المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية| كيف يحاول الغرب وروسيا إضعاف بعضهما البعض؟

شهاب ممدوح

ترجمة – شهاب ممدوح

مع تولي جو بايدن مقاليد السلطة، ستكون مسألة كيفية التعامل مع روسيا واحدة من أهم جوانب سياسته الخارجية. ركزت معظم النقاشات الدائرة بشأن روسيا في أوروبا والولايات المتحدة في العقد الماضي على مسألة ما إذا كان من الضروري “إعادة ضبط” العلاقات مع روسيا. ظهر هذا النقاش في عدة أشكال: مبادرة “إعادة ضبط” العلاقات مع روسيا التي أجراها فريق أوباما – كلينتون، ومبادرة “الشراكة من أجل التحديث” بين أوروبا وروسيا، ومبادرة “ميسبيرغ” بقيادة ألمانيا في مطلع العقد الثاني للألفية الجديدة، وعرض “التواصل الانتقائي” الذي قدمته أوروبا إلى روسيا عام 2016، والجهود التي قادتها فرنسا عام 2019 للانخراط في حوار مع روسيا بعد قمة “بريغانسون”.

إن هذا التركيز يخلق انطباعًا بوجود سياسة متقلبة بين الطرفين تتراوح بين الانخراط والعداء الدبلوماسي. لكن هناك اتجاه أعمق بدأ يترسّخ، ويتمثل في أن كلًا من روسيا والغرب يتبعان سياسة “الإضعاف المتبادل”. ومن المرجح أن يهيمن هذا الأمر على رئاسة بايدن وعلى العقد المقبل.

كيف تعمل روسيا على إضعاف الغرب؟

في مطلع الألفية الجديدة، كانت روسيا يحدوها الأمل وتنظر إلى صحوتها الجديدة من منظور ارتفاع أسعار الطاقة والنمو الاقتصادي والتحديث وإنشاء شركات حكومية قوية عالميًّا تبيع موارد استراتيجية، ما يساعدها بالتالي في كسب نفوذ سياسي. لكن في العقد الثاني للألفية الجديدة، حدث تحوّل كامل في الاستراتيجية الروسية؛ إذ تحطمت جميع آمال تحقيق تحديث اقتصادي، حيث أُصيب الاقتصاد بحالة جمود، وتبخّرت آمال روسيا بتحقيق نفوذ سياسي عبر النمو الاقتصادي.

نتيجة لذلك، يمكن القول إن موسكو أخذت تسلك يومًا بعد يوم طريقًا أقصر لإحياء نفوذها السياسي، مُعتمدة بدرجة أقل على تحسين وضعها الداخلي وبدرجة أكبر على إضعاف خصومها الجيوسياسيين، وقد اتخذ ذلك أشكالًا متعددة: مغازلة سياسيين بارزين ودعم وتمويل جميع أنواع الأحزاب اليسارية واليمينية المتطرفة وشنّ حملات تضليل إعلامي على الإنترنت، أحيانًا لدعم قوى سياسي بعينها، وفي أحيان أخرى لدعم وتشجيع خلق فوضى سياسية.

استكملت روسيا كل ذلك عبر اتباع سياسة تتمثل في إغراء وانتزاع حلفاء وأصدقاء الغرب، من بينها دول في حلف الناتو والاتحاد الأوروبي. قطعت روسيا شوطًا طويلًا نحو مغازلة تركيا والمجر، وكلاهما عضوان في حلف الناتو، دبلوماسيًّا واقتصاديًّا. كما سعت لإضعاف الغرب حيثما أمكن: في دولة صربيا المرشحة لعضوية الاتحاد الأوروبي، إذ أعلنت صربيا مؤخرًا افتتاح مكتب ارتباط عسكري روسيا في وزارة دفاعها، وفي جمهورية أفريقيا الوسطى، حيث أرسلت روسيا مرتزقة ومستشارًا أمنيًّا رفيعًا لدعم رئيس ذلك البلد، وفي ليبيا وسوريا ودول الخليج ومصر وإسرائيل ودول أخرى. تعتقد روسيا أن هذه السياسة حققت نجاحًا معقولًا، لكنها فشلت في جانب مهم، وهو منع الغرب من الردّ عليها بالمثل.

كيف أضعف الغرب روسيا؟

في عِقد التسعينيات ومطلع الألفية الجديدة، لم يهدف الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة لإضعاف روسيا بأي شكل. لم يكن للأوروبيين والأمريكيين مصلحة في أن تكون روسيا قوية مثل الاتحاد السوفيتي، لكنهما أرادا أن تكون روسيا أقوى مما كانت عليه في عقد التسعينيات. كما لم يرغبا في وجود دولة فاشلة كبيرة لديها أسلحة نووية، ما يهدد بخلخلة جميع التوازنات الجيوسياسية. في عام 2010، بعد حرب عام 2008 في جورجيا، وانسجامًا مع مبادرة باراك أوباما لإعادة ضبط العلاقات مع روسيا، أطلق الاتحاد الأوروبي وروسيا مبادرة “الشراكة من أجل التحديث” التي كانت تهدف بوضوح لتعزيز قوة روسيا اقتصاديًّا وسياسيًّا، وليس إضعافها. لكن، بالطبع، أدّى غزو روسيا لأوكرانيا وضمّها للقرم عام 2014 لإنهاء هذه الاستراتيجية. فرضت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي عقوبات على روسيا، وسعيًا لعزلها دبلوماسيًّا. بالنسبة للاتحاد الأوروبي، على الأقل، لم يكن الهدف الأوّلي للعقوبات بالضرورة هو إضعاف روسيا، ولكن لتحفيزها على وقف زعزعة استقرار أوكرانيا. ومع مواصلة روسيا لأساليبها المزعزعة للاستقرار هناك، بقيت العقوبات وتطورت تدريجيًّا، ربما من دون قصد، لتصبح أداة لإضعاف روسيا أيضا. مع بقاء العقوبات مفروضة عليها، لم تعد روسيا تمتلك فرصًا أقل لتحديث اقتصادها فحسب، لكنها أصبحت أيضًا تمتلك أموالًا أقل للاستثمار في جيشها أو حلفائها. إن روسيا لا تفتقر للمال، لكن البيئة المعادية التي خلقتها حول نفسها، أجبرتها على تخصيص ميزانية حرب كبيرة للأيام الحالكة التي تتوقعها في المستقبل. إن هذا الوضع يحدّ بكل تأكيد من خياراتها الجيوسياسية، كما أصبحت روسيا شيئًا فشيئًا بخيلة عندما يتعلق الأمر بدعم حلفائها ماليًّا.

سياسة إضعاف الذات

إن استراتيجيات الإضعاف المتبادل التي انخرطت فيها روسيا والغرب ضد بعضهما، ساهمت في إضعاف الطرفين لنفسيهما. أدّى صعود الشعبويين في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، لإلحاق ضرر هائل بمصداقية الغرب وانسجامه وسياسته الخارجية.

إن نزعة تدمير الذات الموجودة في السياسة الغربية، لا يضاهيها إلا نزعة تدمير الذات في روسيا، حيث أخضعت القيادة الروسية موارد البلاد ومستقبلها الاقتصادي لخدمة السياسة الخارجية والأهداف العسكرية في أجزاء كبيرة من العالم. في الوقت الراهن، كان أداء روسيا أفضل من الاتحاد السوفيتي فيما يتعلق بكبح اندفاعاتها نحو إرهاق قدراتها في السياسة الخارجية، لكنها تظل تفرط في كشف نفسها بوتيرة سريعة للغاية.

لقد استحوذت السياسة الخارجية بشكل كبير على تفكير الكرملين، وذلك على حساب قضايا محلية عاجلة، ما أدّى لتجفيف موارد روسيا الاقتصادية والسياسية. تمتلك روسيا ما يكفي من الموارد للبقاء في هذا المسار لبضعة عقود مقبلة، لكن كلما طال أمد سياستها الراهنة، ازداد تفاقم الآثار السلبية لمغامراتها السياسية.

إعادة الانخراط مجددًا مع روسيا

بالرغم من أن إدارة بايدن بدأت في مناقشة الاستراتيجية تجاه روسيا مع حلفائها الأوروبيين، غير أن الإضعاف المتبادل ربما سيتواصل بين الطرفين. إذ لا يبدو أن روسيا والغرب أصبحا على وشك مراجعة نهجيهما. ستبرز فرص لإعادة الانخراط بين الطرفين، لكن لكي يحصل ذلك، يجب أن يشعر طرف منهما أنه يخسر هذا السباق. وكبديل لذلك، يحتاج الطرفان بشكل متزامن للإقرار بأن سياستهما فشلت، وأنهما أصبحا بحاجة لتغيير المسار. لكن هذا غير مرجّح في الوقت الراهن.

تظن روسيا أنها تسير بشكل جيد للغاية في مجال السياسة الخارجية. ومن وجهة النظر الغربية، لم تؤتِ العديد من مبادرات الصلح المقدمة لروسيا ثمارها في العقد الأخير. لقد فشلت العديد من العروض الغربية في تحسين العلاقات مع روسيا، ويشمل هذا عرض تجميد توسيع حلف الناتو ليشمل أوكرانيا وجورجيا، وابتعاد الغرب منذ عقد من الزمن عن سياسة “التدخل الإنساني”، وتخفيف سياسات دعم حقوق الإنسان في عهدَي أوباما وترامب.

لهذا، من المرجح أن تهيمن سياسة الإضعاف المتبادل التي يتبعها الطرفان على رئاسة وبايدن أو حتى بعد ذلك. ذكرت وزارة الخارجية الأمريكية في منتصف عام 2020 أنه عند الانخراط مع روسيا (والصين)، “يجب علينا العمل على مساعدة الولايات المتحدة وحلفائها على (الركض أسرع) في هذه المنافسة، كما يجب علينا أيضا مساعدة الذين يسعون لمنافستنا على (الركض ببطء أكثر)”. هناك أيضًا مجال أوسع للتعاون عبر المحيط الأطلسي وذلك عندما يتعلق الأمر بجعل هذا التحالف “يركض أسرع”. إن الطريق لتحقيق ذلك، بالطبع، يمر عبر إجراء عمليات تحوّل سياسي واقتصادي محلية، لكن هذا الأمر يقع خارج نطاق مقالتنا هذه. لكن عندما يتعلق الأمر بالسياسة الخارجية، فإن التغلب على خصومك لا يقتصر فقط على إعادة تنشيط التحالف الأطلسي نفسه. لكن الأمر يتطلب أيضًا استثمار المزيد من الموارد في شراكات أمنية جديدة مع دول محددة في فضاء ما بعد الحكم السوفيتي أو الشرق الأوسط، والعمل في الوقت ذاته على اتخاذ خطوات لتقييد قدرة روسيا على جذب حلفاء وشركاء الغرب إلى صفها.   

للاطلاع على الرابط الأصلي اضغط هنا

ربما يعجبك أيضا