النص الكامل لمقال جواد ظريف في مجلة فورين أفيرز

آية سيد

ترجمة – آية سيد

عندما كان مرشحًا للرئاسة في 2016، تعهّد دونالد ترامب بالتوقف عن إهدار الدماء والثروات الأمريكية على الحروب في غرب آسيا، غير أنه خلال فترته في المنصب، حاصر الولايات المتحدة أكثر في المنطقة، وأثار الانقسامات لدرجة أن حادثة صغيرة قد تخرج سريعًا عن السيطرة وتؤدي إلى حرب كبرى.

تمتلك الإدارة الجديدة في واشنطن خيارًا أساسيًا لتتخذه، حيث يمكنها أن تتبنى السياسات الفاشلة لإدارة ترامب وتواصل السير في مسار ازدراء التعاون الدولي والقانون الدولي – وهو ازدراء واضح بقوة في قرار الولايات المتحدة في 2018 بالانسحاب بصورة أحادية من خطة العمل الشاملة المشتركة، المعروفة باتفاق إيران النووي التي وقعّتها إيران والصين وفرنسا وألمانيا وروسيا والمملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي قبلها بثلاث سنوات. أو يمكن للإدارة الجديدة أن تُلقي الافتراضات الفاشلة للماضي وتسعى لتعزيز السلام والصلات الجيدة في المنطقة.

يستطيع الرئيس الأمريكي جو بايدن اختيار مسار أفضل عن طريق إنهاء سياسة ترامب الفاشلة المعروفة بـ”الضغط الأقصى” والعودة إلى الاتفاق الذي تخلى عنه سلفه. إذا فعل ذلك، ستعود إيران بالمثل إلى التطبيق الكامل لالتزاماتها بموجب الاتفاق النووي، لكن إذا أصرّت واشنطن على انتزاع التنازلات، ستضيع هذه الفرصة.

يستمر بعض صُنّاع السياسة والمحللين الغربيين في الحديث عن “احتواء إيران”. لكن سيُحسنون صُنعًا إذا تذكروا أن طهران بصفتها لاعبًا قويًّا في المنطقة، لديها مخاوف أمنية وحقوق ومصالح مشروعة – مثلما تفعل أي دولة أخرى. يجب أن يعترفوا بتلك المخاوف بدلًا من تأييد الوهم المبتذل بأن إيران لا ينبغي أن تحظى بنفس الحقوق التي تحظى بها كل دولة أخرى ذات سيادة. لقد أوضحنا دائمًا أننا سنتجاوب بطريقة إيجابية مع أي مبادرة للحوار الإقليمي تُقدَّم بنية حسنة، فبالنسبة لنا، النوايا الحسنة تجلب مثلها.

البحث عن نموذج جديد

لقد تسبب عِقدان من التدخل العسكري الأمريكي في منطقتنا في ضرر يفوق الوصف مع القليل من الإنجاز. ووفقًا لمعهد واتسون للشئون الدولية والعامة، فإن الحروب التي أعقبت هجمات 11 سبتمبر حصدت بشكل مباشر أرواح 800 ألف شخص على الأقل – والكثير غيرهم، بشكل غير مباشر. منذ 2001، أُرغم 37 مليون شخص على الأقل على الخروج من ديارهم.

وبفضل عمليات الغزو ومبيعات الأسلحة الأمريكية، باتت منطقة جوار إيران المنطقة الأكثر عسكرة في العالم. السعودية، التي يبلغ عدد سكانها 27 مليون نسمة فقط، هي أكبر مستورد للأسلحة في العالم وتشتري من الولايات المتحدة بشكل رئيسي. والإمارات العربية المتحدة، أحد المشترين البارزين للأسلحة الأمريكية، لا يتجاوز عدد سكانها 1.5 مليون نسمة، لكنها ثامن أكبر مشترٍ للأسلحة في العالم. استخدمت هذه الدول الأسلحة التي اشترتها لشن الحرب في اليمن، والبيت الأبيض منحهم الضوء الأخضر أولًا، تحت حكم الرئيس باراك أوباما، ثم تفويض مطلق تحت حكم ترامب لفعل ذلك.

خلال رئاسة ترامب، أخذت واشنطن وَلَعَها بالصراع إلى عتبة إيران مباشرة. في يناير الماضي، اغتالت الولايات المتحدة الجنرال قاسم سليماني، جاعلةً الموقف المشحون بالفعل في منطقة تعاني من العنف الإرهابي أكثر اضطرابًا. تسبب قتله في إبعاد قائد بارز في القتال لطرد ما يُسمى بتنظيم الدولة الإسلامية (أو داعش) والجماعات المسلحة الأخرى من العراق وسوريا – وأضاف جريمة لا تُغتفر إلى سجل التجاوزات الأمريكي الطويل في حق إيران.

ولا تستطيع الولايات المتحدة إلغاء الضرر الذي تسببت به أفعالها. لكن تستطيع الإدارة الجديدة معالجة واحد من الأخطاء الفادحة للإدارة السابقة، وهو انسحاب ترامب في 2018 من اتفاق إيران النووي. لقد حاول الرئيس الأمريكي إحباط إنجاز دبلوماسي متعدد الأطراف ثم بدأ حملة من الحرب الاقتصادية الصريحة التي تستهدف الشعب الإيراني، وهي في الواقع تعاقب إيران على التزامها بالاتفاقية التي أقرّتها الأمم المتحدة. إن العقوبات التي فرضتها إدارة ترامب ثم أعادت فرضها جعلته من المستحيل تقريبًا على إيران أن تستورد حتى المواد اللازمة لمعالجة جائحة كوفيد-19. لكن هذه المصاعب لم تجبرنا على الاستسلام، ولم تجعل اقتصادنا ينهار أو تغير حساباتنا الاستراتيجية.  

وبدلًا من ذلك، أدى الضغط على إيران المرة تلو الأخرى – وسيؤدي دائمًا – إلى عكس النتيجة المرجوة. في 2005، مثلًا، طلبت الولايات المتحدة وحلفاؤها أن تتنازل إيران عن حقها في تخصيب اليورانيوم وفرضت عقوبات دون وجه حق من خلال مجلس الأمن. وبالرغم من الضغط الاقتصادي، في الفترة بين 2005 و2012، زادت إيران عدد طارداتها المركزية من 200 إلى 20 ألف، وأنتجت أكثر من 17 ألف رطل من اليورانيوم المخصب بتركيز 3.67% وأكثر من 440 رطلًا من اليورانيوم المخصب بنسبة 20%. بصورة مماثلة، تزامنت حملة “الضغط الأقصى” لإدارة ترامب مع توسيع مخزوننا من اليورانيوم منخفض التخصيب من 660 إلى 8800 رطلًا وتحديث طارداتنا المركزية من طراز IR-1 إلى طراز IR-6 الأكثر قوة.

إن تخلي الولايات المتحدة عن الاتفاق النووي أثبت شيئًا واحدًا – أنّ توقيع وزير خارجية إيران يحمل ثقلًا أكثر من الرئيس الأمريكي القوي. حتى أوباما فشل في منع الكونجرس الأمريكي من تمرير تمديد قانون العقوبات الإيرانية لعشر سنوات، في مخالفة واضحة للاتفاق الذي تفاوضت عليه إدارته.

إن استخفاف ترامب بالالتزامات الأمريكية – واستهانته ليس فقط بالاتفاق النووي بل أيضًا بقرار مجلس الأمن الذي يؤيد الاتفاق – عزز الانطباع بأن الولايات المتحدة ليست شريكًا موثوقًا.

لذلك نعم، زادت إيران قدراتها النووية بصورة كبيرة منذ مايو 2019 – لكنها فعلت ذلك بما يتفق تمامًا مع الفقرة 36 من الاتفاقية النووية، التي تسمح لإيران بـ”التوقف عن أداء التزاماتها” بموجب الاتفاق في حالة أن توقف أي مُوّقع آخر عن أداء التزاماته. وإذا كانت الإدارة الأمريكية الجديدة تأمل في تغيير المسار الحالي؛ فإنها تحتاج لتغيير المسار سريعًا.  

ماذا ينبغي أن يحدث بعد؟

تستطيع إدارة بايدن المقبلة إنقاذ الاتفاقية النووية، لكن فقط إذا استطاعت حشد الإرادة السياسية الحقيقية في واشنطن لإظهار أن الولايات المتحدة مستعدة لأن تصبح شريكًا حقيقيًّا في الجهود الجماعية. ينبغي أن تبدأ الإدارة بإلغاء، دون شروط وبأثر كامل، كل العقوبات المفروضة أو التي أعيد فرضها أو التي أعيد تسميتها منذ تولي ترامب المنصب. في المقابل، ستتراجع إيران عن كل الإجراءات الإصلاحية التي اتخذتها في أعقاب انسحاب ترامب من الاتفاق النووي. سوف يقرر حينها الموقّعون الآخرون على الاتفاق ما إذا كان ينبغي السماح للولايات المتحدة باستعادة مقعدها على الطاولة الذي تخلت عنه في 2018. في النهاية، الاتفاقيات الدولية ليست أبواب دوارة، وهو ليس حقًّا تلقائيًّا أن يعود الشخص لاتفاق متفاوض عليه – ويتمتع بمزاياه – بعد أن تركه بسبب نزوة.

سوف تتعرض العودة إلى الطاولة للخطر إذا طلبت واشنطن أو حلفاؤها في الاتحاد الأوروبي بنودًا جديدة للاتفاق الذي جرى إعداده بعناية بعد سنوات من المفاوضات. دعونا نكون واضحين حول هذه النقطة: اتفق كل أطراف الاتفاقية النووية (ومن ضمنهم الولايات المتحدة) على قصر نطاقه على القضايا النووية لأسباب براجماتية. لقد تفاوضنا بعناية على الجداول الزمنية للقيود التي فرضها الاتفاق، ووافقت إيران على التخلي عن الكثير من المنافع الاقتصادية الناتجة عن الاتفاق بسبب تلك الجداول الزمنية. لم تكن سياسات إيران الدفاعية والإقليمية مطروحة للنقاش، لأن الغرب لم يكن مستعدًا للتخلي عن تدخله في منطقتنا، وهو ما سبّب هذا الاضطراب لعقود؛ ولم تكن الولايات المتحدة – أو فرنسا أو بريطانيا – مستعدة للحد من مبيعات الأسلحة المربحة، التي غذّت الصراع واستنزفت موارد منطقتنا. كجزء من المفاوضات النووية، قبلت إيران قيودًا لمدة خمس وثماني سنوات على مشترياتها الدفاعية والصاروخية تباعًا. إن الصفقات – والتضحيات – التي قمنا بها لتأمين الاتفاق لا يمكن التراجع عنها؛ لا الآن ولا في أي وقت على الإطلاق، ولا يمكن أن تكون هناك إعادة مفاوضات، وكذلك لا يمكن للولايات المتحدة أن تصمّم على أن “ما أملكه هو ملك لي وحدي وما تملكه أنت قابل للتفاوض” وتتوقع أن تحصل على مرادها من إيران.

وبعيدًا عن القضية النووية، لطالما كانت إيران مستعدة لمناقشة المشاكل التي تعصف بمنطقتنا. لكن شعوب المنطقة، وليس الغرباء، يجب أن يحلّوا تلك القضايا. لا تملك الولايات المتحدة ولا حلفاؤها الأوروبيون حق قيادة أو رعاية المحادثات المستقبلية. على العكس، تحتاج منطقة الخليج العربي آلية إقليمية شمولية لتشجيع الدبلوماسية والتعاون والحد من خطر سوء التقدير والصراع.

لقد دعت إيران طويلًا إلى إنشاء منتدى للحوار الإقليمي – من وقت قرار مجلس الأمن رقم 598 في عام 1987 إلى مبادرة هرمز للسلام، التي قدمتها إيران للجمعية العامة للأمم المتحدة في 2019. في مثل هذا المنتدى، تستطيع الدول معالجة المخاوف بإجراءات بناء الثقة، وحل الشكاوى من خلال الحوار، والمشاركة في الجهود ذات المنفعة المتبادلة لحل المشاكل المشتركة وحماية المصالح الجماعية. إن مبادرة هرمز للسلام ليست مخططًا أوليُّا للمستقبل – أي ترتيب دائم يتعين التوصل إليه بشكل جماعي من كل القوى الإقليمية. لكن المقترح يعكس تطلع إيران إلى مجتمع قوي ومستقر وسلمي ومزدهر من الدول، خالٍ من فرض الهيمنة الإقليمية أو العالمية.

يقوم إطار عمل مبادرة هرمز للسلام على المبادئ المعترف بها عالميًّا. إنها تشمل احترام السيادة والسلامة الإقليمية، وسوف تتعهد الدول المشاركة بإظهار الاحترام للرموز التاريخية والدينية والقومية للآخرين، وبتجنب التدخل في الشئون الداخلية أو الخارجية للدول الأخرى. وداخل ما أسميناه “مجتمع هرمز”، ستلتزم الدول بتسوية النزاعات سلميًّا، وبتجنب المشاركة في ائتلافات أو تحالفات ضد إحداها الأخرى. في أكتوبر 2019، كتب الرئيس الإيراني حسن روحاني خطابات إلى كل دول مجتمع هرمز – البحرين والعراق والكويت وعُمان وقطر والسعودية والإمارات – لكي يدعوهم رسميًّا إلى الانضمام إلى المبادرة، ولا تزال هذه الدعوة مطروحة على الطاولة.

ولكي تنجح مبادرة هرمز للسلام أو أي مبادرة مشابهة، يجب أن تقبل الدول الإقليمية – والقوة الخارجية – حقائق معينة، وهذا يبدأ بحقيقة أن مستقبل المنطقة يمكن ويجب أن تقرره شعوبها فقط. إن أي نهج آخر محكوم عليه بالفشل، ومن أجل هذه الغاية، ينبغي أن يتخلى الغرب عن سياسة الرعاية والدعم الأعمى للسلوك السيئ للعملاء الإقليميين بدعوى مواجهة تهديد إيراني وهمي. يجب إدراج كل الدول المطلة على الخليج العربي، دون استثناء، في أي جهد إقليمي، ويجب أن تعترف الجهات الفاعلة الإقليمية والخارجية بالحقوق والمصالح والمخاوف الأمنية القومية المشروعة للجميع وتحترمها.

يحتاج الغربيون، وخاصة الأمريكيين، لتعديل فهمهم لإيران والمنطقة إذا كانوا يريدون تجنب الأخطاء التي ارتكبوها بصورة مزمنة في الماضي. يجب أن يراعوا ويحترموا حساسيات شعوب المنطقة، لا سيما فيما يتعلق بكرامتهم الوطنية واستقلالهم وإنجازاتهم.

نحن في المنطقة قادرون على معالجة مشكلاتنا، بشرط ألا تعمل الأطراف الخارجية كعناصر مُخرّبة من أجل أرباح قصيرة المدى أو تشجع أجندات العملاء منعدمي الضمير. خلال الأربعة أعوام الماضية، اقتربنا، بشكل مؤسف، من الكارثة عدة مرات. لقد أظهرت إيران ضبط النفس الاستراتيجي طوال هذه الفترة، لكن صبر الإيرانيين ينفد، مثلما يشير التشريع الذي مرره برلماننا في ديسمبر بوضوح: يحتاج القانون الجديد أن تعزز إيران تخصيب اليورانيوم وتُحدُّ من عمليات تفتيش الأمم المتحدة إذا لم تُرفع العقوبات بحلول شهر فبراير.

إن نافذة الفرصة للإدارة الأمريكية الجديدة لن تظل مفتوحة للأبد، حيث تقع المبادرة على عاتق واشنطن مباشرة، ويتعين أن تكون أول خطوة لإدارة بايدن هي محاولة إصلاح – بدلًا من محاولة استغلال – إرث ترامب الخطير من الفشل الأقصى. يمكنها البدء بإلغاء كل العقوبات المفروضة منذ أن تولى ترامب المنصب ومحاولة الدخول مجددًا في الاتفاق النووي لعام 2015 والالتزام به دون تعديل بنوده التي جرى التفاوض عليها بعناية فائقة، ولا شك أن فعل ذلك سيفتح إمكانيات جديدة للسلام والاستقرار في منطقتنا.

للإطلاع على الموضوع الأصلي إضغط هنا

ربما يعجبك أيضا