معهد إلكانو | صراع محتدم.. منافسة القوى العظمى في الشرق الأوسط

شهاب ممدوح

رؤية

ترجمة – شهاب ممدوح

في الوقت الراهن، هناك ثلاث قوى أجنبية بارزة – الولايات المتحدة والصين وروسيا – تخوض منافسة للقوى العظمى في الشرق الأوسط. لقد أدّت التداعيات الناتجة عن الانتفاضات العربية وتراجع النظام الذي نشأ في مرحلة ما بعد الحرب الباردة وتزايد المنافسة العالمية بين القوى العظمى، إلى تأجيج هذه المنافسة الإقليمية مجددًا.

ولطالما كان الشرق الأوسط موقعًا طبيعيًّا للتنافس بين القوى العظمى، وذلك بفضل موارده الكربوهيدراتية الهائلة وموقعه الجيوسياسي الاستراتيجي وممراته ونقاط عبوره البحرية الدولية المهمة، بداية من قناة السويس وباب المندب وصولًا إلى مضيق هرمز. لقد أدّت الانتفاضات العربية وتآكل نظام ما بعد الحرب الباردة لتأجيج هذه المنافسة، كما تأثر استقرار المنطقة سلبيًّا بسبب منافسة القوى العظمى، فضلًا عن الانقسامات الإقليمية الموجودة أصلًا بين إيران والدول العربية السُنية بقيادة السعودية، وبين إسرائيل وتركيا.

وهناك خمسة اتجاهات تُشكّل البيئة الاستراتيجية في الشرق الأوسط في ضوء منافسة القوى العظمى والمنافسة الإقليمية في تلك المنطقة:

1-الصراعات المستمرة في المنطقة، بداية من الحرب في سوريا وليبيا وصولًا إلى اليمن.

2-التنافس المتواصل بين تحالف بقيادة السعودية وإيران ووكلائها.

3-وبناءً على ذلك، تظل الديناميات المتوترة بين إيران والولايات المتحدة موجودة في قلب حالة عدم الاستقرار الإقليمية، مع تزايد احتمالات وقوع أحداث عنيفة مثل إسقاط إيران لطائرة مسيّرة أمريكية، وشنّها لهجمات على قاعدة أمريكية في العراق، وقتل الولايات المتحدة للقائد البارز في الحرس الثوري الإيراني “قاسم سليماني”.

4-الدور المتزايد الأهمية الذي تلعبه دول خليجية صغيرة (مثل قطر والإمارات ودول أخرى) لحساب أطراف دولية، فضلًا عن الأزمة بين أعضاء دول مجلس التعاون الخليجي.

5- المجهولات المعلومة للآثار الاقتصادية لجائحة كوفيد19 وتداعياتها المحتملة على أمن الشرق الأوسط.

ويُرجّح أن تظل هذه العوامل الخمسة مهمة، ليس فقط لأنها ستؤثر على التوقعات الاستراتيجية للمنطقة، لكن أيضًا لأنها ستؤثر على تشكيل منافسة القوى العظمى بين الولايات المتحدة والصين وروسيا.

ووفقًا لاستراتيجية الأمن القومي الأمريكية التي أصدرتها إدارة ترامب عام 2017، فإن “منافسة القوى العظمى عادت” وأصبحت دول مثل الصين وروسيا، تحديدًا، “تتحدى السلطة والنفوذ والمصالح الأمريكية، في محاولة منها لتقويض الأمن والرخاء الأمريكيين”. وبعد أن غيّرت الولايات المتحدة رسميًّا تركيز سياستها الخارجية باتجاه منافسة القوى العظمى، مُعلنة الصين وروسيا بوصفهما أبرز منافسيها، زادت الأهمية الاستراتيجية للشرق الأوسط بالنسبة لبكين وموسكو، وستصبح المنطقة أيضًا عنصرًا مهمًا للمنافسة أثناء رئاسة بايدن.

ومن المهم الإشارة إلى أن آخر إدارتين أمريكيتين (أوباما وترامب) أرسلتا إشارات غامضة فيما يخص التزام الولايات المتحدة تجاه سلامة وأمن الشرق الأوسط. وعندما يتعلق الأمر بالمصداقية، قوبل تردد أوباما في التدخل في سوريا وقرار ترامب المفاجئ بسحب القوات الأمريكية من هذا البلد، بردود فعل سلبية للغاية من حلفاء أمريكا الإقليميين. أصبح هؤلاء الحلفاء –  ببطء ولكن بثبات – قلقين بشأن الوجود الأمريكي في الشرق الأوسط؛ بالتالي، ينبغي ألا يكون مفاجئًا أنه نظرًا للانسحاب الأمريكي من المنطقة، سواء كان حقيقيًّا أو متصورًا، بدأت القوى المحلية تتساءل عن مدى التزام أمريكا بحماية موارد الطاقة والممرات البحرية الإقليمية. وبالرغم من تراجع وضعها الإقليمي، تظل الولايات المتحدة أقوى قوة خارجية في الشرق الأوسط. إن سلطة أمريكا السياسية والعسكرية، مقترنة بدورها الدبلوماسي التقليدي القديم في المنطقة، ودعم الحلفاء المحليين لها (من بينهم إسرائيل والسعودية والإمارات) كل هذا سمح ببقاء الولايات المتحدة كقوة رائدة في المنطقة لسنوات طويلة. ومن وجهة نظر أمنية بحتة، سيكون من الصعب على أي قوة محلية أو خارجية تحدّي مكانة الولايات المتحدة في المنطقة. إن نتائج انتخابات عام 2020 الرئاسية، ربما تغيّر بعض ملامح سياستها في الشرق الأوسط، لكن من غير المرجح أن يُسفر هذا عن تحوّل هائل فيما يتعلق بدور هذا البلد في المنطقة.

ويمكن النظر إلى سياسة روسيا الأخيرة في الشرق الأوسط باعتبارها استراتيجية ذات أهداف محدودة وموارد متواضعة نسبيًّا. ويبدو أن الكرملين يعتبر سلوكه الإقليمي فرصة لبناء مكانة دولية من دون أي انخراط قوي، كما ظهر في تورطه العسكري في الحرب السورية، مع تواجد قوات شبه عسكرية روسية في كل من سوريا وليبيا، وتعزيز علاقات روسيا الاقتصادية مع مصر والجزائر، وزيادة مبيعات أسلحتها لقوى إقليمية. علاوة على هذا، فإن حضور موسكو الدبلوماسي والاقتصادي والعسكري في الشرق الأوسط، ينبغي أن يُفهم ليس فقط من جهة أنه عبارة عن ردّ على وجود فراغ سلطة وضعف موقف الأطراف الخارجية في المنطقة، لكن ينبغي أن يُفهم أيضًا في سياق نهج الكرملين المتزايد الفاعلية والمدفوع بعوامل محلية، تجاه الشئون الدولية، في محاولةٍ من روسيا لاستعادة مكانتها مجددًا كقوة عظمى، وإعادة تشكيل النظام الدولي.  

وبعد أن دعم التدخل الروسي في سوريا نظام بشار الأسد في وجه جميع الضغوط الغربية، عززت روسيا من وضعها في منافسة القوى العظمى في المنطقة. وفي أعقاب التدخل العسكري الروسي في الحرب السورية، زاد اهتمام أطراف إقليمية (مثل مصر وقطر والسعودية) بشراء الأسلحة الروسية، كما زادت روسيا من نشاطها الدبلوماسي في المنطقة (محادثات الأستانة للسلام). وبالإضافة إلى المصالح التي أعلنت روسيا رسميًّا الدفاع عنها في المنطقة – مثل منع أو مواجهة تصاعد الحركات الجهادية المتطرفة، وتوسيع تعاونها الاقتصادي والدفاع عن مصالح الطاقة الروسية – سعى الكرملين أيضًا لترسيخ وضعه بوصفه قوة هائلة في الشرق الأوسط ينبغي أن يتعامل معها الغرب، لاسيما الولايات المتحدة؛ بالتالي، ترمي أهداف روسيا من منظور منافسة القوى العظمى إلى ما يلي:

(1) إجبار الولايات المتحدة على الإقرار بشرعية أهدافها ووضعها بوصفها قوى عظمى على قدم المساواة.

(2) تحدّي خاصرة الناتو الجنوبية في بلاد الشام وشرق المتوسط، عبر امتلاك (أو إعادة تأسيس) قواعد عسكرية في سوريا، والسعي حثيثًا لتأسيس قواعد في مصر وليبيا.

(3) تعزيز شراكتها الفاعلة مع إيران وتحسين علاقتها مع تركيا، وإبقاء أنقرة على خلاف مع بعض حلفاء الناتو الآخرين.

حتى الآن، يبدو أن موسكو راضية عن وضعها الجديد في الشرق الأوسط. باتت العديد من الأطراف الإقليمية تعتبر روسيا وسيطًا ومصدرًا لتزويد السلاح بديلًا عن الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وفرنسا. والأمر الأكثر أهمية بالنسبة لوضع روسيا في الشرق الأوسط بعد الانتفاضات العربية، هو أن موسكو بات يُنظر إليها باعتبارها قوة أمر واقع، ملتزمة بالمحافظة على علاقات مع أنظمة مستبدة وعائلات ملكية حاكمة في المنطقة، بدلًا من كونها طرفًا داعمًا لقوى التغيير السياسي.

تنظر السلطات الصينية تقليديًّا إلى الشرق الأوسط بوصفه مزوّدًا رئيسيًّا للغاز الطبيعي والنفط الخام. بالرغم من أن مصالح الصين في الشرق الأوسط كانت في معظمها ذات طبيعة اقتصادية، إلا أنها باتت تضم مؤخرًا شواغل استراتيجية أيضًا، وأصبحت مبادرة “الحزام والطريق” واحدة من الأدوات التي تستخدمها الصين لتوسيع نفوذها في الشرق الأوسط (وشمال أفريقيا). وهذا في المقابل رفع من مستوى التحدّي في منافسة القوى العظمى وسط القوى الخارجية المهمة.

لكن، حتى من ناحية العلاقات الاقتصادية الصرفة، تمكّنت الصين بجهد دؤوب من أن تصبح واحدة من أهم اللاعبين التجاريين في الشرق الأوسط، مُقيمةً علاقات تجارية مع قوى في الخليج وبلاد الشام وشمال أفريقيا. في عام 2019، على سبيل المثال، كانت الصين أبرز شريك تجاري للسعودي، وثاني أكبر شريك تجاري لإسرائيل، حيث تركزت المصالح الصينية في معظمها على النفط وموارد الطاقة، لكن هناك أيضًا بُعد عسكري وتكنولوجي لوجودها في الشرق الأوسط. على سبيل المثال، سدّت بكين حاجة دول عربية خليجية عبر تزويدها بمبيعات سلاح محدودة، وتزويد السعودية بتكنولوجيا الصواريخ والطائرات المسيّرة. من جهة أخرى، حافظت الصين على علاقات أمنية وثيقة مع إيران أيضًا، وهي حقيقة لا ينبغي تجاهلها في سياق التنافس الأمريكي -الصيني والعلاقات الأمريكية – الإيرانية المتوترة للغاية (لا سيما عقب انسحاب إدارة ترامب من الاتفاق النووي مع إيران).

إن هذا الانفتاح فيما يتعلق بممارسة التجارة على ضفتي الخليج، ينبع من موقف بكين القائم على سياسة عدم التدخل والحياد تجاه العديد من الصراعات المحتدمة بين شركائها التجاريين في الشرق الأوسط، لا سيما المنافسة الإقليمية الشرسة بين السعودية وإيران، والأزمة بين السعودية وحلفائها (الإمارات والبحرين ومصر) من جهة، وقطر من جهة أخرى. علاوة على هذا، لم تتحدَ الصين – على الأقل حتى الآن – الهيمنة العسكرية الأمريكية في المنطقة، ودور واشنطن المميز بوصفها قوى خارجية مهمة توفر الاستقرار والأمن البحري في الخليج. وأخيرًا وليس آخرًا، لم تدعم الصين استراتيجيتها في المنطقة بوجود عسكري. ركزّت الصين بوضوح على البُعد الاقتصادي في استعراض قوتها في الشرق الأوسط، مُمتنعة عن فرض أي وجود عسكري مباشر قد يستثير ردّ فعل قويًّا في واشنطن. وفي حال قررت بكين توسيع وتطوير قاعدتها العسكرية في جيبوتي، فإن الوضع القائم في المنطقة قد يتغيّر، وتستضيف جيبوتي بالفعل الآن مراكز عسكرية فرنسية وأمريكية على أراضيها، ويمكن أن يتحول هذا البلد بسهولة لموقع للمنافسة بين قوى خارجية وإقليمية.

وفي ضوء الوضع السياسي والاقتصادي الراهن الذي فاقمته آثار جائحة كوفيد 19، فإن منافسة القوى العظمى في الشرق الأوسط، يمكن أن تتباطأ على المدى القصير، لكن على المدى الأطول ربما تتصاعد المنافسة بين الولايات المتحدة والصين وروسيا، نظرًا للخطاب التصعيدي لهذه القوى والميول القومية التي أجّجتها الجائحة. ستمارس بكين لعبة “طويلة” في المنطقة عبر زيادة علاقاتها الاقتصادية واستثماراتها في عموم الشرق الأوسط. لكن من المرجح أن تتبنى الاستراتيجية الصينية نهجًا غير مباشر وأقل وضوحًا تجاه شركائها، إذ من المرجح أن تبقى سياستها في الشرق الأوسط “برغماتية ومتحفّظة”. ستحاول موسكو الحفاظ على وضعها الدبلوماسي في المنطقة، والتركيز في الوقت ذاته على وجودها العسكري في سوريا وليبيا. بالإضافة إلى هذا، وفي حال سمح الوضع بذلك، فقد تكون روسيا مستعدة لتوسيع صادراتها من السلاح إلى حلفاء إقليميين تقليديين للولايات المتحدة (مثل العراق وقطر والسعودية وتركيا). هناك مصلحة مشتركة بين الصين وروسيا لكسر الهيمنة البحرية الأمريكية في الخليج، ومقاومة العقوبات الأمريكية ضد إيران، كما تتقاسم بكين وموسكو هدفًا مشتركًا يتمثل في الإطاحة بالولايات المتحدة بوصفها قائدة للعالم. إن تأسيس معاقل اقتصادية ودبلوماسية، وربما عسكرية في نهاية المطاف في الشرق الأوسط، سيكون خطة ضرورية في هذا الاتجاه.

أما واشنطن، فمن غير المرجح أن تتخلى عن دورها في المنطقة، وستظل أقوى قوة عسكرية أجنبية في الشرق الأوسط، وبالرغم من تراجع نفوذها النسبي، إلا أن التطورات الأخيرة في الشرق الأوسط – من بينها التقارب بين إسرائيل والإمارات والبحرين بفضل اتفاقيات إبراهام – ربما تعزز من وضعها، لا سيما في سياق تشكيل تحالف مناهض لإيران.

وأخيرًا، بالنظر إلى حالة التقشف والحذر التي تتبناها القوى الخارجية، والناتجة إلى حد كبير من جائحة كوفيد 19، فإن القوى المُحرّكة للمنافسة ستتشكل من جانب قوى إقليمية مثل إيران والسعودية وإسرائيل وتركيا، والقوة الصاعدة للإمارات ومنافسيها في الشرق الأوسط.  

لقراءة النص الأصلي .. اضغط هنا        

ربما يعجبك أيضا