ناشيونال إنترست | هل الجيش الأمريكي جاهز للانسحاب من أفغانستان؟

شهاب ممدوح

رؤية

ترجمة – شهاب ممدوح

في صيف عام 2011، ألقى الرئيس باراك أوباما خطابًا للشعب الأمريكي يعلن فيها خطته لسحب عشرة آلاف جندي أمريكي متمركزين في أفغانستان، وكانت تلك أول خطوة في خطته القاضية بسحب ما يزيد على ثلاثين ألف جندي من هذا البلد الذي مزّقته الحرب خلال عام. استغل أوباما خطابه لمهاجمة حملات بناء الدولة في كل من العراق وأفغانستان والتي أطلقها سلفه، زاعمًا أن “الوقت حان لبناء الدولة هنا في الوطن” عوضًا عن فعل هذا في الخارج عبر فوهة بندقية. ولفت أوباما إلى أن قوة أمريكا في الخارج كانت تاريخيًّا “تستند إلى توفير الفرص لمواطنينا هنا في الوطن”، كما أبرز أوباما الحاجة إلى “الاستثمار في أهم مورد في أمريكا، وهو شعبها” و”استعادة الهدف المشترك الذي تقاسمناه في بداية زمن هذه الحرب”.

بعد مرور عقد من الزمن، مازال الوعد بإطلاق حملة ثابتة لـ “بناء الدولة في الداخل” لم يتحقق إلى حد كبير. بالرغم من أن الرئيس أوباما تفادى ببراعة الالتزام بأن تنخرط أمريكا في مشاريع بناء الدولة في أماكن مثل سوريا واليمن، والتي ربما كانت ستغري سلفه، بيد أن حرب الولايات المتحدة في أفغانستان بلغت عامها العشرين، ولا تزال أمريكا متورطة في عملية بناء الدولة هناك، ويبدو أن فرص تحقيق هذا الهدف ليس أقرب مما كان عليه عندما غادر أوباما منصبه. إن التكلفة الباهظة للحرب في أفغانستان (بإجمالي نحو 2 تريليون دولار بحلول عام 2019) جرى إنفاقها في صراع ذي أهمية ضئيلة للولايات المتحدة، عوضًا عن استثمار هذا المبلغ لمعالجة تحديات محلية عديدة ربما تحدد شكل الأوضاع السياسية الأمريكية في العقود المقبلة.

وبالرغم من هذه الإخفاقات، تتوفر لدى بايدن الآن فرصة ذهبية لإعادة إحياء وعد أوباما بالالتزام ببناء الأمة هنا في الداخل عوضًا عن الانخراط في تدخلات عسكرية فاشلة في الخارج. مع تسارع اقتراب موعد سحب أمريكا لما تبقى من قواتها في أفغانستان، فضلًا عن سعي إدارة بايدن لتنفيذ خطتها الطموحة بإعادة إصلاح وتحديث البنية التحتية المتهالكة في الولايات المتحدة، لن يجد المرء صعوبة في رؤية الخطوط العريضة لبرنامج وطني يتمحور حول المبادئ ذاتها التي طالب بها أوباما قبل عقد من الزمان. لو اختار الرئيس بايدن في نهاية المطاف تنفيذ خطط أمريكا القاضية بمغادرة أفغانستان عام 2021، فسيكون في وضع مثالي لطرح حجة مبدأيه قائمة على الالتزام بالوفاء بوعد بناء الدولة في الداخل.

إن قرار الانسحاب أو عدم الانسحاب من أفغانستان لا يزال في حالة تغير مستمرة، إذ يتعرض بايدن لضغوط من كلا المعسكرين السياسيين لتأجيل سحب القوات المقاتلة، كما صرّح الرئيس نفسه بأن موعد الانسحاب في الأول من مايو صعب الوفاء به لوجستيًّا. يواصل وزير الخارجية أنطوني بلينكن والمفاوض الأمريكي الرئيسي لشئون أفغانستان “زلماي خليل زاد”، العمل بشجاعة لتحقيق نهاية دبلوماسية للعنف في أفغانستان تكون في مصلحة الولايات المتحدة والحكومة الأفغانية في كابول. يطالب تقرير حديث صادر من “مجموعة دراسة أفغانستان” التي تمت بتكليف من الكونغرس الأمريكي، بتأجيل موعد الانسحاب “من أجل منح عملية السلام وقتا كافيا لتحقيق نتيجة مقبولة”. تدل جميع المؤشرات أن بايدن الذي أعلن عام 2010 أننا “سنخرج تمامًا من هناك – مهما كلّف الأمر – بحلول عام 2014″، يفكر في تمديد بقاء الجيش الأمريكي حتى نوفمبر. ويخبرنا التاريخ أن موعد الانسحاب الحقيقي قد يأتي بعد ذلك بكثير.

ولسوء الحظ، فإن المنطق وراء البقاء في أفغانستان لا تدعمه الحقائق على الأرض، والتي تكشف مدى فشل تجربة بناء الدولة التي قامت بها أمريكا هناك. يعاني الجيش والشرطة الأفغانيان من فساد مؤسساتي متفشٍّ، بالرغم من سنوات من الدعم الأمريكي الذي بلغت قيمته 87 مليار دولار في صورة أموال وأسلحة. أثبتت القوات الأفغانية عدم فاعليتها ضد قوات طالبان الغوغائية التي حققت مكاسب على الأرض منذ دخول اتفاق وقف إطلاق عام 2020 حيز التنفيذ، وباتت تسيطر الآن على نصف البلاد تقريبًا، كما وجدت الأمم المتحدة أن أعداد الضحايا المدنيين في أفغانستان زادت عقب بداية مفاوضات السلام في سبتمبر 2020. لم تنجح جهود الحدّ من إنتاج الأفيون، الذي يعتبر شريانًا ماليًا لطالبان، إذ تقدّر الأمم المتحدة أن أفغانستان تشكّل “نسبة 84 بالمائة من إنتاج الأفيون العالمي خلال السنوات الخمس الماضية”. يوضح تقرير لصحفية واشنطن بوست بالتفصيل، كيف أن الأموال التي قدمتها الولايات المتحدة للحكومة الأفغانية، وغير الخاضعة لأي رقابة تُذكر، فاقمت من ثقافة الفساد الحكومي، إذ لفت مسئول في وزارة الخارجية الأمريكي قائلا: إن أمريكا كانت “تسعى يائسةً لجلب مدمني الكحول إلى الطاولة، لدرجة أننا استمرينا في صبّ الشراب، دون أن نعلم أو ندرك أننا نقتلهم بذلك”. بالرغم من الدعم المتواصل من الولايات المتحدة لإعادة بناء الاقتصاد الأفغاني، إلا أن معدل الفقر هناك زاد في العقد الماضي.

لقد فشلت أمريكا في تحقيق السلام والاستقرار في أفغانستان، وما من سبب للشك في أن إطالة أمد الانخراط العسكري الأمريكي، سيغيّر هذا. ربما تكون حركة طالبان، التي تستمد قوتها من دعم جزء مهم من الشعب الأفغاني، شريكًا مفاوضًا غير موثوق فيه، لكن من غير المرجح أن تصبح هذه الجماعة الإرهابية أكثر موثوقية في الأشهر الستة المقبلة أو حتى السنوات الستة المقبلة. إن الجهود الدبلوماسية الرامية لإنشاء حكومة انتقالية تضمّ طالبان، هي جهود حميدة وتستحق متابعتها حتى بعد مغادرة أمريكا المنطقة، لكن من غير المرجح أن تنجح هذه الجهود وذلك بالنظر إلى معارضة الرئيس الأفغاني “أشرف غاني” القوية لهذه المقترحات. إن البقاء في أفغانستان لن يؤدي إلا لتعريض الجنود الأمريكيين المتبقين في أفغانستان، البالغ عددهم 2.500 جندي، للخطر، إذ يمكن أن يتحول هؤلاء الجنود لأهداف لهجمات حركة طالبان، في حال انتهكت أمريكا اتفاق وقف إطلاق النار عبر عدم وفائها بمهلة الانسحاب في الأول من مايو. يجب على الرئيس بايدن أن يبذل قصارى جهده لمغادرة أفغانستان بحلول الأول من مايو أو قريبًا من هذا الموعد، لأن البديل عن فعل هذا سيكون استمرار الوضع القائم الفاشل.

في حال نفذ بايدن خطط الانسحاب الأمريكي، فإن أجندته المحلية سترسم صورة واضحة عن كيفية استغلال هذه الموارد بصورة أفضل، بعد أن كانت مخصصة لجهود فاشلة لبناء الدولة في أفغانستان. تعمل إدارة بايدن حرفيًّا على تنفيذ العهد الذي قطعة الرئيس في حملته الرئاسية تحت شعار “إعادة البناء بشكل أفضل”، إذ وضعت الإدارة خطة للبنية التحتية قيمتها 2 تريليون دولار، لمعالجة البنية التحتية المتهالكة في أمريكا، وإعادة إحياء قطاع التصنيع الأمريكي، وتجهيز أمريكا لمواجهة تحدي المناخ المقبل. نظرًا إلى أن المشاكل التي تعاني منها البنية التحتية الأمريكية “تكلف مليارات الدولارات بفضل فقدان الانتاجية الاقتصادية”، بالإضافة إلى أن هذه التكاليف ستواصل تضاعفها مع تدهور البنية التحتية أكثر، لهذا يهدف هذا الإجراء لمعالجة هذه المشكلة المزمنة التي تعاني منها أمريكا منذ عقود طويلة، لكن صنّاع السياسات عجزوا حتى الآن عن إيجاد ردّ مناسب لها.

وتواجه أمريكا عدة نواقص نظامية أخرى لطالما شكلت قنابل موقوتة، وما تزال الرعاية الصحية في أمريكا تعاني من عيوب قاتلة، حيث إن ما يزيد على ثلاثين مليون أمريكي غير مؤمّن عليهم، كما أن معدل الوفيات التي يمكن تجنبها هو ضعف نظيره في الدول الأوروبية، بالرغم من أن إنفاق أمريكا على الفرد في مجال الرعاية الصحية هو أضعاف ما تنفقه نظيراتها في أوروبا، كما أن جائحة كورونا، التي قتلت نحو 550 ألف أمريكي، أبرزت المخاطر الناتجة عن انهيار نظام الرعاية الصحية. يكافح نحو 38 بالمائة من الأمريكيين البالغين من الإدمان والعقاقير غير المشروعة، فيما يواصل الطلب الأمريكي على المخدرات دفع إنتاجها وزعزعة استقرار أمريكا الوسطى والجنوبية. بحلول عام 2018، كان طفل من بين ستة أطفال تقريبًا يعيش في فقر. إن التهديد المحدق الذي يمثله التغير المناخي- والذي يحذر خبراء من أنه قد يتسبب في خسارة 10.52 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي الأمريكي للفرد الواحد بحلول العام 2100 (ناهيك عن الدمار البيئي الهائل ومعدلات الوفيات المحتملة) – سيتطلب جهدًا وطنيًّا متواصلًا يتجاوز بنود خطة بايدن للبنية التحتية والمصممة لمعالجة هذا التهديد.

إن التناقض بين هذا الإهمال الذي طال أمده في معالجة مشاكل أمريكا الهيكلية، والوقت والطاقة والموارد المخصصة لمشروع بناء الدول الفاشل في أفغانستان، يوضح جليًّا الحاجة لمشروع أكبر لبناء الدولة في الداخل الأمريكي، والتخلي عن جهود بناء الدولة في الخارج. وبينما فشل التواجد الامريكي المستمر منذ عقدين في أفغانستان في تحقيق حلول ذات معنى للمشاكل الأساسية لهذا البلد الذي مزقته الحرب، فإن إدارة بايدن أصبحت لديها الآن فرصة للتركيز على مشاكل معقدة، لكن يمكن حلها في نهاية المطاف، تهدد الجبهة الداخلية الأمريكية، وكنا قد كافحنا لحل العديد منها (مثل الفقر والبنية التحتية ومكافحة المخدرات) في أفغانستان. في حال نجح بايدن في إخراج أمريكا من أفغانستان عام 2021، وتجنّب توريط أمريكا في مشاريع مشؤومة مماثلة في المستقبل، فسيكون بمقدوره تحويل تركيز أمريكا باتجاه حل العديد من المشاكل المحلية التي لطالما ابتُليت بها أمريكا.

لا يمكن لبايدن ولا ينبغي له تجاهل دور أمريكا الأساسي في العالم، كما أن شهوره الأولى في السلطة لا تشير إلى رغبته في إبقاء أمريكا داخل حدودها المحصّنة. لكن إنفاق 2 تريليون دولار على مشاريع طال انتظارها لتطوير البنية التحتية، يساهم أكثر بكثير في تعزيز مصالح أمريكا من إنفاق 2 تريليون دولار في محاولات فاشلة لإعادة بناء أفغانستان وجعلها تبدو على شاكلتنا. فهم أوباما هذا الأمر منذ عقد مضى، والآن جاء دور نائبه السابق لتحويل هذا الحلم المؤجل منذ زمن طويل إلى حقيقة.

للاطلاع على الرابط الأصلي اضغط هنا

ربما يعجبك أيضا