نيويورك تايمز | لندن.. مدينة تخفي أموال العالم المسروقة!

بسام عباس

ترجمة – بسام عباس

في عام 1969، بعد عامين من إصدار جزر كايمان، وهي إقليم بريطاني، قانونها الأول للسماح بإنشاء صناديق ائتمانية خارجية سرية، أثار تقرير حكومي رسمي ملاحظة منذرة بالسوء، حيث حذر من أن موجة من الخطط اللامعة التي تطرحها شركات التطوير الخاصة كانت تتدفق عبر الجزر. وتحولت كايمان بسرعة إلى دولة استولت عليها عمليات التمويل المشبوه.

كانت تلك البدايات الحادة لنظام حديث سلطت الضوء عليه “أوراق باندورا”، وهي عملية تسريب هائلة للبيانات حدثت بتنسيق من الاتحاد الدولي للصحفيين الاستقصائيين، حيث كشفت الصحف عن مجموعة كبيرة من المعاملات المالية السرية والمشكوك فيها أدارها أكثر من 330 سياسيًّا ومسؤولًا عامًا من أكثر من 90 دولةً وإقليمًا، وأكثر من 130 مليارديرًا من روسيا والولايات المتحدة ودول أخرى. وكشفت هذه الوثائق مجموعة مذهلة من عمليات الخداع واكتناز الثروة، ارتكبها الأشخاص الذين يجب أن يتخذوا إجراءات صارمة ضدها.

كانت هذه التسريبات، التي نُشرت في 3 أكتوبر، ذات نطاق عالمي، ولكن إذا كانت هناك دولة واحدة في قلب هذا النظام [نظام التمويل المشبوه] فهي بريطانيا، والتي تلعب دورًا فعّالًا في إخفاء الأموال النقدية والأصول في جميع أنحاء العالم، وإلى جانب المناطق التي تسيطر عليها جزئيًّا في الخارج، فإنها، كما قال عضو في حزب المحافظين الحاكم الأسبوع الماضي “عاصمة غسيل الأموال في العالم”. ومدينة لندن، مركزها المالي المذهل، هي جوهر ذلك النظام.

بالنسبة لبريطانيا، التي يؤدي قطاعها المالي المتضخم إلى تفاقم المشاكل الاقتصادية المنتشرة، فإن هذا نذير سوء بما يكفي. أما بالنسبة للعالم، الذي يرزح تحت نيران نظام اقتصادي مزوّر لصالح لأثرياء، فإنه أسوأ من ذلك!

وهذا النظام الخارجي، بحكم تصميمه، معقّد للغاية؛ إذْ تحجب العديد من الأدوات المعقدة والمبهمة، بما تتضمنه الصناديق الائتمانية الخارجية والثغرات الضريبية والشركات الوهمية، بالإضافة إلى السرية المصرفية والتنظيم المالي المهمل أصول الأثرياء في وضع ضبابي قانوني شديد الغموض. وفي قلب كل ذلك توجد الملاذات الضريبية، مثل جزر كوك وجزر العذراء البريطانية وجيرسي (إحدى جزر القنال)، والتي يمكن أن تعمل مثل “خلجان للمهربين”. يضع الأثرياء والأشرار أموالهم هناك لحمايتها، بالإضافة إلى الهروب من القواعد والقوانين والضرائب التي لا يحبونها أيضًا.

والثروات الموجودة في الملاذات الضريبية ضخمة جدًّا، إذْ تتراوح التقديرات بين 6 تريليونات دولار و36 تريليون دولار. وبعض الملاذات الضريبية أقرب إلى الوطن مما قد يتخيله الكثيرون. ولطالما كانت الولايات المتحدة، بشركاتها الوهمية المشبوهة في ديلاوير وصناديق ولاية ساوث داكوتا، جزءًا كبيرًا من نظام السرية. وتقدم مجموعة من الدول الأوروبية، بما في ذلك لوكسمبورغ وإيرلندا وسويسرا، قائمة أخرى من طرق الهروب. وفي آسيا، بالطبع، هناك هونج كونج وسنغافورة.

ومع ذلك تُعدّ الشبكة البريطانية هي الأكبر بالتأكيد، حيث يُظهر مؤشر السرية المالية التابع لشبكة العدالة الضريبية، وهو تصنيف للملاذات الضريبية، أن بريطانيا و”شبكة العنكبوت” من الأقمار الصناعية الخارجية ستحتل المرتبة الأولى، وأن أكثر من ثلثي الشركات البالغ عددها 956 شركة التي تربطها أوراق باندورا المسربة بالمسؤولين الحكوميين قد أنشئت في جزر العذراء البريطانية.

ويقع مركز هذه العملية في قلب مدينة لندن، وذلك من خلال قوائم أسواق الأسهم الدولية، وتداول العملات، وإصدار السندات وغيرها الكثير من التعاملات المالية، تتعامل المدينة مع نشاط مالي محترم تمامًا من جميع أنحاء العالم. ولكنها أيضًا تظل المركز العصبي الرئيسي للنظام الخارجي العالمي المظلم الذي يخفي ويحمي ثروات العالم المسروقة.

كانت المدينة في يوم من الأيام القلب الضخم للإمبراطورية البريطانية، وقد أعادت تشكيل نفسها كقناة مهمة لرأس المال الدولي من جميع الأنواع، وجاءت اللحظة الحاسمة عندما سمح بنك إنجلترا للبلد باستضافة سوق اليورو دولار الجديد. وكانت هذه مساحة خارجية غير منظمة تقريبًا ومربحة للغاية، ومنفصلة عن الاقتصاد البريطاني، حيث يمكن للبنوك الأجنبية، ومعظمها أمريكية، اتخاذ إجراءات لا يمكنها تنفيذها في الداخل.

ففي السبعينيات، بدأ هذا السوق سريع النمو في الاندماج مع الملاذات الضريبية البريطانية، وغيرها، في إطار شبكة عالمية. وقد عملت الملاذات البريطانية منذ ذلك الحين على أنها أوعية لجمع الأنشطة المالية المتنوعة من جميع أنحاء العالم، سواء كانت قانونية أم لا، وغالبًا ما تمرّر المحاسبة والمصارف والمحاماة إلى الشركات في المدينة.

وإضافة إلى ذلك، تسبب الاثنان في أضرار لا توصف، فالإيرادات الضريبية المفقودة تثير الدهشة، حيث تستخدم الشركات الملاذات الضريبية للهروب من دفع ما يقدر بـ 245 مليار دولار إلى 600 مليار دولار سنويًّا. (وإن صفقة عالمية جديدة لحد أدنى بنسبة 15% من معدل الضريبة على الشركات ستكبح تلك الخسائر)، بينما يخفي الأفراد مبالغ طائلة أيضًا.

لكن الضرائب ليست سوى جزءًا من القصة، فقد أدت لعبة الخداع العالمية، التي مارسها الأثرياء وموظفوهم على مدى عقود في المدينة، إلى تآكل سيادة القانون، وجردت ثقة المواطنين في النظام. وبعد الانهيار المالي العالمي في عام 2008، الذي كشف التجاوزات الشديدة للنظام المالي، كانت هناك بعض الجهود للإصلاح. وتم كبح “ثغرة لندن”، كما أطلق عليها رئيس إحدى الوكالات التنظيمية الأمريكية، “جاري جينسلر”، ولكن الآن، مع تلاشي ذكريات الأزمة وبدء خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، تريد الحكومة إحياء العمليات الأكثر قتامة في المدينة، فقد أشارت وثيقة “فصل جديد للخدمات المالية”، وهي وثيقة إرشادية رئيسية نُشرت في يوليو، إلى العودة إلى أزمنة أكثر تساهلًا. وتظهر الكلمات المفتاحية “التنافسية” و”التنافسي” للضرائب المنخفضة، والتنظيم الضعيف والتراخي في التطبيق، أكثر من 15 مرة.

لقد أضحى إذعان بريطانيا للأموال المشبوهة يعد هزيمة ذاتية، إذ إن مركزها المالي “التنافسي” المفرط هو لعنة له عواقب وخيمة وكثيرة: عدم المساواة الإقليمية، والاقتصاد غير المتوازن، وتضاؤل الإنتاجية، وتوقف الاستثمار، وتضخم أسعار الأصول، والفساد السياسي. ولكن بعد سنوات من التقشف، ووسط نقص الغذاء والوقود، لن تستطيع بريطانيا تحمل تكاليف مدينة كبيرة الحجم.

ومع ذلك فإن العالم هو الأكثر معاناة، فبالنسبة لرجال الأعمال المشبوهين والقادة السياسيين ذوي الخدمة الطويلة، يوفر النظام البيئي الخارجي الإفلات من العقاب، وإخفاء رأس المال وحماية الثروة. وهو غير خاضع للمساءلة وغالبًا ما يتعذر تعقبه، ويضمن هذا النظام بقاء الازدهار حكرًا على القلة. ولمواجهة عدم المساواة والظلم، الذي كشفه وباء فيروس كورونا بشكل صارخ، ينبغي علينا أن نقف في وجه الملاذات والمصالح الخاصة في لندن التي تحميها.

للاطلاع على الرابط الأصلي .. اضغط هنا

ربما يعجبك أيضا