أوراسيا ريفيو: ما موقع جنوب القوقاز في جغرافيا القوى الإقليمية والدولية؟

بسام عباس

ترجمة – بسام عباس

كانت الجغرافيا المتغيرة لجنوب القوقاز هي أهم تطور في المنطقة بعد حرب ناجورنو كاراباخ الثانية.

بعد مرور عام على انتهاء حرب ناجورنو كاراباخ الثانية، يمكننا الانتهاء من التغييرات الرئيسية في منطقة جنوب القوقاز وما حولها، حيث ركزت معظم التغييرات التي نوقشت في الأعمال العلمية حتى الآن على دور تركيا وروسيا. ومع ذلك، تم تجاهل الجغرافيا المتغيرة لجنوب القوقاز.

فمن نواحٍ عديدة، سرَّعت الحرب الاتجاهات الموجودة مسبقًا، ولكنها أطلقت أيضًا تطورات جديدة، إذ إن التغيير الأول والأهم يتعلق بالجغرافيا. تاريخيًّا، كان جنوب القوقاز تحت سيطرة الدول المجاورة. سواء كانت الإمبراطوريات الساسانية والبيزنطية في أواخر العصور القديمة، أو فيما بعد الدول العثمانية والفارسية، كانت المنطقة خاضعة حصريًا لسلطة واحدة أو سلطتين. وكانت المنطقة في الغالب مغلقة أمام النفوذ الخارجي وغير الإقليمي. واستمر هذا الاتجاه في القرنين التاسع عشر والعشرين عندما كانت جنوب القوقاز تحت سيطرة القوة الروسية حصريًّا. 

ولكن نهاية الاتحاد السوفيتي غيرت هذا الواقع الجيوسياسي عندما تمكنت عدة قوى من اختراق المنطقة. ومع ذلك، كانت وتيرة التغيير بطيئة نسبيًّا، فقد كانت روسيا لا تزال قادرة على الحد من قدرة الدول المجاورة أو غير الإقليمية على العمل في جنوب القوقاز، وهذه الدول ممثلة في تركيا وإيران والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، وإلى حد ما، تؤثر الصين على المنطقة بدرجة محدودة.

ولكن حرب ناجورنو كاراباخ الثانية عجلت بهذه العملية، حيث أصبحت حدود جنوب القوقاز تتغير بشكل متزايد، ولا يمكن لقوة واحدة أو أكثر أن تهيمن على المنطقة، فهذه الحدود تعكس التغيرات الجيوسياسية في العالم، حيث يبشر العالم الناشئ متعدد الأقطاب بمجموعة مختلفة من القواعد، ولم تعد السيطرة الجيوسياسية الحصرية متاحة، وهو ما كشفته حرب 2020 تحديدًا.

وهناك أيضًا بُعد آخر للتغير الجغرافي الذي بدأ يظهر. فقد عززت الحرب ارتباط حوض بحر قزوين وجنوب القوقاز ارتباطًا وثيقًا بالشرق الأوسط الكبير. حيث تبني روسيا وتركيا استراتيجياتهما في المنطقة على وقع التطورات في الشرق الأوسط ومنطقة البحر الأسود. ولم يكن جنوب القوقاز منذ نهاية الاتحاد السوفيتي نقطة حرجة للقوى المحيطة به، إذ إن عودة ظهور الاتصالات الوثيقة بين جنوب القوقاز والشرق الأوسط هي عودة إلى الحياة الطبيعية التي تعطلت في أوائل القرن التاسع عشر، حيث ضمت روسيا جنوب القوقاز لها. ففي الواقع، ومن الناحية الجغرافية البحتة، ترتبط المنطقة بتركيا وإيران بشكل أفضل من ارتباطها بروسيا، التي تشترك معها في سلسلة جبال القوقاز التي لا يمكن عبورها.

وهذا يعني أيضًا أن مكانة جنوب القوقاز في الفكر السياسي الإيراني والتركي، وبالتالي الروسي، قد تنامى. فمنطقة جنوب القوقاز، إن لم تكن منطقة راكدة كاملة في حساب القوى الكبرى، تعاني من نقص في الاهتمام من جانب تلك القوى. وكان هذا صحيحًا بشكل خاص بالنسبة لإيران، التي تسعى الآن للاحتفاظ بمكانتها الضعيفة في المنطقة.

صحيح أن إيران لم تكن أبدًا قوة مهيمنة في جنوب القوقاز– على عكس روسيا أو تركيا، أصحاب النفوذ التقليديين– لم يكن لها حليف حقيقي. ورغم أن طهران كانت بالتأكيد جزءًا من حسابات دول المنطقة، لكنها لم تكن ذات هيبة، مثل أنقرة أو موسكو. ومع ذلك، يمثل جنوب القوقاز منطقة نفوذ رئيسية لإيران، استنادًا إلى آلاف السنين من الاتصالات السياسية والثقافية الوثيقة التي كانت لدى العديد من الإمبراطوريات الفارسية مع جنوب القوقاز.

ولكن حرب 2020 غيرت حسابات إيران في المنطقة حيث لم يتم الالتفات إلى مصالح الجمهورية الإسلامية إلى حد كبير. ومن ثَمَّ يتعين على إيران الآن التكيف مع المشهد الجيوسياسي المتغير، ويمكن القول إن التصعيد الأخير الذي أجرته مع أذربيجان بشأن الشاحنات المحتجزة والتدريبات والنفوذ الإسرائيلي المزعوم، كان محاولة لإثبات نفسها مرة أخرى في الجغرافيا السياسية لجنوب القوقاز.

ومع ذلك، لا يوجد الكثير مما يمكن لإيران فعله لتعزيز موقعها في المنطقة. ولكن من المؤكد أن منطقة جنوب القوقاز ستحتل مكانة أعلى في أجندة السياسة الخارجية لطهران أكثر من ذي قبل. ولكن طهران ليس لديها حليف في المنطقة، ولا تملك الوسائل المالية لتعزيز قوتها الناعمة، ولكن من ناحية أخرى، يمكن لإيران أن تدعم أرمينيا في جهودها لموازنة أذربيجان المنتصرة.

وقد يؤدي رفع العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة إلى زيادة عرض إيران للقوة المالية والدبلوماسية في جنوب القوقاز. ومع ذلك، فإن النهج الأكثر واقعية بالنسبة لطهران يتمثل في بناء تعاون أوثق مع روسيا، رغم عدم توافق مصالحها مع روسيا على الدوام، ولكن بالنسبة لطهران، فإن موسكو هي قوة تقليدية في جنوب القوقاز تدور حول الحفاظ على الوضع الراهن. ولكن تركيا، من ناحية أخرى، تعطلها سعيًا وراء نفوذ أكبر. 

كان هناك نوع من التراجع في النفوذ الغربي في جنوب القوقاز. وفي حين أنه لا يشير إلى انخفاض نهائي في ثروات الغرب، فمن المهم مع ذلك بالنسبة لواشنطن وبروكسل صياغة نهج أكثر قوة تجاه المنطقة. ويمكن أن يكون خفض التوترات مع تركيا إحدى تلك الخطوات، وزيادة المشاركة الاقتصادية مع المنطقة سيكون خطوة أخرى، ولكن التأخير يمكن أن يكون ضارًا؛ وحينها ربما تكون جورجيا، بوابة الغرب على حوض بحر قزوين وإلى آسيا الوسطى، هي الخاسر الأكبر إذا غيرت واشنطن سياستها الخارجية بعيدًا عن المنطقة. وربما يكون البديل هو النموذج الروسي لبناء السلام والنظام الإقليمي حيث ستواجه جورجيا وأرمينيا وأذربيجان الافتقار إلى خيارات السياسة الخارجية إذا استمرت رغبة الغرب في عدم الالتزام بالمنطقة في الازدياد. 

للإطلاع على المقال الأصلي إضغط هنا

ربما يعجبك أيضا