المجلس الأطلسي | مخاوف من تحول الحرب الأهلية في إثيوبيا إلى حرب حدودية مع السودان

علي عبدالعزيز

ترجمة – شهاب ممدوح

أصبحت إثيوبيا تخوض حربا مع نفسها، والمجتمع الدولي يكافح للردّ على هذا الوضع. في القتال الذي استمر أربعة أشهر تقريبًا في إقليم تيغراي، فرّ ما يزيد على ستين ألف لاجئ من تيغراي إلى السودان المجاور، كما حُرم 80 بالمائة من سكان الإقليم البالغ عددهم 6 ملايين نسمة من الوصول إلى مساعدات إنسانية تمس الحاجة إليها. بالرغم من انقطاع الإنترنت ووسائل الإعلام، ظهرت قصص ترسم صورة بشعة للفظاعات الجماعية وعمليات الاغتصاب الواسعة والإعدامات الميدانية والتدمير الجماعي للبنية التحتية المهمة.

في الأسابيع الأخيرة، أطلقت الولايات المتحدة وحلفاؤها الأوربيون حملة دبلوماسية لإقناع “آبي أحمد” رئيس وزراء إثيوبيا الذي كان يتمتع ذات يوم باحترام بإيقاف حملته الهادفة لإلحاق هزيمة عسكرية بأكبر تهديد سياسي يواجهه، وهي جبهة تحرير شعب تيغراي. لقد كنت أخشى في الماضي من بدء صراع دموي للسيطرة على تيغراي يتصادم فيه خصمان متكافئان في حرب تقليدية بين بلدين. لكن ما حدث هو ظهور عملية تمرد واسعة تقودها جبهة تحرير شعب تيغراي يمكن أن تستمر لزمن أطول وتحصد أرواحًا كثيرة. 

إن المخاطر في تيغراي مرتفعة وحصيلة الضحايا المدنيين قد تكون كبيرة. لكن هناك سيناريو آخر يمكن أن يتسبب في وقوع حصيلة أكبر من الضحايا، وهو سيناريو يتجاهله العديد من المراقبين: حرب تقليدية بين السودان وإثيوبيا ووكلائهما العديدين. في الواقع، إن النتائج غير المقصودة لحملة “القانون والنظام” التي يشنها “آبي” في تيغراي هي التي قد تلحق الضرر الأكبر بالمنطقة. وبعكس الصراع في تيغراي، فإن الوقت ليس متأخرًا للولايات المتحدة وحلفائها في المنطقة وخارجها، أن يفعلوا شيئًا لمنع حرب حدودية قد ترقى لمستوى خطأ تاريخي استراتيجي.

إن بذور هذه الكارثة المحتملة زُرعت في بداية القرن الماضي عندما تم الاتفاق على الحدود بين إثيوبيا والسودان، والتي لم يتم ترسيمها مطلقًا بشكل رسمي من جانب مؤسس إثيوبيا الحديثة الإمبراطور “مينليك الثاني” أثناء الاتحاد البريطاني – السوداني. منذ عام 1993، احتل مزارعو “الأمهرة” قطعة أرض زراعية على الجانب السوداني من الحدود، يُشار إليها باسم مثلث “فاشكا”. جرى نقل العديد من هؤلاء إلى هناك من جانب الحكومة السودانية اعترافًا منها بمزاعم هذه الأقلية القوية بأحقيتها في هذه المنطقة. ومنذ عام 2008، كان هناك اتفاق فعلي اعترفت إثيوبيا بموجبه بالحدود القانونية التاريخية التي بموجبها توطين “الفاشك” داخل السودان، بينما منحت السودان مزارعي الأمهرة حقوقًا بالاستمرار في زراعة هذه الأرض. تعطلت الجهود الرامية لترسيم الحدود بشكل نهائي منذ الاجتماع الأخير للجنة حدودية مخصصة في العام الماضي، لكن خطط السودان تجاه المنطقة لم تتوقف أبدًا. في الواقع، في أغسطس 2020 الماضي، وفي تصريحات ألقاها قائد الجيش السوداني ورئيس مجلس السيادة الانتقالي الجنرال “عبد الفتاح البرهان” امام القيادة العامة للجيش، تنبأ البرهان بأن “السودان سيرفع علمه فوق الفشق… وأننا لم نتنازل عن إنش واحد من وطننا”.

إن ما كسر هذا الوضع القائم منذ عهد من الزمن هو الصراع في تيغراي، وسلسلة من الحسابات التكتيكية والاستراتيجية من جانب الجيش السوداني. وعلى عكس العديد من الأطراف الخارجية، زعم مسئولون سودانيون رفيعون أنهم لم يتفاجأوا من هذا الهجوم الوحشي من جانب جبهة تحرير شعب تيغراي على مركز القيادة الشمالية، التابع لقوات الدفاع الوطني الإثيوبية في “ميكيلي” عاصمة إقليم تيغراي، في ليلة الرابع من نوفمبر. وقبل أسبوع من ذلك الهجوم، التقى نائب رئيس مجلس السيادة السوداني ورئيس قوة الدعم السريع الجنرال “محمد حميدتي داغالو” برئيس الوزراء الإثيوبي “آبي أحمد” في أديس أبابا، حيث تمت مناقشة مسألة إقليم تيغراي المضطرب والتوترات الحدودية المتزايدة والمفاوضات المتعطلة بشأن سد النهضة.

وما زاد من مفاجأة السودانيين كان حاجة الحكومة الإثيوبية الفورية تقريبًا لقوات إضافية، حيث جرى استدعاء قوات إثيوبية منتشرة في الصومال، والأهم من ذلك، سحب قوات من مثلث الفشق للردّ على هجوم جبهة تحرير شعب تيغراي في “ميكلي”. إن دخول قوات إيرترية ومليشيات ولاية الأمهرة لاحقًا في خضم الصراع في تيغراي، أشار أيضًا إلى أن قوات الدفاع الوطني الإثيوبية كانت عاجزة وحدها عن هزيمة انتفاضة جبهة تحرير شعب تيغراي، وأنها كانت تقاتل من موقع أضعف نسبيًّا عما كان متوقعًا.

بحلول ديسمبر، ومع تجمّع الجيش السوداني على طول الجانب السوداني من الحدود لمراقبة عبور لاجئين من تيغراي فضلًا عن قوات منسحبة من جبهة تحرير شعب تيغراي، وجدت قوات الجيش السوداني وقوات الدفاع الوطني الإثيوبية نفسيهما في مواجهة بعضهما أكثر من أي وقت مضى؛ ما زاد من خطر التصادم بينهما. ودفعت هجمات شنتها قوات الدفاع الوطني الإثيوبية على ضباط من قوات الجيش السوداني، إلى تحرك الجيش السوداني في ليلة التاسع والعشرين من ديسمبر. وفي ذلك التوغل، دمّرت قوات الجيش السوداني مركزًا للجيش الإثيوبي ومراكز إدارية، والعمل في الوقت ذاته على تهجير مزارعي “الأمهرة” وتدمير محاصيلهم في محاولة ناجحة من جيش السودان لإعادة السيطرة على منطقة مثلث الفشق بأكملها.

برر السودان قراره التكتيكي بأنه ردّ مشروع على توغلات قوات الدفاع الوطني الإثيوبية غير المبررة ضد دوريات سودانية، فضلًا عن مزاعم الخرطوم التاريخية بأحقيتها في المنطقة. لكن ما من شك أن الجيش السوداني، الذي تراجع دوره السياسي التقليدي في البلاد بشكل كبير تحت حكم الحكومة الانتقالية بقيادة المدنيين، يرى أن دفاعه عن وحدة السودان الترابية هي فرصة لترسيخ وضعه مجددًا بوصفه حامي الدولة السودانية.      

الحقيقة أن جهود الجيش السوداني لتغيير الوقائع على الأرض، سواء كانت مبررة أم لا، زادت من تفاقم وضع غير مستقر أصلًا في المنطقة، وربما أدت هذه الجهود للإخلال بالتوازن الدقيق بين قوات الأمن داخل السودان والتي حافظت على بقاء العملية الانتقالية هناك في مسارها.

ومع تزايد الخطاب العدائي الصادر من الجانبين في الأسابيع الأخيرة، وضعت الخرطوم وأديس أبابا خطر خسارة الأراضي في إطار أمني – وطني وحتى إطار وجودي. استدعى السودان مؤخرًا سفيره لدى إثيوبيا، كما رُفضت جميع المساعي الرامية للمساعدة في إيجاد حل تفاوضي والتي قام بها مبعوثو السلام ووسطاء مقترحون من تركيا والإمارات وجنوب السودان والاتحاد الإفريقي. حتى إيرتريا، والتي ظهر اتفاق السلام بينها وبين إثيوبيا بوصفه اتفاقًا أمنيًّا مشتركًا، حاولت بشكل غير مقنع إظهار نفسها بأنها صانع سلام في خطاب في الأسبوع الماضي من الرئيس “أسياسي أفورقي” لرئيس الوزراء السوداني “عبد الله حمدوك”. أشارت وزيرة الخارجية السودانية المعينة حديثًا “مريم الصادق” في أواخر شهر فبراير الماضي، إلى أن السودان سيبدأ محادثات برعاية السلطة الحكومية المشتركة للتنمية “إيغاد”. لكن هذا الكيان الإقليمي، الذي يرأسه حاليًا السيد “حمدوك” والخاضع تاريخيًّا لإثيوبيا، قد يفتقر للاستقلالية التي تمكنه من عرض وساطة محايدة.

وفي ضوء غياب وساطة خارجية قوية، قد يخاطر الطرفان بتحويل حربهما الباردة إلى حرب ساخنة. ومع تشابك الأوضاع السياسية والتواريخ السياسية، يمتلك الطرفان الأدوات التي تمكنهما من فعل هذا. توفر إثيوبيا جميع القوات (أكثر من خمسة آلاف جندي) لبعثة حفظ السلام الأممية في منطقة “آبيي” التي يشتد الخلاف بشأنها على طول الحدود بني السودان ودولة جنوب السودان، والتي لا تزال في قلب التوترات بين هذين البلدين. هناك مخاوف من أن تسحب إثيوبيا هذه القوات؛ ما قد يجبر الجيش السوداني على ملء الفراغ الأمني هناك، ما قد يشعل صراعًا متجددًا مع “جوبا”. هناك قلق أيضًا من أن يطرد السودان من طرف واحد هذه القوات، خوفًا من أن تستخدم إثيوبيا هذه القوات كطابور خامس في حال اندلاع أعمال عنف طويلة على طول حدودها؛ ما يفتح جبهة جديدة ضد السودان وتوسيع نطاق الصراع بشكل كبير. من جانبها، فإن أديس أبابا محقة في الخوف من القدرة على إعادة تسليح وإمداد متمردي جبهة تحرير شعب تيغراي، في حال أراد السودان فتح جبهته الإضافية في صراع حدودي.

وما فاقم من حالة الاضطراب هو تدفق جيوش ومليشيات حليفة إلى الحدود بين السودان وإثيوبيا. على الجانب الإثيوبي، ليست هناك فقط قوات الدفاع الوطني الإثيوبي، ولكن هناك أيضًا مليشيات “الأمهرة” وقوات الدفاع الإريترية. وبالمثل، على الجانب السوداني من الحدود، هناك تواجد متزايد للجيش السوداني وقوات الدعم السريع ومليشيات محلية.

ونظرًا لغياب العمل المشترك بين العديد من هذه القوات، يُضاف إليه حقيقة أن الغالبية العظمى لعمليات الحشد تحدث في شريط ضيق على الحدود يبلغ عرضه بضعة كيلومترات، لهذا فإن هناك فرصة كبيرة لأن يؤدي أي خطأ بسيط في الحسابات في اندلاع عنف واسع النطاق وتصعيد سريع بين هذه الجيوش الثلاثة والعديد من المليشيات الحكومية والقومية. ينطبق هذا بوجه خاص على الوضع داخل السودان، حيث دخلت قوات الجيش السوداني وقوات الدّعم السريع ومليشيات محلية أخرى في صدام مع بعضها في العام الماضي في مناطق مثل درافور وكوردفان، حينما انتشرت قواتهم على مقربة من بعضها.

وأفرز هذا الوضع المتوتر شائعات تفيد بأن قوات أجنبية إضافية يمكن أن تشعل شرارة هذا الصراع. غالبًا ما يُنظر إلى مصر، التي زاد إحباطها بسبب وضع مفاوضات سد النهضة، باعتبارها طرفًا محرضًا محتملًا رئيسيًّا. لكن بالرغم من أنه ما من شك أن مصر سعت أيضًا لاستخدام علاقاتها التاريخية مع السودان لأن تكون نتائج مفاوضات سد النهضة لصالحها، يعبر مسئولون مصريون خلف الستار عن تفهمهم بأن تدمير إثيوبيا بحرب داخلية وبحرب مع دولة أخرى، لن يساهم في التوصل لاتفاق تقني وسياسي مُلزم بشأن المسائل الملحة التي يفرضها سدّ النهضة.

إذًا إلى ماذا يقودنا ذلك؟ يبدو من غير المرجح أن تكون المطالبات الداعية لخفض التصعيد والانسحاب من المناطق المتنازع عليها، كافية في هذه المرحلة. في أواخر الشهر الماضي، أرسل رئيس مفوضية الاتحاد الإفريقي “موسا فاقي محمد” الدبلوماسي الموريتاني المتقاعد “محمد ليبات” إلى أديس أباب والخرطوم لمعرفة مدى استعداد كل طرف للقبول بوساطة خارجية لحل الصراع الحدودي المتفاقم. وبالرغم من عدم إحراز تقدم، فإن هذه المحادثات تستحق البناء عليها.

هناك حاجة ماسة لعقد مفاوضات منسقة عالية المستوى لمنع وقوع تداعيات خطيرة محتملة للصراع، ليس فقط للمجتمعات المدنية في المنطقة الحدودية، ولكن أيضًا بالنسبة إلى البلدان المنخرطة في قلب الصراع ومنطقة القرن الإفريقي بأكملها. اقترح السودان مؤخرًا مفاوضات خارجية للمرحلة النهائية لمفاوضات سد النهضة، تشمل الولايات المتحدة والاتحاد الأوربي والأمم المتحدة والاتحاد الإفريقي. إن رعاية هذا التجمّع للمفاوضات الحدودية – برئاسة شخصية بارزة قوية – هو هدف يستحق العمل من أجله، وذلك بالنظر للأخطار الكبيرة المحدقة بالسلام والأمن الدوليين، كما أن هناك إمكانية لأن يستغل أكبر المانحين الماليين لهذه الأطراف المتصارعة نفوذهم المالي لدعم جهود التوصل لحل.

وبالرغم من ارتباط هذه النزاعات ببعضها، ليست هناك عملية أو فرد أو مؤسسة واحدة ستكون قادرة على حل الوضع السياسي المتشابك والمعقد لهذا الصراع، الأمر المهم هنا هو التنسيق. إن أي عملية يمكن اتّباعها لإنهاء الصراع في تيغراي، ينبغي أن تبقى في مسارها الخاص، وكذلك الحال بالنسبة لمفاوضات سد النهضة، وكذلك الأمر بالنسبة إلى خفض الحشد العسكري والتوترات على الحدود. لكن كل هذا يجب أن يتم تنسيقه من جانب مجموعة اتصال مركزية لديها السلطة والتأثير والشرعية لطرح خيارات لحل الصراع وفرض نتائجه التي تساهم في إحراز سلام شامل.

والآن، يجب البدء في هذه العمليات لتجنب السقوط في دوامة الحرب، وهناك عدد من الخطوات الفورية التي يمكن لواشنطن أن تتخذها. وفي مصادفة سعيدة، استلمت الولايات المتحدة رئاسة مجلس الأمن الدولي التابع للأمم المتحدة في مارس، هذا ويجب على سفيرة الولايات المتحدة المعينة حديثًا لدى الأمم المتحدة “ليندا توماس غرينفيلد” أن تعطي الأولوية لعقد جلسة خاصة لمجلس الامن الدولي لمناقشة الأزمات المتعددة المندلعة في القرن الإفريقي، إيلاء أهمية خاصة للصراع الذي لا تزال تتكشف معالمه في تيغراي ومحادثات سد النهضة المتعثرة. ونظرًا إلى المصالح المتنافسة للعديد من القوى الخارجية في القرن الإفريقي، يجب أن تضمن الجلسة مناقشة إقامة مجموعة اتصال دولية يمكنها تعزيز الحوار والشفافية.

ولدعم وإكمال هذا الجهد، ينبغي للولايات المتحدة أن تعين مبعوثًا للقرن الإفريقي قادرًا على وضع أجندة سياسية في واشنطن والمنطقة في المدى القريب. وعلى المدى الطويل، يمكن لأي مبعوث أن ينجح فقط في حال كان مسلحًا بأهداف سياسية واضحة وأدوات لتعزيزها. وعلى عكس نهجها في البحيرات العظمى والساحل، لطالما نظرت واشنطن إلى الدول في منطقة القرن الإفريقي الواعدة ولكن المضطربة، بشكل منفصل عن بعضها، أو أنها تركت الدولة الأكثر أهمية في المنطقة “إثيوبيا” لاستعراض قوتها ونفوذها لضبط النزاعات الإقليمية. ومع خسارة أديس ابابا قدرتها على لعب هذا الدور، انتقل العبء إلى واشنطن لكي تصبح منخرطة بشكل نشط في حماية مصالحها في المنطقة. ومن المتوقع أن تكون هذه العملية معقدة وفوضوية، لكن الأكيد أن منع نشوب حرب هو مهمة أكثر جذبًا من إنهائها. 

للاطلاع على الرابط الأصلي اضغط هنا

ربما يعجبك أيضا