نيويورك تايمز| ما جذور الترامبية في التاريخ الأمريكي؟

بسام عباس

ترجمة – بسام عباس

قارن البروفيسور “ديفيد بلايت”، أستاذ التاريخ الأمريكي في جامعة يال، بين ظاهرة الترامبية وبين أيديولوجية السبب المفقود للكونفدرالية التي تعود للقرن التاسع عشر، وأن محاولة ترامب للانقلاب على نتائج الانتخابات، وهجوم أتباعه على مبنى الكونجرس له جذور تاريخية تعود للقرن التاسع عشر، وقد تأكدت هذه المقارنة حين رفع المقتحمون أعلام الكونفدرالية وأعلام جادسدن، وقال في مقاله:

بعد مائة وخمسين عامًا من ظهور أيديولوجية السبب المفقود للكونفدرالية، غزت قضية “السبب المفقود” جديدة مبنى الكونجرس الأمريكي بتحريض من رئيس الولايات المتحدة، حيث لوَّح الموالون لدونالد ترامب بأعلام أمريكا والكونفدرالية وجادسدن، وعلى وجه الخصوص أعلام ترامب، مدنسين أعظم صرح رمزي لأمريكا.

أصبحت الترامبية بالفعل “السبب المفقود” القاتل، فليس فيها شهداء أو عقيدة للفاشلين يجذرون فيهم آمالها وأحلامها، ولكن لها زعيم أوحد مدمر ذاتيًّا على وشك مغادرة السلطة في هزيمة تحولت إلى قصة خيانة ومقاومة ووعد بتنشيط سياسي.

كانت جميع قضايا “السبب المفقود” البارزة في التاريخ في صميمها قصصًا مقنَّعة عن الهزائم النبيلة التي تمحورت مع مرور الزمن إلى حركات تجديد سياسية: فالفرنسيون بعد الحرب الفرنسية البروسية 1870-1871، والحاجة العميقة إلى الانتقام القومي، كذلك ألمانيا بعد الحرب العظمى ونظرية “الطعن في الظهر” التي أدت خلال العشرينيات من القرن الماضي إلى صعود القومية والعنصرية لدى النازيين والجنوب الأبيض بعد الحرب الأهلية الأمريكية. تجد جميع القضايا الخاسرة شريان حياتها في الأكاذيب، سواء الكبيرة أو الصغيرة، والأكاذيب التي ولدت من معتقدات تبحث عن تاريخ يمكن فبركته في قصة وحشد الجماهير للتحرك العنيف سياسيًّا وأيديولوجيًّا.

في البداية، تتطلب القصة الولاء الديني، إذْ يجب حمايتها وتقويتها وممارستها في طقوسٍ تشبع بالرموز. وما الادعاء الترامبي بأن الانتخابات “مسروقة” إلا خيال متطور يناضل من أجل أن يفصل غير المؤمنين عن الواقع والحقيقة. وتوجد بعض الأساطير الجيدة تظهر كمساقات ثقافية؛ غير أن بعض الأساطير الأخرى متجذرة في أكاذيب شديدة القوة والعمق والتي تعمل كدافع ومحفز لحالة الغضب بحيث يمكنها ملء أرض العرض والتجمعات السياسية التي لا نهاية لها، أو– على سبيل المثال– تحفيز اقتحام مبنى الكونجرس الأمريكي في محاولة غير مسبوقة لإلغاء نتيجة الانتخابات.

وتستمد أيديولوجية “السبب المفقود” لدى ترامب وقودها من الأساطير التآمرية بجميع أنواعها، والتي جرى التدرب عليها لسنوات على وسائل ترامب الإعلامية ووسائل التواصل الاجتماعي. وتشمل نظرياتها التوجيهية شعارات مثل: “المسيحية تحت الإكراه والهجوم”، و”المدن الفاسدة الكبيرة المليئة بالسود والملونين الذين تتلاعب بها النخب الليبرالية، وتلك التي تصف “باراك أوباما” بأنه أجنبي، وأن هناك حركة اشتراكية تعمل على إخضاعك لـ “حكومة كبيرة”، و”الإعلام الليبرالي يسحق القيم العائلية والمحافظة”، وأن هناك “جامعات ومدارس تُعلّم الشباب تاريخًا يكره أمريكا”، فضلا عن كراهية المهاجرين غير البيض الذين يهددون رؤية وطنية معينة؛ وغيرها مما تمثله رؤى نظرية (كيو أنون) بأن هناك مؤامرة ضد ترامب.

ولكي تكون أيديولوجية “السبب المفقود” فعّالة ودائمة عليها أن تدرك ما تكرهه بوضوح، ويجب أن تحقق سيطرة واسعة النطاق على اتصالاتها، كما أنها تحتاج إلى تجذير مؤسسي، ويجب أن تشرح كل شيء تقريبًا، حيث إنها تحول الخسارة والشكوى القديمة إلى “مجتمع حي”، ووعود بالنصر على مذابح الفتنة.

إن أيديولوجية “السبب المفقود للكونفدرالية” هي إحدى أكثر الأساطير الراسخة في التاريخ الأمريكي، وقد ظهرت في البداية كمزاج من الهزيمة المؤلمة في ستينيات القرن التاسع عشر، بيد أنها نمت إلى مجموعة من الأقاويل والمنظمات والطقوس بحثًا عن قصة يمكن أن تكسب القلوب والعقول وتستعيد السلطة في الولايات الجنوبية. وقد كانت في البداية استجابة نفسية لصدمة الخسارة الجماعية بين الكونفدراليات السابقة، ولكن سرعان ما اكتسبت قوة جذب لدى الجماعات العنيفة مثل: “كو كلوكس كلان” وفي عودة ظهور مقاومة الحزب الديمقراطي للتجديد.

وقد اتخذت طابع الحركة الدينية في خطب لا تنتهي عن الجنود النبلاء الذين سقطوا دفاعًا عن الوطن ونسائهم وإلههم، مؤكدةً أن أفضل الأسباب يمكن أن يخسر الحرب بكل نبلٍ إذا طغت عليه القوة الصناعية وقوى شر الحداثة الأخرى. فيما يتطلب الدين المدني الدائم قديسًا، وسرعان ما أنشأ الجنوب واحدًا من حياة “روبرت إي لي”، الجنرال الشهير في الكونفدرالية الذي قاتل حتى النهاية المريرة، غير أنه توفي في عام 1870 قبل أن يتمكن من تثبيط صناعة الأساطير في كل مكان، وبني له نصبًا تذكاريًّا تكريمًا له.

وبشكل حاسم، فقد حاولت أيديولوجية “السبب المفقود” التأكيد بأن الكونفدرالية لم تحارب أبدًا للحفاظ على العبودية، وأنها لم تهزم حقًا في ساحات القتال، بل إن المتحدثين باسمها يرون أن الكونفدرالية هي الوريث الحقيقي للثورة الأمريكية، مؤكدين أن خسارة المستضعف يمكن أن تتحول إلى قصة نجاح، حتى بالنسبة لليانكيز [الشماليين] الذين يحتاجون إلى الأمن والمشاعر الوطنية في عصر الاضطرابات الناجم عن التحضر السريع والهجرة والصراع بين العمال وأصحاب رأس المال.

وقبل كل شيء، تعمل أيديولوجية “السبب المفقود” على إغواء الأمريكيين البيض بتذكيرهم بأن الكونفدرالية قد دافعت عن حضارة ازدهر فيها كلا العِرقين بقدراتهما الطبيعية، حيث يتألف نظام الحكم من نظام عرقي وجنساني متناسب، ولكن مذبحة الحرب الأهلية قد دمرت هذا النظام، وكان من الممكن إعادة تشكيله وإحياء الأمة بأكملها، تلك الأمة التي عُرفت بأنها أنجلو ساكسونية بيضاء.

وبحلول تسعينيات القرن التاسع عشر، لم تعد أيديولوجية “السبب المفقود” قصة خسارة، بل قصة انتصار: هزيمة عصر إعادة الإعمار. حيث صور الجنوبيون– سواء كانوا سياسيين محليين عاديين أو جنرالات سابقين مشهورين أو نساء صاغوا ثقافة بناء النصب التذكارية – التفوق الأبيض والحكم المحلي للجنوب على أنه انتصار للأمة على التطرف وحكم الزنوج، وجرت الإطاحة بعصر إعادة الإعمار في ستينيات القرن التاسع عشر، والتي تمت صياغتها في التعديلات الدستورية الثلاثة (13 و14 و15)، لصالح المجد الأمريكي.

وبطبيعة الحال، فإن أيديولوجية “السبب المفقود” الترامبية لها أصول مختلفة تمامًا، حيث إنها لا تنبع من التضحية بالدم والمال في الحرب، وهي في ظاهرها ليست ردًّا على الغزو العسكري للمجتمع، ولكن يبدو أنها منشط لأولئك الذين يخشون التغيير الاجتماعي على المدى الطويل.. إنها قصة تبحث عن النهضة والنظام.

فالترامبية تعرف ما تكرهه، وهي لائحة طويلة تشمل: “الليبرالية وتحصيل الضرائب وما تعتبره “الحكومة كبيرة”، والمهاجرون غير البيض الذين يستنزفون موارد الوطن، واللوائح الحكومية المفروضة على الأفراد والشركات، والتشابكات والحروب الأجنبية التي تتطلب من الولايات المتحدة أن تكون أكثر سخاءً من الغرباء في بلاد بعيدة، وأي تلميح للسيطرة على السلاح، والتعددية العرقية والعنصرية التي لا مفر منها للأمة، والممارسات أو الأفكار اللانهائية التي يطلق عليها اسم “التصحيح السياسي”، إذ إن جميع الأفكار القوية تبحث عن التاريخ.

ويريد الترامبيون شيئًا دائمًا ومستقرًا: الجدران الحدودية، ومحافظ الأوراق المالية المتنامية باستمرار، والوصول إلى البيئة وأرض الصيد بلا حدود، والفحم الذي يمكنهم حرقه وقتما شاءوا، و”الحرية” في رفض الأقنعة، والتاريخ الذي طعمه من حلاوة التقدم وليس مرارة الذنوب الوطنية.

وفي كتابه “نهاية الأسطورة: من الحدود إلى الجدار الحدودي في عقل أمريكا”، يصف المؤرخ “جريج جراندين” كيف أدى الشعور المتنامي بالغربة والظلم وعدم المساواة إلى اعتناق ملايين الأمريكيين البيض قصة واضحة أخبرهم بها دونالد ترامب. فمنذ أكثر من عقد من الهجمات اليمينية الغاضبة على كل ما يتعلق بأوباما والحزب الديمقراطي والليبرالي، أصبحوا مستعدين لـ “العدمية التآمرية، رافضين للعقل والتغيير المخيف”، بينما كانوا يتجهون إلى الشخصية الإذاعية الشهيرة “راش ليمبو”، ويشاهدون قناة فوكس نيوز ويتصفحون الإنترنت.

وإذا كانت أيديولوجية “السبب المفقود للكونفدرالية”، كما أكد العديد من مؤرخي الحرب الأهلية، قد وُلدت في صورة استسلام “روبرت إي لي” البطولي والنبيل للجنرال “أوليسيس جرانت” في أبوماتوكس في أبريل 1865، فربما وُلدت أيديولوجية “السبب المفقود” لترامب في صور مثيري الشغب الذين يقتحمون مبنى الكونجرس الأمريكي في يناير2021، كما أن لقصتهم، مهما كانت مشحونة بالأكاذيب والمعتقدات المضللة، جاذبية هائلة بين غالبية الجمهوريين في الكونجرس، ولدى وسائل الإعلام اليمينية، والآن أصبح في صفوفهم آلاف المحاربين القدامى في المسيرة نحو مبنى الكونجرس. وربما يحتاجون قريبًا إلى رئيس كهنة جديد يتمتع بموهبة سياسية أفضل بكثير، ولا يوجد نقص في المرشحين الذين ينتظرون فرصتهم.

ورغم خسارة ترامب المؤكدة، غير أنه وأتباعه ربما يجدون طرقًا، إذا حافظوا على موطئ قدمهم العميق في الحزب الجمهوري، لتصنيع قصة تشبه الحلم عن النصر المستقبلي لتحالفهم غير المستقر المكون من طبقة حاكمة والقومية المسيحية والطبقة العاملة البيضاء المتضررة. ومن غير الواضح ما إذا كان بإمكان الترامبية تحقيق قوة بقاء أيديولوجية السبب المفقود للكونفدرالية، وربما تشتعل في غضون بضع سنوات مثل ذلك البرنامج التلفزيوني السيئ، إلا أن صدمة هجوم ترامب الحتمي على التجربة الأمريكية يوم الأربعاء 6 يناير، كانت مثل الصاعقة، وإنهم سيعودون، وبالتأكيد سوف يتطلب الأمر مهارة سياسية كبيرة وخيالًا أخلاقيًّا عبر الثقافة الأمريكية، من إدارة بايدن إلى كل مُدرس في الأرض، لمحاربة أيديولوجية السبب المفقود الجديدة. ومع أن أمريكا بحاجة إلى الشفاء والوحدة، غير أنها تحتاج أيضًا إلى العدالة وسرد أفضل لتاريخها.

وقد أعلن قرار المحكمة العليا في الولايات المتحدة ضد ستانلي في عام 1883 أن شرط الحماية المتساوية في التعديل الرابع عشر لا يمكن تطبيقه إلا من قبل الولايات؛ ما يجعل الحقوق الفردية تتجاوز الحماية الفيدرالية. وكان رد فعل “فريدريك دوجلاس” غاضبًا، حيث قال إن القرار بدا وكأنه “إعصار أخلاقي”، وألقى باللوم في ذلك على فشل الذاكرة التاريخية في مواجهة قوة أيديولوجية السبب المفقود، كما أنه تحدث عن “مفاجأة محيرة” للأمريكيين السود، وأكد أن “استسلام العاصمة القومية لجيفرسون ديفيس في وقت الحرب، لم يكن من الممكن أن يسبب صدمة أكبر”، غير أن التلويح بعلم الكونفدرالية داخل مبنى الكونجرس يوم الأربعاء الماضي تسبب في ألم وصدمة وطنية أكبر بكثير.

للاطلاع على الرابط الأصلي اضغط هنا

ربما يعجبك أيضا