ناشيونال إنترست | هل يعد انسحاب أمريكا وفرنسا من أفغانستان وغرب إفريقيا نهاية للتدخلات الغربية لبناء الأوطان؟

شهاب ممدوح

رؤية

ترجمة – شهاب ممدوح

بعد نحو عشرين عامًا قضتها في أفغانستان، تسللت الولايات في منتصف الليل خارج هذا البلد. أغلق الأمريكيون الكهرباء في قاعدة “باغرام” الجوية في كابول وانسحبوا دون حتى إبلاغ قائد القاعدة الأفغاني الجديد، الذي اكتشف رحيلهم بعد مرور ساعتين.

كانت تلك صورة مؤسفة، لكن الفعل الحقيقي – مغادرة أفغانستان – أظهر أن الرئيس الأمريكي جو بايدن يوفي بوعده بعدم إرسال “جيل جديد من الأمريكيين” إلى الحرب في هذا البلد. كما أعلن بايدن أن جميع القوات الأمريكية ستغادر بحلول الحادي والثلاثين من أغسطس. وبهذا، وصلت الحرب في أفغانستان إلى نهايتها أخيرًا.

ويبدو أن الأمر ذاته ينطبق على حرب فرنسا في منطقة الساحل في غرب إفريقيا، وهي منطقة شاسعة جنوب الصحراء الكبرى تنشط فيها جماعات متطرفة منذ سنوات. أنفقت فرنسا، تمامًا مثل الولايات المتحدة في أفغانستان، المليارات على هذه الحرب الفاشلة، والتي بالرغم من أن فرنسا لم تفز بها، إلا أنها كبحت جماح المسلحين. في الواقع، حذر أحد الماليين العاملين في القاعدة الفرنسية في الساحل قائلًا: إنه “لو غادر الجيش الفرنسي مالي، فسيدخل الجهاديون خلال أسبوعين ويدمرون البلاد”. يبدو هذا مشابهًا إلى حد مخيف لما سيحدث في أفغانستان، حيث من المحتمل أن تسيطر طالبان بالقوة على البلاد من حكومة كابول.

مع هذا، قررت الولايات المتحدة وفرنسا الانسحاب. وبقيامهما بهذا، يُنهي هذان البلدان نوعًا معينًا من التدخل – والمقصود هنا تدخلات ما بعد الحرب الباردة، والمشاريع المسلحة متعددة الأطراف لبناء الأوطان، والتي ظن القادة الغربيون أنها يمكن أن تحل مشاكل مثل الإرهاب وعدم الاستقرار حول العالم. إن الانسحابات الأمريكية والفرنسية، تشير إلى أن هذا العهد انتهى: الغرب لن يحاول مجددًا هذا الأسلوب لحل أزمات كبيرة في دول مضطربة، وعوضًا عن هذا يُوكل هذا المهمة لقوى إقليمية ليست، لسوء الحظ، مؤهلة لتنفيذها.

اكتسب هذا النوع من التدخل الغربي رواجًا عقب انهيار الاتحاد السوفيتي، عندما بدا أن نجم الديمقراطية يتصاعد، وعندما اعتقد قادة غربيون أن بإمكانهم دمقرطة العالم. لكن حتى في بدايتها، كانت تلك المهام فاشلة.

لم تكن مهمة الأمم المتحدة في الفترة 1992-1993 بغرض إعادة إعمار كمبوديا تشبه مهام تلك المنظمة السابقة: كان للمهمة جانبان عسكري ومدني، وجرى تكليفها بتنظيم الانتخابات، وعدم الاكتفاء بالإشراف عليها أو مراقبتها. تكلّفت تلك المهمة نحو 2 مليار دولار، وفشلت تمامًا في دمقرطة كمبوديا. خسر “هون سين”، الذي سيطر على البلاد عام 1985، انتخابات عام 1993 التي أدارتها الأمم المتحدة، لكنه أجرى مناورة توصل بموجبها لاتفاق لتقاسم السلطة بالقوة مع الفائز، ثم أطاح برئيس الوزراء المشارك في الحكم بعد بضع سنوات عبر انقلاب دموي، ولا يزال يحكم البلد ليومنا هذا.

بعد ذلك بوقت قصير، في عام 1994، أذن مجلس الأمن الدولي للولايات المتحدة بغزو “هاييتي” (عملية الحفاظ على الديمقراطية) للإطاحة بالنظام العسكري الذي كان قد أطاح بالرئيس المنتخب “بيرتراند أرستيد” والعمل على دمقرطة البلاد. أعادت الولايات المتحدة بالفعل “أرستيد” للحكم، لكن التدخل كان نجاحًا مؤقتًا. فشلت الديمقراطية في الترسّخ هناك، لدرجة أن واشنطن قادت تدخلًا دوليًّا بعد عشر سنوات عندما أُطيح بـ “أرستيد” مجددًا عام 2004.

في عام 1995، اتخذت الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي قرارًا متأخرًا بالتدخل في البلقان، وكانا مصممين على إنهاء الإبادة البوسنية وجلب الديمقراطية للمنطقة. فلحت الجهود الأمريكية بالفعل في إنهاء الحرب، وكان ذلك بالتأكيد إنجازًا كبيرًا، لكنهم حققوا ذلك عبر اتفاق سلام – اتفاقيات دايتون – التي فشلت في وضع أسس ديمقراطية لمستقبل البلاد. وبالطبع، كان التدخل الأمريكي في أفغانستان (وكذلك في العراق) فاشلًا بصورة مماثلة، تمامًا كما هو التدخل الفرنسي في منطقة الساحل.

لكن كل جهد من تلك الجهود حظي بدعم شعبي في البداية، مع اقتناع الجمهور الغربي عمومًا بالرسالة التي تبعثها حكوماتهم، ومفادها أن القوة مترافقة مع النية الحسنة، يمكنها فعلًا أن تجعل العالم على شاكلتنا.

لكن عقودًا طويلة من الفشل غيّرت في نهاية المطاف هذا الرأي؛ فالأمريكيون والأوروبيون لم يعودوا يرغبون في إرسال قواتهم للقتال في بلاد بعيدة لأسباب تبدو خارج حدود مصالح أمنهم القومي الضيقة. إن سنوات من الإحباط حوّلت التفاؤل الذي ساد في مرحلة ما بعد الحرب الباردة في التسعينيات، إلى رؤية واقعية صارمة، حيث لم يعد الناخبون مهتمين بالترويج للديمقراطية بالقوة. هذا يعني أن القادة في واشنطن وأوروبا لم يعد لديهم رأسمال سياسي للتصرف في هذه الجبهة، حتى لو كانوا يرغبون في هذا.

هذا يفسّر عدم وجود حديث جدّي حول تدخل بقيادة غربية في ميانمار، التي باتت الآن على شفا الانهيار عقب انقلاب شهر فبراير الماضي. وهذا يفسر أيضًا لماذا سحبت الولايات المتحدة من على الطاولة أي نقاش بشأن القيام بتدخل عسكري في هاييتي، التي أصبحت على وشك السقوط في حالة فوضى عقب اغتيال الرئيس مؤخرًا. كما يفسّر هذا أيضًا، فوق كل شيء، لماذا يسحب بايدن والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون قوات بلديهما من حربين طويلتين وخاسرتين في أفغانستان والساحل، بالرغم من احتمال ملء المسلحين الإسلاميين الفراغ الذي سيتركه هذان البلدان.

الآن، سيتعيّن على قوى إقليمية التعامل مع تداعيات هذا الأمر. مع تدفق اللاجئين من ميانمار، ستتحمل دول مثل الصين والهند وتايلاند العبء الأكبر. ومع انزلاق هاييتي أكثر في دائرة العنف، ستضطر بلدان مثل جمهورية الدومينيكان، جارة هاييتي التي تتقاسم معها جزيرة إسبانيولا، للتحرك. في حال سيطر مسلحون على السلطة في أفغانستان والساحل، ستكون بلدان مثل باكستان والجزائر الأكثر تضررًا بالأحداث التالية.

من المستحيل القول إن القوى الغربية ينبغي لها التدخل في بلدن مثل ماينمار وهاييتي كما فعلت في كمبوديا وأفغانستان أو الساحل. لكن من المستحيل كذلك النظر إلى هذه الأزمات والاعتقاد أن القوى الإقليمية سيكون بمقدورها السيطرة عليها. الأمر الأكثر ترجيحًا أنه دون وجود غربي كبير، ستتفاقم هذه الأزمات، وستتحول من كونها كوارث محلية إلى كوارث إقليمية، مع تضرر حكومات في الخارج من آثارها.

ربما يكون الغرب قد سئم من التدخل المسلح لبناء الأوطان، لكن يجب أن يكون هناك طرف يلملم الشتات عندما تنهار الدول. لكن الوقت لم يحن بعد لمعرفة الطرف الذي سيفعل ذلك بالضبط.

للاطلاع على الرابط الأصلي اضغط هنا

ربما يعجبك أيضا