فورين أفيرز | الفيروس الأبدي… استراتيجية طويلة المدى لمكافحة كوفيد 19

بسام عباس

رؤية

ترجمة – بسام عباس

إنه الوقت الذي يتوجب علينا فيه القول بصوت عالٍ: إن الفيروس الذي يقف وراء جائحة كورونا لن يختفي، وأنه لا يمكن القضاء على (سارس-كوفيد-2)، لأنه يعيش بالفعل في أكثر من اثني عشر نوعًا مختلفًا من الحيوانات. أما فيما يتعلق بانتشاره بين البشر، فإن مناعة القطيع العالمية، التي تم الترويج لها كحل وحيد، لا يمكن تحقيقها. ذلك لأن معظم الدول ليس لديها لقاحات تكفي لجميع مواطنيها، وحتى في الدول القليلة المحظوظة التي لديها إمدادات وفيرة، يرفض الكثير من مواطنيها الحصول على اللقاح.

ونتيجة لذلك، لن يصل العالم إلى تلك النقطة التي يكون فيها جميع البشر– أو عدد كبير جدًا منهم– محصنين لوقف انتشار الفيروس قبل ظهور السلالات الخطرة، تلك التي تكون أكثر سرعة في الانتقال، ومقاومة للقاحات، وحتى ستكون قادرة على التهرب من الاختبارات التشخيصية الحالية. ويمكن لمثل هذه السلالات الخارقة أن تعيد العالم إلى المربع الأول. وكأننا في بداية عام 2020 مرة أخرى.

وقامت العديد من الدول بمحاصرة الوباء بتطبيق الضوابط المشددة على الحدود والاختبارات الممتازة والتتبع والعزل، ومع ذلك لم تتمكن من الحصول على لقاحات جيدة. ولكن حتى الدول التي لقحت نسبًا كبيرة من مواطنيها ستكون عرضة لتفشي الأمراض التي تسببها بعض سلالات الفيروس؛ لأن مكافحة الوباء لا تتعلق بالمال والموارد فقط؛ بل تتعلق أيضًا بالأفكار والاستراتيجيات.

وبالنسبة لهذا الوباء، يمتلك علماء الأوبئة أيضًا العديد من الأدوات لإعادة العالم إلى حالة طبيعية نسبيًا، للسماح لنا بالتعايش مع الوباء الجديد، كما تعلمنا التعامل مع أمراض أخرى، مثل الأنفلونزا والحصبة.

ويكمن المفتاح في معالجة اللقاحات على أنها موارد قابلة للتحويل يمكن نشرها بسرعة في الأماكن التي تشتد الحاجة إليها، إلى المناطق الساخنة حيث معدلات الإصابة مرتفعة وإمدادات اللقاحات منخفضة. والولايات المتحدة في وضع جيد لقيادة هذه الجهود، باستخدام نسخة حديثة من تلك الاستراتيجية التي استخدمت للسيطرة على الجدري.

وفي الوقت نفسه، يجب على الحكومات استغلال التقنيات الجديدة لتحسين التعرف على حالات تفشي المرض واحتوائها. وهذا يعني تبني أنظمة إعلام تنبيه الناس دائما إلى احتمال إصابتهم بالعدوى. وهذا يعني تعزيز القدرات على تتبع الجينوم الفيروسي، بحيث يمكن للباحثين تحديد السلالة الجديدة بسرعة ومعرفة أي اللقاحات التي تعمل بشكل أفضل ضد كل منها. وكل هذا يجب أن يحدث في أسرع وقت ممكن، فكلما أبطأت الدول بتلقيح الأشخاص الأكثر عرضة لخطر العدوى بالمرض، ستظهر المزيد من السلالات الخطرة.

ومن هنا ينبغي إصلاح النظام الدولي للاستجابة للأوبئة، حيث كشفت الأزمة الحالية أن هذا النظام يعاني من البطء ونقص خطير في التمويل، كما يتعرض للتدخل السياسي. وفي وقت تتصاعد فيه النزعة القومية، تحتاج الدول إلى إيجاد طريقة للعمل معًا لإصلاح مؤسسات الصحة العامة العالمية التي ستكون مسؤولة عن خوض هذه المعركة طويلة الأمد لمكافحة فيروس كورونا، كما يجب حماية هذه الهيئات وتمكينها حتى تتمكن من العمل بشكل أسرع مما هي عليه.

إلا أن الكثير من الحكومات تجاهلت إرشادات المجتمع العلمي، وفشلت في تشجيع ارتداء الأقنعة والتباعد الاجتماعي، حتى مع تزايد الأدلة. والآن، ينبغي على الحكومات أن تتعامل مع حقيقة أخرى غير مريحة: إن ما كان يأمل الكثيرون أن يكون أزمة قصيرة العمر سيكون بدلًا من ذلك معركة طويلة وبطيئة في مواجهة فيروس مرن بشكل ملحوظ.

كيف وصلنا إلى هذه المرحلة؟

ضرب فيروس كورونا في لحظة جيوسياسية مشؤومة، حيث أدى تصاعد النزعات القومية والشعبوية إلى صعوبة محبطة في تكوين استجابة تعاونية دولية لوباء يهدد العالم. ولهذا، يتحمل البلدان المتنافسان– الصين والولايات المتحدة– على زعامة العالم الجزء الأكبر من اللوم في السماح بانتشار مرض جديد ليصبح وباءً مدمرًا.

هذا، وقد عملت شركات الأدوية والتكنولوجيا الحيوية جنبًا إلى جنب مع الحكومات لتصنيع لقاحات جديدة قوية في وقت قياسي.

كما وافقت المملكة المتحدة على لقاح “أوكسفورد أسترازينيكا” في ديسمبر 2020، وقامت الولايات المتحدة بالشيء نفسه بالنسبة للجرعة الواحدة من لقاح “جونسون أند جونسون” في فبراير 2021.

ومن جهة أخرى، اشترت الولايات المتحدة والدول الغنية الأخرى، لحماية أوضاعهم وعدم المجازفة، أضعاف عدد الجرعات التي تحتاجوها من العديد من الشركات المصنعة، مما أدى إلى احتكار سوق اللقاحات، كما لو كان المنتج سلعة عادية. ومما زاد الطين بلة، أن بعض الدول فرض لوائح تصدير تقييدية حالت دون تصنيع اللقاحات وتوزيعها على نطاق أوسع.

وفي شهر مايو، أشار المدير العام لمنظمة الصحة العالمية، “تيدروس أدهانوم غيبريسوس”، إلى أن 75% من جرعات اللقاح استخدمت في عشر دول فقط، واصفًا هذا التوزيع بأنه “غير متكافئ” وأنه “فضيحة” تهدد باستمرار الوباء. وفي غياب التنسيق العالمي لشراء اللقاحات وتوزيعها، أبرمت الحكومات صفقات ثنائية، تاركة غيرها من الدول غير المحظوظة بلقاحات أقل فاعلية أو لم يتم اختبارها.

وفي الوقت نفسه، أدت الزيادة المدمرة لحالات الإصابة بفيروس كورونا في الهند إلى خفض صادرات اللقاحات المنتجة محليًّا؛ ما ترك الدول التي كانت تعتمد عليها– مثل بوتان وكينيا ونيبال ورواندا –  دون إمدادات كافية.

من جهتها، قدمت الولايات المتحدة الكثير من الوعود التي لم تنفذها، ولكن مع انتهاء شهر مايو، كان اللقاح الوحيد الذي صدّرته هو لقاح “أكسفورد أسترا زينيكا”. ولتوفير كميات كافية من اللقاحات للدول الأقل ثراءً، ولمساعدة منظمة الصحة العالمية في إدارة التحدي المتمثل في توزيع اللقاحات بشكل عادل عالميًّا، دشن تحالف من المنظمات مبادرة فريدة من نوعها تسمى “كوفاكس”، تهدف إلى جمع أموال كافية لتوفير ما يقرب من مليار جرعة إلى 92 دولة غير قادرة على دفع ثمن اللقاحات بنفسها؛ ما يسمح لكل منها بتلبية 20% من احتياجاتها من اللقاحات.

في الواقع، كانت العوائق التي تحول دون الوصول إلى المصابين كبيرة جدًا، لدرجة أن العديد من الدول منخفضة ومتوسطة الدخل لن يكون لديها ما يكفي من اللقاحات لتلقيح حتى السكان المعرضين للخطر حتى عام 2023.

كورونا في تقاطع الطرق

بعد مرور أكثر من عام ونصف على انتشار الوباء، أصبح من الواضح أن السباق لاحتواء الفيروس هو في الوقت نفسه سباق سريع بل هو ماراثون، حيث يحتاج العالم إلى تطعيم أكبر عدد ممكن من الأشخاص في أسرع وقت ممكن لإبطاء انتشار الفيروس.

ومن جهة أخرى، كان هناك تدفق مستمر لسلالات جديدة من الفيروس؛ ما يهدد التقدم الذي تم إحرازه في اللقاحات والتشخيصات، فقد ظهر بالفعل عدد من المتغيرات التي تنتشر بسهولة أكبر، وتسبب أمراضًا أكثر خطورة، أو تقلل من فاعلية العلاجات أو اللقاحات، وقد يتطلب كل متغير جديد أكثر مقاومة أو أكثر قابلية للانتقال تطعيمات معززة إضافية، أو ربما لقاحات جديدة تمامًا؛ ما يضيف إلى التحدي اللوجستي الهائل المتمثل في تلقيح مليارات الأشخاص في نحو 200 دولة.

الدور الأمريكي

بصفتها دولة غنية وقوية ومتقدمة علميًّا، فإن الولايات المتحدة في وضع مثالي للمساعدة في قيادة المعركة الطويلة ضد فيروس كورونا، وللقيام بذلك، يجب على البلاد استعادة سمعتها لقيادة الصحة العامة العالمية. وفي وقت تجدد فيه النزعات القومية في الداخل والخارج، ستحتاج إلى الارتفاع فوق قوى الانقسام وحشد بقية العالم للانضمام إليها في القيام بما قد يكون أكبر تجربة في التعاون الصحي العالمي على الإطلاق.

ولذلك ينبغي على الولايات المتحدة أن تواصل مسارها نحو صفر حالات إصابة بالفيروس في الداخل. إذ لا يمكن لأي بلد أن يساعد الآخرين إذا أصيب بالشلل هو نفسه، حيث ينبغي وجود لقاحات شديدة الفعالية، إلى جانب حملات التطعيم المنتشرة في معظم الولايات المتحدة.

وعند النظر إلى الولايات المتحدة الآن، لم يعد علماء الأوبئة يرون غطاء من المرض يغطي طول البلاد وعرضها؛ بل أصبحوا يرون فقاعات متفرقة، ومن ثم يجب إعادة توزيع اللقاحات على أجزاء البلد ذات معدلات الإصابة المرتفعة لحماية الأشخاص الأكثر عرضة للإصابة بالمرض وتقليل احتمالية انتقاله.

ومن خلال ممارسة التطعيم “في الوقت المناسب”، كان علماء الأوبئة قادرين على منع سلالات جديدة من الانتشار- حيث عملوا سريعًا على السيطرة على المرض وتوفير ما يصل إلى ثلاثة أرباع جرعات اللقاح مقارنة بما إذا كانوا قد أجروا التطعيم الشامل. ومع ذلك، يتمتع علماء الأوبئة اليوم بفائدة إضافية تتمثل في امتلاكهم الأدوات الجديدة القوية لاكتشاف الفاشيات وتطوير اللقاحات.

وفي ظل اعتماد استراتيجية التطعيم “في الوقت المناسب”، يجب على الولايات المتحدة والدول الأخرى ذات معدلات الإصابة المعتدلة إعطاء الأولوية لتحصين الأشخاص المعروف أنهم تعرضوا بالفعل للإصابة بالفيروس، جنبًا إلى جنب مع جهات الاتصال والمجتمعات باستخدام الأساليب القديمة أو الحديثة.

وإذا تمكنت الولايات المتحدة من حل لغز السيطرة على تفشي وباء كورونا في الداخل وحماية نفسها من استيراد الفيروس من الخارج، فسيكون لديها مخطط يمكنها مشاركته على مستوى العالم.

ولتحقيق هذه الغاية، يجب أن تدعم القدرة التصنيعية الموسعة للقاحات كورونا في جميع أنحاء العالم والبدء في توزيع ما يكفي منها للوصول إلى آخر شبر في كل دول العالم، مع تنفيذ ذلك بشكل أسرع مما يمكن قبل ظهور السلالات الجديدة.

إن إضافة أشكال جديدة من تحديد الأمراض إلى أنظمة الإبلاغ التقليدية من شأنه أن يمنح مسؤولي الصحة العامة نوعًا من الوعي اللحظي الذي اعتاد عليه قادة ميدان المعركة والمديرون التنفيذيون منذ فترة طويلة. وهذا بدوره سيسمح لهم بالتصرف سريعًا لاحتواء تفشي المرض، وكذلك الأمر بالنسبة للتسلسل الفيروسي الأسرع والأرخص، والذي سيمكن العلماء من تحديد العدوى والسلالات بشكل أسرع. ويمكنهم حينها استخدام هذه المعلومات لتحديث الاختبارات التشخيصية لضمان المراقبة الدقيقة وتعديل اللقاحات للحفاظ على فعاليتها. وإذا اكتشفت سلالة معينة وتتأثر بأحد اللقاحات دون غيره، فيمكن نقل اللقاح الذي يعمل بشكل أفضل إلى المناطق التي تنتشر فيها السلالة الجديدة. وسيصبح مثل هذا النهج المصمم خصيصًا أكثر أهمية مع إنشاء لقاحات جديدة للسلالات الجديدة؛ وسيكون هناك حتمًا نقص في المعروض من هذه اللقاحات.

ومن هنا، يجب أن يكون الجميع ممتنًا للقاحات الرائعة التي فازت في السباق لتتصدر القائمة. ولكن يجب على الولايات المتحدة والدول الغنية الأخرى الاستثمار في الجيل القادم من لقاحات كورونا، تلك اللقاحات الأقل تكلفة في التصنيع، ولا تتطلب التبريد، ويمكن أن يعطيها أفراد غير مدربين في جرعة واحدة. وهذا ليس حلمًا بعيد المنال، إذ يقوم الباحثون بالفعل بتطوير لقاحات يمكنها تحمل الحرارة، ويكون مفعولها أسرع من الموجودة حاليًا، ويمكن تناولها عبر رذاذ الأنف أو القطرات الفموية أو اللاصقة عبر الجلد. وبفضل هذه الابتكارات، يمكن للعالم قريبًا الحصول على لقاحات عملية لتوزيعها في المناطق الريفية في الهند أو زيمبابوي كما هي في لندن أو طوكيو.

لقدحان الوقت لتجاوز النموذج القديم للصحة العالمية، حيث تم إرسال عينات من مسببات الأمراض من الدول الفقيرة إلى الدول الغنية ليتم ترتيب تسلسلها.

إن الهدف النهائي هو إنشاء شبكة استخبارات صحية عالمية من شأنها أن تجمع العلماء الذين يمكنهم جمع وتحليل ومشاركة البيانات اللازمة للإبلاغ عن تطوير الاختبارات التشخيصية والأدوية واللقاحات، فضلاً عن اتخاذ قرارات بشأن مكان زيادة اللقاحات للتحكم فيها. تفشي المرض.

لم تكن جائحة فيروس كورونا حتى الآن أسوأ جائحة في التاريخ، ولكن لا ينبغي لنا أن نتحدى القدر. لقد كشف العام ونصف العام الماضي كيف أن العولمة، والسفر الجوي، والقرب المتزايد بين البشر والحيوانات – باختصار، الحداثة – جعلت البشرية أكثر عرضة للأمراض المعدية. وبالتالي، فإن الحفاظ على أسلوب حياتنا يتطلب تغييرات عميقة في طريقة تفاعلنا مع العالم الطبيعي، والطريقة التي نفكر بها في الوقاية، والطريقة التي نستجيب بها لحالات الطوارئ الصحية العالمية. كما أنه يتطلب أيضًا حتى من القادة الشعبويين التفكير عالميًّا، فالمصلحة الذاتية والقومية لن تفلح عندما يتعلق الأمر بمرض مُعدٍ قاتل ينتشر في جميع أنحاء العالم بسرعة طائرة نفاثة وينتشر بوتيرة سريعة؛ لأنه في حالة الوباء، يجب أن تتقارب الأولويات الداخلية والخارجية.

لا يزال معظم الكوكب في حالة حداد على ما فقده منذ أن بدأ هذا الوباء. مات ما لا يقل عن ثلاثة ملايين ونصف المليون شخص، بينما يعاني الكثير من الآثار المستمرة للمرض، فيما قدّرت الخسائر المالية للوباء بنحو 20 تريليون دولار.

وأخيرًا، حددت الطبيبة النفسية “إليزابيث كبلر روس” مراحل الحزن التي يمر بها البشر وهم يتعلمون العيش مع ما قد فقدوه، وهذه المراحل هي: الإنكار والغضب والمساومة والاكتئاب والقبول. لقد مر الجميع تقريبًا بواحدة على الأقل من هذه المراحل خلال الوباء، على الرغم من أنه من نواحٍ عديدة، لا يزال العالم عالقًا في المرحلة الأولى، ينكر، ويرفض قبول أن الوباء لم ينته بعد. وإلى هذه المراحل الخمس، أضاف عالم الأخلاقيات الحيوية “ديفيد كيسلر” مرحلة أخرى بالغة الأهمية: “إيجاد المعنى”، ومن الدمار الناجم عن جائحة كورونا، يجب على العالم العمل معًا لبناء نظام دائم للتخفيف من هذا الوباء ومنع الجائحة التالية، وقد يكون اكتشاف كيفية القيام بذلك هو التحدي الأكثر أهمية في حياتنا.

لقراءة النص الأصلي.. اضغط هنا

ربما يعجبك أيضا