الجارديان| عقب جائحة كورونا.. الاقتصاد الغربي في حاجة لاتباع مسار جديد

شهاب ممدوح

ترجمة – شهاب ممدوح

بينما تخرج الاقتصاديات الغربية من أزمة الجائحة، تواجه حكوماتها خيارًا: هل تسعى لمعالجة المشاكل العميقة التي كشفها كوفيد19، أم تحاول العودة إلى “العمل كالمعتاد” في أسرع وقت ممكن؟ تكمن المشكلة في أن العديد من هذه المسائل التي تفاقمت بسبب الجائحة، مثل الركود في الأجور والعمل غير المستقر وتزايد انعدام المساواة، هي مشاكل لا يمكن أن تحدث في أي نظام اقتصادي فعّال، لكنها نتائج حتمية للطريقة التي تُنظم بها الاقتصاديات الغربية الآن. لهذا فإن اتباع نهج “العمل كالمعتاد” لن يكون ناجعًا.. هناك حاجة لتغيير أساسي.

يبدو أن حكومة الولايات المتحدة أدركت هذا. إن خطط جو بايدن الاقتصادية بعيدة كل البُعد عن الفترة الزمنية الممتدة من عهدي الرئيسين ريغان وأوباما، عندما سعت الحكومات لإبقاء الضرائب والإنفاق العام منخفضين، وركزت بشكل أساسي على التجارة المعولمة والتعليم وتدريب القوة العامة. وخلافًا لأسلافه، يسعى بايدن للقيام بإنفاق عام واسع النطاف واستغلال معدلات الفائدة المنخفضة للغاية لاقتراض أموال لضخها في استثمارات بنية تحتية. تستهدف خططه التحفيزية أزمة المناخ، والعمل في الوقت ذاته على خلق فرص عمل خضراء وتوسيع قطاعات الصحة والتعليم ورعاية الأطفال. المقصود هنا هو “البنية التحتية الاجتماعية” الضرورية للاقتصاد والتي تجاهلها العديد من خبراء الاقتصاد البارزين.

لا يخشى بايدن من رفع الضرائب أيضًا، وقد اقترح إجراء زيادات كبيرة في ضرائب الشركات والحد الأعلى للضريبة على الدخول ومضاعفة ضرائب الأرباح الرأسمالية. وفيما يخص سوق العمل، فإن إدارته ملتزمة بإدارة ما وصفته “جانيت يلين” وزيرة الخزانة الأمريكية بأنه “اقتصاد عالي الضغط” والذي يؤدي فيه الطلب المتواصل لرفع الأجور وتحسين ظروف العمل. كما أن بايدن قرّر مواجهة الشركات الكبيرة، مُقدّمًا مجموعة كبيرة من الإجراءات الصارمة ضد الممارسات المنافية لقواعد المنافسة التي تقوم بها شركات احتكارية.

لقد فاجأت سياسات بايدن الكثيرين، لكنها لم تأتِ من فراغ؛ فقد اعتمدت إدارته على ثروة من الأفكار الجديدة التي برزت عقب الأزمات الاقتصادية في العِقد الماضي. أظهرت الأزمة الاقتصادية العالمية لعام 2008 أن الشكل الجديد للرأسمالية الذي يهيمن عليه النشاط المالي أصبح غير مستقر للغاية، وأعقب ذلك سنوات طويلة من التقشف والنمو البطيء وركود الأجوار وتعطل الإنتاجية وانعدام مساواة مفرطة. في غضون هذا، يهدد الانهيار البيئي والمناخي بحدوث كارثة حتى للاقتصاديات الأكثر ثراء. في مواجهة هذه المشاكل، رفض عدد متزايد من خبراء الاقتصاد بشكل صريح الممارسة التقليدية للاقتصاد الحر وفكرة عدم تدخل الحكومات في الاقتصاد، والتي هيمنت على السياسة الاقتصادية الغربية على مدار السنوات الأربعين الماضية.

تُعيد بعض أفكارهم إحياء نظريات اقتصادية لـ “جون ماينارد كينز” الذي يرى أن الإنفاق الحكومي ضروري لتحفيز الطلب على البضائع والخدمات أثناء فترة الكساد. ومؤخرًا، أدرك معظم خبراء الاقتصاد أنه في عصر يشهد معدلات فائدة متدنية للغاية، يجب أن تلعب السياسة المالية – الإنفاق والضرائب – دورًا رئيسيًّا في طريقة إدارة الاقتصاد. يدرك كثيرون الآن أيضًا أنه ليست هناك قيود مطلقة على الدين العام، وطالما ظلت تكلفة الاقتراض معقولة بسبب تدني معدلات الفائدة، وطالما جرى استخدام اموال الاقتراض لتمويل استثمارات (ما يرفع من الدخل القومي في المستقبل، وبالتالي يجلب المزيد من الضرائب) فإن معدل الدين للناتج القومي الإجمالي سينخفض في نهاية المطاف. على النقيض من هذا، فإن محاولة تقليل الدين عبر سياسات تقشفية هو مؤذٍ ويأتي بنتائج عكسية، كما ثبت في العقد الماضي.

إن التفكير الاقتصادي يشهد تحولًا ردًّا على أزمات المناخ والطبيعة، ولم يعد كافيًا استخدام بضع قواعد تنظيمية للمنتجات وضرائب بيئية قائمة على السوق. ولخفض الانبعاثات إلى الصفر، يجب حشد الاقتصاد بأكمله نحو تحقيق هذه الأهداف. في الوقت ذاته، هناك حاجة لاستراتيجية صناعية نشطة لدعم تكنولوجيات وأنماط استهلاكية أكثر مراعاة للبيئة، وإنشاء برامج لإيجاد وظائف للعمال والمجتمعات المتضررة بشدة من هذا الانتقال الأخضر.

تدرك الاقتصاديات الجديدة أن تخفيض انعدام المساواة، سيعني معالجة مشكلة “الاقتصاد الريعي” الذي يركز ملكية الأصول في أيدي الأغنياء. هذا سيعني الحدّ من الاحتكار وتنظيم عمل القطاع المالي للتركيز على استثمارات طويلة الأمد وليس استخراج الثروات قصير الأمد. ينبغي فرض ضرائب مرتفعة على الثروة والأراضي، بينما قد يؤدي استخدام الاشتراء العمومي في دعم بناء ثروة المجتمع، لضمان احتفاظ الاقتصاديات المحلية بالثروة والوظائف. إن إصلاح قطاع الرعاية، مثل الحد الأدنى المضمون للدخل، ضروري لإنهاء الفقر، كما يتعيّن القضاء على انعدام المساواة العرقية والجندرية، وتبرز هذه الأفكار مجتمعة في “الصفقة الخضراء الجديدة”.

وفوق كل شيء، بدأ كثيرون إدراك أن السياسة الاقتصادية بحاجة لأن توقف تركيزها على النمو. لم يكن النمو مطلقًا هو الهدف، لكن خبراء الاقتصاد لطالما افترضوا أنه سيحل معظم المشاكل الأخرى. لقد بدأت تظهر أفكار جديدة تتعلق باقتصاد “مرحلة ما بعد النمو” الذي يركز على الاستدامة البيئية وتقليل انعدام المساواة وتحسين الرفاهية الاجتماعية والفردية، وضمان أن يكون النظام الاقتصادي أكثر مقاومة للصدمات.

أثناء فترات الأزمات الاقتصادية السابقة، تفوقت نظريات اقتصادية جديدة على الأفكار السائدة بشأن طريقة تنظيم الاقتصاد وإدارته. أدّى الكساد العظيم في ثلاثينيات القرن الماضي لبروز “الثورة الكينزية” والتطبيق الكامل لدولة الرفاه. ولا يزال من المبكر للغاية معرفة ما إذا كان هناك تحول جذري في الأفكار يحدث اليوم. لكن يجب على بايدن تمرير خططه الاقتصادية عبر الكونغرس. وفي المملكة المتحدة، لا تزال الأحزاب الرئيسية تفكر في كيفية “إعادة البناء بشكل أفضل”.

لقد أقرّ كل من رئيس الوزراء “بوريس جونسون” ورئيس حزب العمال “كير ستارمير” بأهمية منح الأولوية لمعالجة التغير المناخي والقضاء على انعدام المساواة. لكن يبدو أن هذين الرجلين ومعظم المعلقين، لم يدركوا بعد وتيرة تغيّر الاقتصاد الذي أعقب الأزمات الحالية. إن المسألة لم تعد تتمحور ببساطة حول حجم تكلفة السياسة الاقتصادية أو طريقة تمويلها، فهناك كمّ كبير من الأفكار الجديدة التي يمكنهم الاستفادة منها لمعالجة التحديات الكبيرة التي تواجهها اقتصادياتنا. لقد فشلت الممارسات التقليدية القديمة في تحقيق أهدافها، وسيطرح العالم الجديد في مرحلة ما بعد الجائحة تساؤلات جديدة، وهناك حاجة لإجابات جديدة عليها.   

للإطلاع على المقال الأصلي إضغط هنا

ربما يعجبك أيضا