فورين أفيرز | 6 يناير يوم الخزي! ما فعله ترامب يُسرِّع بداية عالم ما بعد أمريكا

آية سيد

رؤية

ترجمة – آية سيد

منذ البداية، كان جوهر السياسة الخارجية لترامب هو تعطيل الترتيبات والسياسات التي خدمت بشكل كبير الولايات المتحدة لثلاثة أرباع قرن، وهو شيء تحدثت عنه في مقال العام الماضي في فورين أفيرز. لقد أوضحت فيه أن انسحاب الرئيس دونالد ترامب المفاجئ من الاتفاقيات والمنظمات القائمة منذ فترة طويلة، وهجومه على الحلفاء، وتجاهله لانتهاكات حقوق الإنسان، وعادته بإعلان تغييرات السياسة على تويتر دون تشاور.. كل هذا سينتج عنه تراجع ملحوظ في النفوذ الأمريكي، لمصلحة الصين وإيران وروسيا، وبما يضر الجهود العالمية لمواجهة تغير المناخ، والأمراض المُعدية، والانتشار النووي، والتهديدات السيبرانية.

لكن الضرر الذي ألحقته الأحداث في واشنطن يوم 6 يناير سيكون أكبر على السياسة الخارجية الأمريكية، وكذلك أيضًا على الديمقراطية الأمريكية، فقد تحوّلنا من “التعطيل” إلى “التخريب”. إن ما حدث الأسبوع الماضي كان فشلًا أمريكيًّا واضحًا، لكن العواقب تمتد أبعد من السواحل الأمريكية، ولا شك أن عالم ما بعد أمريكا، الذي لا يتميز بالسيادة الأمريكية، يأتي أسرع بكثير من المتوقع؛ بسبب ما فعلته الولايات المتحدة بنفسها أكثر من الصعود الحتمي للآخرين.

العالم يراقب

لقد اهتم العالم اهتمامًا كبيرًا بأحداث الولايات المتحدة: حركة الحقوق المدنية واحتجاجات حرب فيتنام في الخمسينيات والستينيات، ووترجيت، والأزمة المالية 2008، وعلى مدار السنوات الأربع الماضية؛ شارلوتسفيل، ومقتل جورج فلويد، والإخفاقات الأمريكية في مواجهة جائحة كوفيد-19. لكن حصار واحتلال الكابيتول في 6 يناير كان شيئًا مختلفًا: رئيس الولايات المتحدة، إلى جانب الكثير من المؤيدين وعناصر التمكين في الكونجرس وأنحاء البلاد، يُحرّضون على العنف أو يرتكبونه بهدف تخريب الديمقراطية الأمريكية. (كان هناك أيضًا فشل في تطبيق القانون، وهو ما يعزز التساؤلات حول الكفاءة الأمريكية الأساسية التي أثارها التعامل المعيب مع كوفيد-19 والهجمة السيبرانية الروسية التي لم تُكتشف).

لقد عززت الصور الإحساس لدى الديمقراطيات الأخرى بأن هناك شيئًا ما خطأ على نحو خطير في الولايات المتحدة، وتساءلوا كيف يمكن أن يصوّت هذا العدد الكبير من الأمريكيين لقائد هاجم، حتى قبل الأسبوع الماضي، المؤسسات القضائية والإعلامية المستقلة، ورفض تقديم نموذج قوي في وجه جائحة فتاكة، وخالف الكثير من الأعراف السياسية القديمة لبلاده؟ يكمن خوفهم في أنه حتى بعد مغادرة ترامب للمكتب البيضاوي، سوف يظل في المشهد السياسي، مؤثرًا على السياسة الأمريكية ومهيمنًا على الحزب الجمهوري لبعض الوقت؛ إن استعادة السلوك الأمريكي التقليدي تحت حكم جو بايدن وكامالا هاريس قد يثبت من وجهة نظر معظم حلفاء الولايات المتحدة، كونه مجرد مهلة محدودة ومؤقتة.

ونتيجة لذلك، لا يملك الحلفاء خيارات كثيرة سوى التشكك في قرارهم بإسناد أمنهم إلى الولايات المتحدة. كانت هناك شكوك بالفعل على هذا الصعيد نتيجة لبعض الأفعال خلال إدارة أوباما والكثير من الأفعال تحت حكم ترامب (مهاجمة الحلفاء، والتقرب إلى الديكتاتوريين، والعمل بشكل أحادي وغير متوقع)، وهذه الشكوك تعني ميلًا أكبر من الدول الأخرى لتجاهل المناشدات الأمريكية وتولي المسائل السياسية بنفسها، سواء عن طريق تهدئة الجيران الأقوياء أو بناء (واستخدام) قوة عسكرية خاصة بها. إن العلامات على هذا جليّة بالفعل في الشرق الأوسط وأوروبا وآسيا: الحرب في اليمن، وتدخل تركيا في سوريا ودعمها لأذربيجان في ناجورنو قره باغ، ومعاهدة الاستثمار بين الاتحاد الأوروبي والصين، والتكتل التجاري لاتفاقية الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة في آسيا؛ والنتيجة ستكون عالَمًا أكثر عنفًا وأقل انفتاحًا على المستوى السياسي والاقتصادي، والذي ستحتفظ فيه الولايات المتحدة بقدر من النفوذ أو القوة، لكنها لن تصبح مهيمنة.

إن أحداث العنف في الكابيتول ستُضعف من قدرة الولايات المتحدة على الدفاع عن الديمقراطية وسيادة القانون: تخيل صيحات النفاق في المرة القادمة التي تعظ فيها واشنطن حكومة أخرى أو تعاقبها على سلوكها، كما تشعر الأنظمة الاستبدادية، مثل الصين، بالشماتة، مجادلةً بأن مشاهد الأسبوع الماضي تثبت تفوق نموذجهم ونفاق المسئولين الأمريكيين عندما ينتقدون الحملة القمعية في هونج كونج أو القمع في شينجيانج. وبصورة مماثلة، الحُجج ضد انتشار الأسلحة النووية على أساس أن الدول الأخرى ليست مستقرة أو مسئولة بشكل كافٍ تبدو جوفاء عندما يبدو القائد العام لأكبر قوة نووية في العالم وكأنه يفتقر لتلك الصفات.

أمريكا واعية ذاتيًّا؟

كما هو الحال مع الأفراد، فإن هدم سُمعة البلاد أسهل من بنائها، إلا أنه من الضروري بذل كل شيء ممكن لإلغاء الضرر، لأجل الولايات المتحدة وبقية العالم. وحتى في عالم ما بعد أمريكا، تظل قوة الولايات المتحدة ونفوذها كبيرة، واحتمالات بناء نظام دولي مستقر ومنفتح وفعال شبه منعدمة دون مساهمة أمريكية كبيرة.

لكن بعض الوعي الذاتي مطلوب. إن الولايات المتحدة ليست مميزة بالقدر الذي يعتقده الكثير من الأمريكيين، ويشمل ذلك عندما يتعلق الأمر بتهديد التراجع الديمقراطي، وينبغي أن تضع الأحداث الأخيرة حدًّا لفكرة الاستثنائية الأمريكية، المدينة المشرقة للأبد على التل.

ستكون إدارة بايدن القادمة حكيمة إذا أجلت الخطط المعلنة لعقد اجتماع لديمقراطيات العالم حتى تصبح الولايات المتحدة في حالة أفضل، وهذا سيتطلب اتخاذ بعض الخطوات الفورية المباشرة، مثل إطلاق هيئة شبيهة بلجنة 11 سبتمبر، للتحقيق في كيف تُرك الكابيتول عُرضة لهذا التهديد المعلوم وتقديم توصيات لإصلاح أوجه القصور الأمنية، والتي من ضمنها تلك النابعة من الحكم المختلط للعاصمة، ومن الضروري أيضًا جلب أكبر عدد من الأشخاص المتورطين في الأفعال غير القانونية أمام العدالة، لتوضيح أن هذا السلوك له عواقب، ولإرسال إشارة إلى العالم بأن هذا الانهيار في القانون والنظام لن يُسمح له بأن يصبح حالة دائمة.

لكن الكثير من الأشياء الضرورية يتطلب جهدًا طويل المدى. يجب أن تعالج الدولة انعدام المساواة، الذي ازداد سوءًا بدرجة كبيرة في الكساد الناجم عن الجائحة، من ناحية الدخل والحصول على التعليم والفرص الأخرى؛ هذه الظروف تؤدي إلى إحباط مفهوم وتشعل الشعبوية والتطرف، لجناحي اليسار واليمين. إن أحد التحديات هو اتجاه الحزب الجمهوري، حيث لا يمكن أن تنجح الديمقراطية الأمريكية إذا رفض أحد حزبَيْها الرئيسيين فكرة المعارضة المخلصة وعرّف نفسه ليس من ناحية ما يمكنه فعله وإنما من ناحية ما يمكنه منعه.

وقد تساعد بعض التغييرات الإجرائية – الانتخابات التمهيدية المفتوحة، والتصويت التراتيبي، وخطوات لتسهيل التصويت شخصيًا أو بالبريد. وكذلك أيضًا الحد من التلاعب بحدود الدوائر الانتخابية، سواء من خلال الإجراءات القضائية أو من خلال عمل لجان من الحزبين لإعادة رسم دوائر الكونجرس، بيد أنه في نهاية اليوم، سيعود الأمر للناخبين، وسيكون عليهم تقرير ما إذا كان أولئك الذين مكّنوا ترامب يستحقون دعمهم للمضي قدمًا، وسيتعين على الجمهوريين تقرير ما إذا كان حزبهم سيصبح محافظًا أكثر من كونه متطرفًا (وإذا اختارت الأغلبية الخيار الأخير، سيكون على المحافظين أن يقرروا ما إذا كانوا سينفصلون ويشكلون حزبًا جديدًا). كيف سيمارس الديمقراطيون سلطتهم الحالية على الفرع التنفيذي وغرفتي الكونجرس – سواء حكموا من الوسط أو اليسار – سيكون له تأثير كبير أيضًا.

إن تغيير الثقافة السياسية الأمريكية يتطلب أجندة طموحة وواسعة النطاق.. إنه يحتاج لمواجهة العناصر الخبيثة على وسائل التواصل الاجتماعي، التي لديها ميل لأن تقود الناس إلى الآراء والمعلومات التي تتوافق مع آرائها، كما يدعو إلى إعادة الاستثمار في التربية المدنية – لا ينتقل الحمض النووي للديمقراطية تلقائيًّا من جيل إلى جيل، ويتطلب إعادة النظر في مفهوم الخدمة الوطنية، وهنا تصبح الولايات المتحدة على نحو متزايد بلدًا لأمم متعددة، تقسمها الجغرافيا، والعِرق، والخبرة، والتعليم – والميول السياسية. ولا تعني الخدمة الوطنية الخدمة العسكرية فحسب، ولا يتعين أن تكون إلزامية. يجب أن يلتقي المزيد من الشباب الأمريكيين ويعملوا معًا مع أولئك من مختلف الطبقات، ولون البشرة، والأديان والخلفيات.  

وفي نهاية المطاف، لا يمكن فرض أو تشريع الكثير من التغييرات الأكثر أهمية، تتعلق القضية هنا بالشخصية، وربما تَعتبر الولايات المتحدة نفسها أمة قوانين، لكن القوانين يمكنها أن تفرض أو تحظر الكثير فقط، بينما الأعراف هي الدعامة الأساسية للديمقراطية، حيث تشجع أصحاب السلطة على فعل الشيء الصحيح وليس فقط الامتناع عن فعل الأشياء غير القانونية. لقد كان دونالد ترامب مخالفًا مستمرًا للأعراف، وربما يستطيع الكونجرس معالجة بعض من ممارساته الأكثر فظاعة من خلال التغييرات في القانون، ويمكن أن يساعد البيت الأبيض برئاسة بايدن عن طريق العمل مع الكونجرس للحد من بعض الامتيازات الرئاسية، لكن ما سيهم في النهاية هو كيف يتصرف قادة الأمة ومواطنوها أنفسهم.  

يوم الخزي

سيظل يوم 6 يناير موصومًا بالخزي – وينبغي أن يكون كذلك. يمكننا أن نأمل في أنه سيقدّم صدمة مفيدة للجهاز السياسي، لكن الأزمات لا تثير التغيير المطلوب دائمًا، غير أن رؤية هذه الأزمة وأنها تفعل هذا يجب أن يصبح أولوية وطنية.

إن التاريخ مفيد هنا. لقد كانت صدمة الكساد الكبير هي التي حفّزت الصفقة الجديدة، وصدمة بيرل هاربر هي التي أنهت الانعزالية الأمريكية؛ وإذا أدى 6 يناير إلى محاسبة جماعية للنفس وإصلاح داخلي، يمكن أن تبدأ الولايات المتحدة في استعادة القوة الناعمة والخشنة التي ستحتاجها للمساعدة في إدارة منافسة القوى العظمى ومواجهة التحديات العالمية؛ كما هو الحال دائمًا، وتبدأ السياسة الخارجية في الداخل.

إن عالم ما بعد أمريكا لن تهيمن عليه الولايات المتحدة، لكن هذا لا يعني أنه ينبغي أن تقوده الصين أو تعمّه الفوضى.

لقراءة النص الأصلي.. اضغط هنا

ربما يعجبك أيضا