظمة الصحة العالمية قائمة بـ”القدرات الأساسية” اللازمة لمحاربة تفشي الأمراض المعدية، لكن هذه القائمة تستبعد الأدوات اللازمة للتعامل مع الأمراض التنفسية الخطيرة.

لقد كشف كوفيد-19 هشاشة سلاسل الإمداد العالمية والتوزيع غير المتكافئ للمستلزمات الطبية حول العالم، في حين عانت الدول ذات الدخل المنخفض، على وجه التحديد، من نقص حاد في الأقنعة، وأجهزة التنفس، والقفازات، والسترات الواقية، والكثير غيرها.

التأهب

لقد كشف كوفيد-19 أيضًا عن أوجه قصور الجهود القائمة لرصد تهديدات الجائحة، وكان واضحًا منذ البداية عدم وجود مصدر رسمي واحد لتعقب انتشار المرض في الزمن الحقيقي. إن أحد العيوب الأساسية لجهود الرصد هي أنها تعتمد على التقارير التطوعية من الحكومات، وعندما ظهر كوفيد-19 في ووهان، أخّرت الحكومة الصينية مشاركة المعلومات حول عدد الحالات وسهولة الانتقال، وهو قرار حدّ من فهم بقية العالم لمُسبب المرض الجديد. إن الاعتماد على الحكومات الفردية في الإبلاغ عن البيانات على نحو مكتمل وسريع لم ينجح، وتكون المصادر غير الحكومية موثوقة أكثر في معظم الأحيان.

ينبغي أن تتعهد الحكومات أيضًا بمشاركة عينات من مُسببات الأمراض الناشئة، على الرغم من أن الباحثين الصينيين شاركوا بيانات التسلسل الجيني المبكرة من المرضى المصابين بفيروس كورونا المستجد، إلا أنهم احتجزوا عينات الفيروس. كان عزوفهم مثيرًا للمشاكل لأن العلماء يحتاجون عينات حقيقية من الفيروس لتطوير اللقاحات والأدوية واختبارات التشخيص. وفي الواقع، تحتاج الجائحات العالمية إلى استجابات عالمية، وفي حالة كوفيد-19، حققت التجارب الدولية الأكبر للأدوية واللقاحات نتائج أفضل بكثير من التجارب الأحادية الصغيرة.

إن أحد أكبر التحديات للتأهب للجائحة هو التمويل؛ فعلى مر التاريخ، أُنفقت أموال على مواجهة الأوبئة والحالات الطارئة الأخرى أكثر بكثير من التأهب لها، وما يزيد الأمر سوءًا هو أن الخسائر الاقتصادية للجائحة الحالية ستقلص الميزانيات، ولهذا السبب هناك حاجة ماسة لآليات تمويل جديدة. كما أن أحد الخيارات هو إنشاء صندوق لتحديات أمن الصحة العالمية، والذي يتفق المانحون من خلاله على مساعدة الدول ذات الدخل المنخفض للتأهب، وأحد الأفكار الأخرى هي أن يشجع البنك الدولي الدول الأكثر فقرًا على استخدام المِنَح والقروض لسداد تكاليف التأهب للجائحة.

التهديد الآخر

بقدر ما كان كوفيد-19 صعبًا، توجد سيناريوهات أسوأ؛ فنفس التقدمات العلمية اللازمة لتطوير علاجات ولقاحات جديدة تثير إمكانية نشر مُسبب مرض جديد مميت بطريقة عرضية أو متعمدة، وربما يكون مسبب المرض الجديد أكثر حدة من الأمراض المعروفة ومقاومًا للطرق التقليدية للتشخيص والعلاج. وبالإضافة إلى ذلك، إذا اعتُقد أنه نُشِرَ عمدًا، سوف تتحرك أجهزة الأمن والمخابرات الخاصة بالدول، ومن المستبعد أن يعملوا بشفافية ويشاركوا المعلومات حول طبيعة مُسبب المرض، وهذا بدوره قد يجعل الأمر أصعب على الدول في تقييم المخاطر ووضع خطط للمواجهة مبنية على الأدلة.

إن العالم غير مستعد للتعامل مع مثل هذا السيناريو، وهناك غياب للوضوح حول من سيكون مسئولًا في حالة حدوث هذا السيناريو. وعلى الرغم من أن اختصاصات منظمة الصحة العالمية تشمل قيادة التعامل العالمي مع الجائحات ذات المنشأ الطبيعي، فإن الأمين العام للأمم المتحدة هو المنوط بالتحقيق في الهجمات البيولوجية التي ترعاها الدول، وليس من الواضح أي منظمة ستكون مسئولة عن البحث في حدث لم يكن طبيعيًّا أو من فعل دولة.

ويتعين على الحكومات، عن طريق العمل مع القطاع الخاص والمؤسسات الخيرية، وضع معايير وإجراءات سلامة لحماية الأبحاث البيولوجية ووضع خطط لكيفية التعامل في حالة فشل تلك الجهود، كما ينبغي أن يكون الهدف هو تثبيط الحكومات أو الأفراد ذوي النوايا السيئة عن إطلاق كارثة، وطبعًا، مثلما أوضح كوفيد-19، الكوارث لا تحتاج للضغينة، فغياب التأهب يكفي.

لقراءة النص الأصلي.. اضغط هنا

ربما يعجبك أيضا