توماس فريدمان يكتب: صُنع في الولايات المتحدة.. الاشتراكية للأثرياء والرأسمالية للآخرين

بسام عباس

رؤية

ترجمة – بسام عباس

إنني أتفهم سبب غضب الديمقراطيين، فقد زاد “دونالد ترامب” من عجز الميزانية في سنواته الثلاث الأولى إلى مستويات لم نشهدها في تاريخنا إلا خلال الحروب الكبرى والأزمات المالية، بسبب التخفيضات الضريبية والإنفاق العسكري وقليل من الانضباط المالي. وقد قام بذلك بينما كان الاقتصاد يتوسع بالفعل والبطالة منخفضة. ولكن الآن بعد أن أراد “جو بايدن” إنفاق المزيد على الإغاثة من الوباء ومنع الاقتصاد من الانهيار أكثر، فإن العديد من الجمهوريين– في لمحة– يعيدون اكتشاف أجنحة صقورهم العاجزة.

يا له من احتيال!!

إننا نحتاج للقيام بكل ما يلزم لمساعدة الأمريكيين الأكثر ضعفًا الذين فقدوا وظائفهم أو منازلهم أو شركاتهم بسبب فيروس كورونا، ولدعم المدن التي تفشى فيها الفيروس. لذا، فإنني مستعد لجرعة مضاعفة من الكرم.

ولكن، ماذا بعد أن يزول هذا الفيروس؟ عندها نحتاج جميعًا إلى الحديث.

كان هناك تركيز كبير في السنوات الأخيرة على سلبيات العولمة السريعة و”التفكير الجماعي للسوق الحرة النيوليبرالية”– التي تؤثر على كل من الديمقراطيين والجمهوريين– لدرجة أننا تجاهلنا إجماعًا آخر أكثر قوة استحوذ على كلا الطرفين، إذ إننا في حقبة جديدة من أسعار الفائدة المنخفضة بشكل دائم، لذا فإن العجز المالي لا يهم طالما يمكنك سدادها، وبالتالي يمكن أن يستمر دور الحكومة في الدول المتقدمة في التوسع، وهو ما تقوم به من خلال عمليات الإنقاذ الكبيرة باستمرار، والإنفاق المستمر بالعجز، وتصاعد الديون الحكومية وتسهيل الأموال بشكل متزايد من البنوك المركزية لتمويلها بالكامل.

هذا الإجماع الجديد يحمل اسم: “الاشتراكية للأثرياء والرأسمالية للآخرين”، كما يقول “روشير شارما”، كبير الاستراتيجيين العالميين في مؤسسة مورجان ستانلي للاستثمار، مؤلف كتاب “القواعد العشر للأمم الناجحة” وأحد المفكرين الاقتصاديين المعارضين المفضلين لديّ.

أوضح شارما في مقابلة عبر الهاتف أن “الاشتراكية للأثرياء والرأسمالية للآخرين”– وهو اختلاف في موضوع كان شائعًا في ستينيات القرن العشرين– يحدث عندما يؤدي التدخل الحكومي إلى تحفيز الأسواق المالية أكثر من الاقتصاد الحقيقي. لذلك، فإن أغنى 10% في الولايات المتحدة، الذين يمتلكون أكثر من 80% من الأسهم الأمريكية، تضاعفت ثرواتهم أكثر من ثلاثة أضعاف في 30 عامًا، في حين أن الـ 50% الأدنى، الذين يعتمدون على وظائفهم اليومية في الأسواق الحقيقية، لم يحققوا مكاسب. وفي الوقت نفسه، فإن الإنتاجية المتوسطة في الاقتصاد الحقيقي لها فرص محدودة وخيارات ومكاسب دخل للفقراء والطبقة الوسطى على حد سواء.

وأفضل دليل هو العام الماضي، فبينما كنا في خضم جائحة قضت على الوظائف والشركات الصغيرة، كانت سوق الأسهم آخذة في الارتفاع. وهذا غير صحيح.. إنها الفيلة التي تطير، وإنني دائم القلق من رؤية ذلك المشهد، فهذه الأمور عادةً لا تنتهي بشكل جيد.

وحتى لو رفعنا الضرائب على الأغنياء ووجهنا المزيد من المساعدات للفقراء، وهو ما أُفضّله، عندما تستمر في الاعتماد على هذا القدر من الحوافز، كما يقول شارما، فستحدث الكثير من العواقب غير المقصودة، وهو ما حدث بالفعل.

فعلى سبيل المثال، كتب شارما في يوليو الماضي في مقال نشرته صحيفة (وول ستريت جورنال) بعنوان “عمليات الإنقاذ تدمر الرأسمالية”، أن الأموال السهلة وعمليات الإنقاذ السخية المتزايدة تغذي صعود الاحتكارات، فيما تظل “الشركات الزومبي” المثقلة بالديون “حية على حساب الشركات الناشئة، التي تقود عجلة الابتكار”. وكل ذلك يساهم في خفض الإنتاجية؛ ما يعني تباطؤ النمو الاقتصادي و “انكماش حصة الجميع”.

وعلى هذا النحو، لا ينبغي أن يفاجأ أحد “بأن جيل الألفية وجيل (زد) ممن ولدوا بعد عام 1995، يشعرون بخيبة أمل متزايدة من هذا الشكل المشوه للرأسمالية مفضلين الاشتراكية عليها”.

في الثمانينيات من القرن الماضي، اعتبر 2٪ فقط من الشركات المتداولة علنًا في الولايات المتحدة “زومبي”، وهو مصطلح يستخدمه بنك التسويات الدولية (BIS) للشركات التي لم تحقق ربحًا كافيًا خلال السنوات الثلاث الماضية حتى مدفوعات الفائدة على ديونهم، وقد كتب شارما: “بدأت أقلية الزومبي في النمو بسرعة في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، وبحلول عشية الوباء، شكلت 19% من الشركات المدرجة في الولايات المتحدة”، لافتًا إلى أن ذلك يحدث في أوروبا والصين واليابان أيضًا.

وكل هذا منطقي، حيث أضاف شارما أن عمليات الإنقاذ المطولة والسخية بشكل متزايد، حين تكون الحكومات على استعداد لشراء كل شيء حتى سندات الشركات غير المرغوب فيها لمنع حبس الرهن، “تشوه التخصيص الفعال لرأس المال اللازم لزيادة الإنتاجية”.

كان ينبغي أن تكون السنوات القليلة الماضية حقبة تدمير إبداعي هائل. فمع وجود العديد من الأدوات الرقمية الجديدة الرخيصة للابتكار، وإمكانية الوصول إلى حوسبة رخيصة عالية الطاقة والكثير من الأموال السهلة، كان من المفترض أن تنفجر الشركات الناشئة.. ولكن لم يحدث شيء!

كتب شارما: “قبل الوباء، كانت الولايات المتحدة تنشئ شركات ناشئة – وتغلق الشركات القائمة – بمعدل أبطأ منذ السبعينيات على الأقل.. وانخفض عدد الشركات الأمريكية المتداولة في البورصة بمقدار النصف تقريبًا، إلى حوالي 4400 شركة، منذ الذروة في عام 1996″، وقد زاد عدد الشركات الناشئة في ظل الوباء، ولكن ربما يكون ذلك بسبب إغلاق العديد من الشركات.

ولكن للأسف، أصبحت الشركات الكبرى ضخمة وأكثر احتكارية في عصر المال السهل، وانخفاض معدل الفائدة. ولا يعود ذلك فقط إلى أن الإنترنت أوجد أسواقًا عالمية يستحوذ فيها الفائزون على كل شيء، مما مكّن شركات مثل أمازون وجوجل وفيسبوك وأبل من أن تمتلك أكوامًا نقدية أكبر من احتياطيات العديد من الدول القومية. وقال شارما إن ذلك يرجع أيضًا لأنهم يمكنهم بسهولة استخدام أسعار الأسهم المتضخمة أو جحافل النقود لشراء المنافسين الناشئين وامتصاص جميع المواهب والموارد “لطرد صغار المستثمرين”.

وأضاف أنه في الوقت نفسه، ومع استمرار الحكومات في التدخل للقضاء على حالات الركود، لم تعد فترات الانكماش تلعب دورها في تطهير اقتصاد الشركات غير الفعالة، كما أن حالات التعافي باتت أكثر ضعفًا مع انخفاض نمو الإنتاجية؛ لذلك يتطلب الأمر المزيد والمزيد من التحفيز في كل مرة لدعم النمو. وهذا كله يجعل نظامنا أكثر هشاشة.

والآن بعد أن قامت العديد من الدول بقيادة الولايات المتحدة بزيادة أعباء ديونها بشكل كبير، فإنه إذا حصلنا حتى على انفجار صغير من التضخم فإنه سيؤدي إلى دفع الفائدة على الخزانة لمدة 10 سنوات إلى 3% بعد أن كانت (1%)، كما أن حجم الأموال التي ستحصل عليها الولايات المتحدة والتي يجب تكريسها لخدمة الديون سيكون هائلاً لدرجة أنه ربما يبقى القليل من المال للإنفاق التقديري على البحث أو البنية التحتية أو التعليم أو أي أمور طارئة أخرى.

بالتأكيد، يمكننا بعد ذلك طباعة المزيد من الأموال، ولكن هذا قد يهدد مكانة الدولار كعملة احتياطية في العالم ويرفع تكاليف الاقتراض لدينا أكثر.

لذا، ينبغي علينا الآن مساعدة مواطنينا المتضررين بسبب هذا الوباء، ولكن بدلاً من المزيد من المنح النقدية، ربما ينبغي أن نفعل ذلك بالطريقة التي يفعلها الكوريون والتايوانيون والسنغافوريون والصينيون وغيرهم من مواطني شرق آسيا، إذ تقدم المساعدات النقدية فقط للفئات الأكثر ضعفًا، فيما تضخ المزيد من الاستثمارات في البنية التحتية التي تعمل على تحسين الإنتاجية وخلق وظائف جيدة. كذلك يركز سكان شرق آسيا أيضًا على جعل حكوماتهم أكثر ذكاءً، لا سيما فيما يتعلق بتقديم خدمات مثل الرعاية الصحية، بدلاً من تقديم خدمات أكبر، وهو أحد الأسباب التي جعلتهم يتخطون هذا الوباء بأقل الخسائر.

ويخطط بايدن لحزمة بنية تحتية كبيرة قريبًا، وهو قد جهزها تمامًا. وإنني آمل فقط ألا يعاني الكونجرس والأسواق من إجهاد الديون بحلول الوقت الذي نصل فيه إلى الدواء الأكثر إنتاجية، والمتمثل في البنية التحتية.

ولكن ماذا عن رأسمالية أكثر شمولًا للجميع واشتراكية أقل جبنًا للأثرياء. إذ إن الاقتصادات تزدهر في ظل مزيد من الأشخاص الذين يخترعون الأشياء ويبدأون بها، وقد كتب شارما: “دون مخاطر ريادة الأعمال والتدمير الإبداعي، لن تنجح الرأسمالية.. فالاضطراب والتجدد، وهما قلبا النظام، يتوقفان، حيث لا تسقط الأغصان الميتة من الشجرة، بل تقطع البراعم الخضراء في مهدها”.

لقراءة النص الأصلي.. اضغط هنا

ربما يعجبك أيضا