ناشيونال إنترست| هل يؤدي «البريكست» لتفكيك بريطانيا؟

شهاب ممدوح

ترجمة – شهاب ممدوح

أخيرًا وقّعت بريطانيا والاتحاد الأوروبي اتفاق البريكست. بصرف النظر عن البنود المحددة لهذا الاتفاق، غير أن وجوده يزيل قدرًا كبيرًا من عدم اليقين الاقتصادي، وهذا وحده ينبغي أن يساعد في تعزيز النمو على ضفتي القناة، لأسباب ليس أقلها أنه يتزامن مع بدء حملات تطعيم واسعة النطاق ضد فيروس كورونا. تمنح بنود الاتفاق الطرفين معظم ما كانا يرغبان به، على الأقل ظاهريًّا، لكن الاتفاق وضع بريطانيا على مسار شائك على المدى الطويل، كما أنه لن يضع حدًا للتوترات مع بروكسل.

ذهبت بريطانيا إلى هذه المفاوضات ولديها ثلاثة أهداف:

1) هي أرادت مواصلة التجارة المفتوحة من غير رسوم جمركية مع الاتحاد الأوروبي الذي يستوعب نصف صادرات بريطانيا. 2) أرادت تأمين وضعها المالي المميز الذي تمتعت به عندما كانت المملكة المتحدة عضوًا في الاتحاد الأوروبي.

3) أرادت لندن أيضًا التخلص من قواعد وأنظمة الاتحاد الأوروبي، من بينها تصميم بروكسل على أن تفتح بريطانيا أبوابها أمام الهجرة من أعضاء الاتحاد الأوروبي. حصلت بريطانيا على بعض ما أرادت، ولكن ليس كل ما أرادت، وما حصلت عليه لم يكن متحررًا تمامًا من أحكام سلطات الاتحاد الأوروبي في بروكسل.

إن الجزء الأكثر مدعاة للسرور في الاتفاق (للجانبين) هو أن تجارة البضائع وبعض الخدمات ستتواصل دون تعريفات جمركية أو حصص. إن هذا البند لوحده يخفف من ألم الانفصال، ويبلغ حجم التجارة بين بريطانيا وبقية أوروبا نحو 900 مليار دولار. هذا يناسب المنتجين على ضفتي القنال، ويسمح لبريطانيا بالاحتفاظ بالعديد من منشآت الإنتاج الواقعة في أوروبا والمملوكة من طرف ثالث، لا سيما الشركات اليابانية، وحصول هذه الشركات على وصول حر للسوق الأوروبي بأكمله. علاوة على هذا، يسمح الاتفاق لبريطانيا بتقييد الهجرة من دول الاتحاد الأوروبي، وهو أمر أراده داعمو البريكست بشدة، لكن هذا لن يحل مشاكل الهجرة تمامًا في هذا البلد، الذي يأتيه مهاجرون من مناطق أخرى في العالم. يحرر هذا الاتفاق بريطانيا من أنظمة الاتحاد الأوروبي الخاصة بالمنتجات والعمل والبيئة، ويعطي هذا البند فوائد مختلفة لكل طرف من الأطراف، وبالنسبة لبريطانيا، فهو لا يسمح للندن بصياغة قواعدها التنظيمية فحسب، لكنه يسمح لها أيضًا بإقامة اتفاقيات تجارية جديدة مع دول أخرى، مثل الولايات المتحدة واليابان، دون الالتزام بقواعد الاتحاد الأوروبي. إن هذا التنازل من جانب بروكسل ينبغي أن يفيد أيضًا الاتحاد الأوروبي، عبر منحه مرونة أكبر مما كانت لديه في السابق في التفاوض على اتفاقيات تجارية مع أطراف ثالثة.

وبالرغم من أن هذا يبدو أنه منح بريطانيا معظم ما كانت ترغب فيه، غير أن هناك أمورًا عملية ستقلل كثيرًا من سيادة لندن على رسم مسارها الخاص بها، ووفقًا لهذا الاتفاق، يمتلك الاتحاد الأوروبي حق إنهاء ترتيبات الإعفاء من الرسوم الجمركية في حال ارتأت بروكسل أن بريطانيا بدأت في استخدام استراتيجيات تجارية “غير عادلة”. ونظرًا لأن السياسات التنظيمية والضريبية تخضع لمثل هذه الأحكام، فستحتاج لندن في النهاية لمواصلة مراعاة رأي بروكسل، عندما تضع سياسات أو تصيغ اتفاقيات تجارية مع دول أخرى. ويمثل هذا من دون شك مصدر إحباط للندن، لكنه لا يُقارن مع إحباطها الكبير فيما يتعلق بمصير قطاع التمويل البريطاني. تلقي الخدمات المالية بظلال كبيرة على اقتصاد المملكة المتحدة. ولا يمنح هذا الاتفاق، كما كانت ترغب لندن، قطاع التمويل البريطاني حرية الوصول إلى أعضاء الاتحاد الأوروبي، كما كان الحال عندما كانت بريطانيا عضوًا في الاتحاد. واستباقًا لهذا الوضع المثير للإحباط، أسّست العديد من الشركات المالية البريطانية بالفعل عمليات مستقلة في القارة، ونقلت الوظائف والإيرادات وفقًا لذلك. ويُعدُّ هذا الأمر ثقبًا اقتصاديًّا ستستغرق بريطانيا وقتًا طويلًا لكي تملؤه.

ولعل الجزء الأصعب في هذه التسوية هو وضع أيرلندا؛ فمنذ بداية هذه المفاوضات، كانت الحدود بين جمهورية أيرلندا وإقليم أيرلندا الشمالية التابع للمملكة المتحدة قضية حساسة، واشترطت الاتفاقيات التي أنهت الإرهاب الأيرلندي أن تبقى الحدود مفتوحة لمرور البضائع والخدمات والبشر. وقبل خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، لم يمثل هذا الأمر مشكلة، لأن المملكة المتحدة وجمهورية أيرلندا كانتا عضوتين في الاتحاد الأوروبي. لكن مع خروج بريطانيا من الاتحاد، وحتى وفقًا لهذا الاتفاق العام، ستكون هناك نقاط مراقبة حدودية. ولتجنب حدوث ذلك، منح هذا الاتفاق استثناءً لأيرلندا، كما سيظل إقليم أيرلندا الشمالية داخل المنطقة الجمركية للاتحاد الأوروبي، ما سيجعل الإقليم يتجنب الحاجة لوجود نقاط مراقبة حدودية. ولكي ينجح ذلك، شدّد الاتفاق أيضًا على أن أيرلندا الشمالية يجب أن تلتزم بالمعايير التنظيمية العامة للاتحاد الأوروبي، وذلك يعني من الناحية العملية أن جزءًا من المملكة المتحدة سيخضع لقوانين كيان أجنبي، وهذا لا يمكن وصفه سوى أنه خسارة مروّعة للسيادة التي كانت في نهاية المطاف هي الدافع الرئيسي لتصويت البريطانيين على الخروج من الاتحاد الأوروبي. كما أن الاتفاق يعزّز من احتمال إعادة توحيد أيرلندا.

إن ارتباط إقليم أيرلندا الشمالية بلندن هو ما يجعل المملكة المتحدة تمثل الوطن الأم لهذا الإقليم، لكن الاتفاق ربما يُنهي في نهاية المطاف هذه التسمية، ولا شك أن قضايا مثل الأسماء والفخر الوطني – السيادة – ستستغرق وقتًا طويلًا قبل أن يجري حلها، وكذلك ستستغرق بريطانيا وقتًا طويلًا قبل أن تعالج القيود التنظيمية والاقتصادية الناتجة عن هذه الترتيبات، وأهمها مصير قطاع التمويل البريطاني، غير أن تلك التسوية، على المدى القصير، ستقدّم دعمًا اقتصاديًّا عبر إزالة العديد من حالات عدم اليقين التي خيّمت على صناعة القرار الاقتصادي منذ استفتاء الخروج من الاتحاد الأوروبي عام 2016. ومع توفر اللقاحات اللازمة لمكافحة جائحة كورونا وبالتالي رفع الأعباء الاقتصادية الأكثر شدة التي سببتها، فإنه ينبغي لهذا المزيج (اللقاحات والاتفاق) أن يقدّم دعمًا واضحًا لكلٍّ من بريطانيا والاتحاد الأوروبي في الأمد القريب.

لمشاهدة الرابط الأصلي اضغط هنا

ربما يعجبك أيضا