نيويورك تايمز| اللاجئون الفلسطينيون يستحقون العودة إلى وطنهم.. واليهود لا بد أن يعوا ذلك

شهاب ممدوح

رؤية

ترجمة – شهاب ممدوح

لماذا تسبب الطرد الوشيك لست عائلات فلسطينية في القدس الشرقية في توريط الإسرائيليين والفلسطينيين في صراع يبدو أنه يتجه مجددًا نحو حرب أخرى؟ هذا بسبب كلمة تظل إلى حدٍّ كبيرٍ موضوعًا محرّمًا في المجتمع اليهودي الأمريكي: النكبة.

إن النكبة لا تشير فقط إلى الـ 700 ألف فلسطيني الذين طُردوا أو هربوا ذعرًا أثناء قيام دولة إسرائيل. لكنها يمكن أن تشير أيضًا إلى عمليات الطرد العديدة التي حدثت منذ ذلك الوقت: نحو 300 ألف فلسطيني شرّدتهم إسرائيل عندما احتلت الضفة الغربية وقطاع غزه عام 1967، بالإضافة إلى 250 ألف فلسطيني لم يتمكنوا من العودة إلى الضفة الغربية وغزه بعد إلغاء إسرائيل لحقوق إقامتهم في الفترة بين 1967 و1994، فضلًا عن مئات الفلسطينيين الذين هدمت إسرائيل منازلهم في عام 2020 وحده. إن عمليات الطرد من البيوت في القدس الشرقية هي مسألة ملتهبة للغاية لأنها تعدّ استمرارًا لنمط الطرد القديم قِدم دولة إسرائيل نفسها.

إن النكبة كلمة شائعة وسط الفلسطينيين. لكن بالنسبة لليهود – حتى وسط اليهود الليبراليين في إسرائيل وأمريكا وحول العالم – هي موضوع صعب مناقشته لأنها مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بإنشاء إسرائيل. من دون الطرد الجماعي للفلسطينيين عام 1948، لما امتلك القادة الصهاينة أو الغالبية اليهودية الأرض لإنشاء دولة يهودية قابلة للحياة. كما ناقشت بإسهاب في مقالة في مجلة “جويش كارنتس”، فإن الإقرار بعملية الطرد تلك والبدء في علاجها-عبر السماح بعودة اللاجئين الفلسطينيين- يتطلب التفكير في بلد من طراز مختلف، حيث يُعامل الفلسطينيون كمواطنين متساوين، وليس كتهديد ديموغرافي.

ولتجنّب هذا الحل، تصرّ الحكومة الإسرائيلية وحلفاؤها من اليهود الأمريكيين على أن اللاجئين تخلوا عن أمل العود لوطنهم. هناك مفارقة كبيرة في هذا الطلب، لأن ما من شعب في التاريخ البشري كان متمسكًا بعناد بحلم العودة مثل اليهود. يدحض قادة اليهود حقيقة أن الفلسطينيين ينقلون هويتهم كلاجئين إلى أطفالهم وأحفادهم. لكن اليهود مرروا هويتهم كلاجئين لألفي عام. في أعيادنا وطقوسنا الدينية، نحن ننتحب باستمرار على طردنا، ونعبّر عن شوقنا للعودة. تقول وثيقة إعلان دولة إسرائيل “وعندما أجْلِيَ الشعب اليهودي عن بلاده بالقوة، حافظ على عهده لها وهو في بلاد مهاجره”. إن كان اليهود يعتبرون أن مواصلة الإيمان بقدرتهم على التغلب على المنفى هو مسألة مقدسة، فكيف لنا أن ندين الفلسطينيين لأنهم يفعلون نفس الشيء؟

بالإضافة إلى إخبارهم الفلسطينيين أنهم لا يستطيعون العودة لأرضهم لأنهم كانوا بعيدين عنها لزمن طويل للغاية، يجادل القادة اليهود أن العودة هي مسألة غير عملية. لكن هذه مفارقة عجيبة، إذ تشير المدافعة عن حقوق اللاجئين “لبنى شوملي” قائلة “لو كانت هناك دولة خبيرة في استقبال حشود كبيرة من البشر وتوطينهم في أراضٍ صغيرة للغاية، فستكون هذه الدولة هي إسرائيل”. في ذروة خروج اليهود من الاتحاد السوفيتي في مطلع التسعينيات، استقبلت إسرائيل نحو 500 ألف مهاجر. لو بدأ ملايين اليهود المغتربين العودة لإسرائيل غدًا، فلن يقول القادة اليهود إن استقبالهم سيكون مستحيلًا من الناحية اللوجستية. هم سيساعدون إسرائيل فيما فعلته في الماضي: بناء أعداد كبيرة من المنازل بسرعة.

عندما يتخيل معظم اليهود فكرة عودة اللاجئين الفلسطينيين، فإنهم ربما لا يتخيلون أنها ستكون شبيهة باستيعاب إسرائيل لليهود السوفييت. المرجح أنهم يتوقعون أن يطرد الفلسطينيون اليهود من منازلهم. لكن الحقيقة المأساوية هي أنه ليس هناك يهود كثيرون يعيشون في منازل فلسطينية سابقة، لأنه يُعتقد أن بضعة آلاف فقط منها ماتزال سليمة. تقدر السيدة “شوملي” أن أكثر من 70 بالمائة من القرى الفلسطينية التي جرى تدميرها عام 1948 لا تزال فارغة. كما أن الباحثين والناشطين الفلسطينيين الذين يتصورون فكرة العودة يجادلون عمومًا أن القيام بعملية طرد واسعة النطاق ليس ضروريًّا أو مرغوبًا به. عند سؤاله عام 2000 بشأن اليهود الذين يعيشون في منازل كانت مملوكًا سابقًا لفلسطينيين، قال الناقد الأدبي الفلسطيني الشهير “إدوارد سعيد” إنه “يعارض فكرة مغادرة الناس لبيوتها” وأنه “ينبغي إيجاد حل إنساني ومعتدل تتم بواسطته معالجة مطالبات الماضي والحاضر”.

لا شيء من هذا يعني أن عودة اللاجئين ستكون بسيطة أو من دون اعتراض عليها. ونادرًا ما تكون جهود العدالة التاريخية أمرًا سهلًا. لكن هناك سببًا جعل الكاتب “تا نهيسي كوتس” يُنهي مقاله الشهير عن تعويضات الفصل العنصري والعبودية بالحديث عن أزمة الرهن العقاري الذي أجبرت العديد من الأمريكيين الأفرقة على ترك منازلهم في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. إن جرائم الماضي، عنما تُترك دون حل، لا تبقى في الماضي. هذا أيضًا هو درس عمليات الطرد التي أشعلت الصراع بن فلسطين وإسرائيل. قبل أكثر من سبعين عقدًا مضى، طُرد فلسطينيون لإنشاء دولة يهودية. والآن هم يُطردون لجعل القدس مدينة يهودية. إن رفض الحكومة الإسرائيلية وحلفائها اليهود الأمريكيين مواجهة نكبة عام 1948، سيضمن استمرار هذه النكبة.

ربما يخشى القادة اليهود الأمريكيون من أن مواجهة الجرائم المرتكبة أثناء ولادة إسرائيل، سيجعل اليهود معرضين للخطر. وأنه بمجرد أن يُلغى التحريم المفروض على النكبة، سيشعر الفلسطينيون بجرأة أكثر في السعي للانتقام. لكن في أغلب الأحيان، تكون المواجهة الأمينة مع الماضي ذات أثر معاكس.

بعد أن كتب “جورج بشارات”، وهو أستاذ قانون أمريكي من أصل فلسطيني، بشأن المنزل في القدس الذي بناه جدّه ولكن تمت سرقته، تواصل معه بشكل غير متوقع جندي إسرائيلي سابق كان يعيش في ذلك المنزل. أخبره الجندي الإسرائيلي السابق عندما التقاه “أنا آسف، لقد كنت أعمى. ما فعلناه كان خطأ، لكن أنا شاركت فيه ولا يمكنني إنكار هذا”، مضيفًا “أنا مدين لعائلتك بإيجار ثلاثة أشهر”. كتب السيد “بشارات” لاحقًا أن ذلك كان مصدر إلهام له جعله يرغب في الردّ بالمثل على إنسانية ذلك الجندي.

وكتب “بشارات” قائلا: إن “ردّ الفعل الواضح هذا، سيكون بانتظار إسرائيل في حال استطاعت الاعتذار للفلسطينيين”. في تلك اللحظة رأى “بشارات” “مخزونًا كامنًا من الشهامة وحسن النية الفلسطينية، بإمكانه أن يُحدث تحولًا في العلاقات بين الشعبين”.

هناك كلمة عبرية مقابلة لسلوك هذا الجندي السابق: “تيشوفاه” وهي تُترجم عمومًا إلى “التوبة”. لكن المفارقة أن معناها الحرفي هو “العودة”. في التقاليد اليهودية، العودة لا يجب أن تكون مادية، لكن يمكن أيضًا أن تكون أخلاقية وروحانية. هذا يعني أن عودة اللاجئين الفلسطينيين – والبعيدة كل البُعد عن ضرورة نفي اليهود – يمكن أن تكون نوعًا من العود لنا أيضًا، أي العودة لتقاليد الذاكرة والعدل التي طردتها النكبة من حياة اليهود المنظمة.

قال الشاعر الفلسطيني “محمود درويش” ذات مرة: “المحتل وأنا- كل منا يعاني من المنفى” وتابع قائلًا: “هو منفي داخلي، وأنا ضحية منفاه”.  كلما طال أمد إنكار اليهود للنكبة، تفاقم منفانا الأخلاقي. بمواجهتهم النكبة بشكل مباشر والبدء في عملية إصلاح، يمكن لليهود والفلسطينيين، بطرق مختلفة، البدء في العودة إلى الوطن.   

للاطلاع على الرابط الأصلي اضغط هنا

ربما يعجبك أيضا