ناشيونال إنترست| هل إيران جاهزة للعب دور في منافسة القوى العظمى بجنوب القوقاز؟

شهاب ممدوح

رؤية

ترجمة – شهاب ممدوح

للعام الثاني على التوالي، تشهد منطقة جنوب القوقاز تصاعدًا للتوترات مع تنافس الدول على النفوذ في منطقة تزداد أهميتها في مجال الطاقة وبوصفها نقطة عبور بين أوروبا ووسط آسيا.

كان الغرب أيضًا غائبًا بشكل ملحوظ عن هذا المشهد. في عام 2020، وقفت أوروبا والولايات المتحدة موقف المتفرج في أفضل الأحوال في تعاملها مع حرب “ناغورنو كارباخ الثانية” بين أرمينيا وأذربيجان. والآن لا يعير الغرب اهتمامًا للتوترات بين إيران وأذربيجان والتي قد يكون لها تداعيات أوسع على مستقبل التحالفات في جنوب القوقاز.

انزعجت إيران من نتائج حرب 2020 التي غيّرت الوضع القائم الذي نشأ منذ حرب ناغورنو كارباخ الأولى في مطلع التسعينيات. حافظت إيران على ميزان قوى دقيق دعمت بمقتضاه أرمينيا، لكنها حافظت على علاقات إيجابية مع أذربيجان، لا سيما في عهد الرئيس حسن روحاني المعتدل. إن ظهور أذربيجان قوية يمكن أن يمثل تهديدًا نظرًا للخطاب القومي للقيادة الأذربيجانية في التسعينيات تجاه السكان ذوي الأصول العرقية الأذربيجانية الذين يعيشون في الأقاليم الشمالية في الجمهورية الإسلامية الإيرانية. إن ضعف الموقف الأرميني سيؤثر سلبًا أيضا على طموحات إيران لاختراق المنطقة والوصول إلى موانئ جورجيا على البحر الأسود، بوصفها أحد الطرق البديلة للتجارة مع أوروبا.

عبر هذا التوازن، كانت طهران تهدف للحصول على مكانة خاصة في الأوضاع الجيوسياسية لجنوب القوقاز، حيث تفرض روسيا هناك تاريخيًّا هيمنتها، وحيث تطمح تركيا لتحسين وضعها. سمح الوضع القائم أيضا لإيران باستغلال واحدة من الأدوات الجيوسياسية القليلة التي امتلكتها، بعد أن كانت تعمل كجسر عبور لباكو، التي كانت مضطرة للالتفاف على إقليم “سايونيك” الواقع في أقصى جنوب أرمينيا، من أجل الوصول إلى جيب “ناكشيفان” التابع لها.

لكن هذا الصرح الجيوسياسي انهار نتيجة لحرب كارباخ عام 2020. تعرضت أرمينيا لهزيمة نكراء على أيدي أذربيجان الصاعدة، التي تحالفت مع تركيا لخلق وضع جديد على طول حدود إيران الشمالية. واجهت مبادرات السلام التي طرحتها إيران رفضا من أرمينيا وأذربيجان بالإضافة إلى روسيا وتركيا. في الوقت الراهن، تتمركز قوات روسية، وإلى حد ما قوات تركيا، على الأراضي الأذربيجانية. لكن حرصًا منها على مواصلة سياستها الخارجية البرغماتية، أقرّ وزير الخارجية الإيراني في حينها “جواد ظريف” وقدم تهنئته بانتصار أذربيجان خلال زيارة إلى باكو في أواخر عام 2020.

إن غياب إيران عن طاولة المفاوضات وأثناء عملية حل الصراع كان لافتًا. لكن عوضًا عن محاولة تغيير ذلك الواقع عبر الاستثمار في الدبلوماسية العامة والأمن الإقليمي والبنية التحتية الإقليمية، تبنت إيران موقفًا أكثر عدوانية في جنوب القوقاز عبر اتباع دبلوماسية عدائية ومناورات عسكرية واسعة النطاق. حدث هذا ردًّا على تحالف تركيا الاستراتيجي مع أذربيجان، الذي يُنظر إليه باعتباره يزوّد تركيا بمنصة انطلاق لانخراط تركي أوسع في حوض بحر قزوين وفي وسط آسيا. لقد شعرت طهران بقلق بالغ بسبب تدريبات عسكرية مشتركة بين أذربيجان وتركيا وباكستان، وفرض “باكو” قيودا ورسوما على شاحنات إيرانية كانت تسافر عبر أرمينيا، فضلًا عن علاقات إسرائيل العسكرية الوثيقة مع أذربيجان.

لكن يبدو أن التوترات كانت تحت السيطرة منذ البداية. فالطرفان يعلمان جيدًا الخطوط التي لا يجب عليهما تخطيها. استغلت إيران التوترات المتصاعدة لإرسال رسالة إلى أذربيجان، وتلقت “باكو” تلك الرسالة. وفي ضوء هذا، فإن حضور إسرائيل لم يكن السبب وراء تصعيد الجمهورية الإسلامية لردّها، لكن السبب الحقيقي كان عودة ظهور تركيا بوصفها قوة رئيسية في جنوب القوقاز، وحاجة إيران لمعالجة تدهور مكانتها في المنطقة.

إن تداعيات عودة النفوذ التركي يمكن أن تكون خطيرة على سياسة إيران الخارجية. بينما تبحث إيران عن حلفاء طبيعيين لمقاومة النفوذ التركي، قد تكون أرمينيا وروسيا مرشحتين محتملتين. يخشى البلدان النفوذ التركي ويكرهان طموحات أنقرة في منطقة بحر قزوين التي تنظر إليها موسكو وطهران كمنطقة نفوذ حصرية لهما. وبحسب “معاهدة الوضع القانوني لبحر قزوين” التي وقّعتها الدول المشاطئة لهذا البحر عام 2018، لا يُسمح بتواجد أي قوة عسكرية خارجية. إن هذه المخاوف مفهومة وذلك بعد إجراء تركيا وأذربيجان مؤخرًا تدريبات عسكرية في بحر قزوين.

تخشى روسيا وإيران أيضًا من طموحات تركيا في وسط آسيا وجهودها لفتح موارد الطاقة في المنطقة للسوق الأوروبية. في مطلع عام 2021، اتفقت أذربيجان وتركمانستان على حل نزاع حول حقل “دوستلوك” في مياه بحر قزوين. طرحت تركيا بعدها بوقت قصير فكرة عقد مفاوضات ثلاثية. يمكن لتداعيات هذا الأمر أن تكون كبيرة، إذ أن تقليل التوترات بين هذين البلدين المشاطئين لبحر قزوين، أن يزيل عقبة أخرى في طريق إنشاء “خط الأنبوب العابر لبحر قزوين” وهو عبارة عن مشروع يُروج له منذ عقود لكنه ما يزال غير مُتحقق بسبب مخاوف من ردّ انتقامي محتمل من روسيا وإيران، بالإضافة لحاجة هذا المشروع لاستثمارات هائلة. يرى هذان البلدان أن الغاز التركمانستاني يتمتع بتنافسية عالية، كما أن ظهوره في السوق الأوروبية سيحدّ من صادرات روسيا ويبدّد طموحات إيران بتصدير غازها إلى الاتحاد الأوروبي.

بالتالي، لم يكن مستغربًا أن يجري وزير خارجية إيران “حسين أمير عبداللهيان” زيارة إلى موسكو وسط التوترات الأخيرة. وبينما تظل إيران وروسيا حذرتين تجاه وصف علاقتهما بالتحالف أو الشراكة، إلا أن البلدين يعتقدان أن هناك حاجة متزايدة لمعارضة التحالف التركي- الأذربيجاني المتنامي. ستضطر أذربيجان، المحشورة بين هاتين القوتين، إما للتخفيف من نجاحها وطموحاتها عقب حرب ناغورنو كارباخ الثانية، أو تعميق تحالفها مع تركيا. وفي كلتا الحالتين، سيلحق ضرر بزعم باكو بأنها تتبع سياسية خارجية متوازنة مع جميع الأطراف.

بالرغم من أن التصعيد الأخير بين إيران وأذربيجان جرت السيطرة عليه – أعلنت باكو في الثالث عشر من أكتوبر عن توصلها لتفاهم دبلوماسي مع إيران – إلا أنه من غير المحتمل أن يغيّر هذا من التحولات الجيوسياسية الأساسية التي تحدث. في الواقع، من المحتمل أن تتصاعد التوترات مع سعي تركيا لكسب مزيد من النفوذ، ومع عمل إيران على ضبط نفوذ تركيا عبر التعاون مع روسيا لمساعدة أرمينيا على تقوية موقفها الضعيف تجاه خصميها التاريخيين.

لقد وصلت منافسة القوى العظمى إلى جنوب القوقاز، وستضطر إيران للتأقلم مع منافسة شديدة مع تركيا. سيكون هذا الوضع فوضويًّا، لكنه سيكون خاضعًا لمنطق حسابات موازين القوى. إن إعادة الاصطفاف المستمرة ستكون هي القاعدة، ما يعني إمكانية ظهور تفاهمات إيرانية وروسية جديدة غرضها منع تمدد النفوذ التركي.

لقراءة النص الأصلي.. اضغط هنا

ربما يعجبك أيضا