فورين أفيرز | ترشيد حجم القوات الأمريكية في الشرق الأوسط

آية سيد

رؤية

ترجمة – آية سيد

منذ إعلان ترشحه للرئاسة، أوضح جو بايدن، مثل سلفيه السابقين في المكتب البيضاوي، أنه يريد إعادة موازنة التواجد العسكري الأمريكي في الشرق الأوسط. وخلال حملة 2020، تعهد بايدن بـ”إنهاء الحروب الأبدية في أفغانستان والشرق الأوسط.” بعد تولي المنصب، وعد أيضًا بوقف “عصر العمليات العسكرية الكبرى لإعادة تشكيل الدول الأخرى”. تعكس مراجعة الوضع العالمي، والدليل الاستراتيجي المؤقت للأمن القومي، واستراتيجية الدفاع القومي القادمة، هذه الحسابات، بينما تحوّل واشنطن تركيزها إلى الصين ومنطقة الهندي – الهادئ.

لكن ليس واضحًا تمامًا كيف سيبدو ترشيد حجم القوات – تحديدًا بعد الانسحاب المثير للجدل من أفغانستان. بالنسبة لبعض ممارسي السياسة الخارجية، فإنه يعني الانسحاب الكامل من المنطقة؛ بالنسبة إلى آخرين، أي شيء بعيد عن التعديلات الطفيفة هو خطأ جيوسياسي فادح. هذا خيار خاطئ، وإدارة بايدن تبدو غير حاسمة بشأن أين ينبغي أن تستقر. تسحب واشنطن بعض الموارد من الشرق الأوسط، لكن مسئولي الإدارة، ومن ضمنهم وزير الدفاع لويد أوستن، وعدوا الشركاء الإقليميين القلقين بأن “التزام الولايات المتحدة بالأمن في الشرق الأوسط قوي ومؤكد”. لم تحسم مراجعة الوضع المسألة. على الرغم من أن عمليات إعادة تنظيم القوات السابقة، مثل نقل بعض معدات الدفاع الجوي من الشرق الأوسط، استرشدت بالمراجعة، إلا أنها لم تقدم رؤية لترشيد حجم القوات في المنطقة. بدلًا من هذا، إنها تدعو إلى المزيد من الدراسات حول التمركز العسكري الأمريكي.

إن الجدل حول الانسحاب من الشرق الأوسط وكيفيته ليس بالشيء الجديد. سعت واشنطن طويلًا لتغيير حجم تواجدها العسكري في المنطقة، فقط لتعيدها مرة أخرى الأزمات والصراعات التي سعت لإبعاد نفسها عنها. وعد الرئيس دونالد ترامب بعدة انسحابات عسكرية من المنطقة، إلا أنه أرسل آلاف القوات الإضافية عندما ارتفعت التوترات مع إيران في 2019 و2020. لقد تقوضت خطط الرئيس باراك أوباما لتقليص حجم البعثة الأمريكية في العراق عام 2011 بسبب الحاجة لمحاربة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) في 2014. وكما تعلمت الإدارتان بالطريقة الصعبة، القول بأنك تعدّل أولوياتك ومواردك مختلف تمامًا عن تعديلها فعلًا.

بدلًا من الجدل المتواصل وانتقاد السياسات، تحتاج الولايات المتحدة إلى إعادة معايرة واعية للأدوات العسكرية التي ينبغي أن تخصصها للشرق الأوسط. هذا يترتب عليه تقييم واضح لكيفية ترتيب أولويات الموارد العسكرية لواشنطن – وكيفية ربطها بشكل أوثق مع الأهداف الاستراتيجية الأمريكية. في نهاية المطاف، هذا يعني أنه يجب على الولايات المتحدة تنظيم تواجدها لكي يصبح مركزًا أكثر على حماية نفسها وحلفائها من الإرهاب، وردع إيران عن تطوير أسلحة نووية، والحفاظ على تدفق التجارة وحرية الملاحة. إنه يعني أيضًا أنه يجب على واشنطن تعلم التأكيد على فن الحكم الدبلوماسي والاقتصادي على حساب العمل العسكري، باستخدام الإمكانية الموثوقة لاستعمال القوة لدعم الغايات الدبلوماسية واستخدام القوة الفعلية فقط عندما لا يكون هناك بديل.

إن الاعتماد على الدبلوماسية أكثر من الدفاع في الشرق الأوسط يأتي ببعض المخاطر، أبرزها أن الولايات المتحدة قد تجد نفسها أقل استعدادًا على الصعيد العسكري للأزمات التي قد تظهر في المنطقة. لكن هذا الخطر منخفض نظرًا لقدرات واشنطن الكبيرة على استعراض القوة. علاوة على هذا، سنوات التواجد العسكري الأمريكي لم تفعل الكثير لردع الأزمات الأخيرة في المنطقة. إن تبني نهج أكثر دبلوماسية واستراتيجية في الشرق الأوسط سيتوافق مع الأهداف الأمريكية. سوف يسمح لواشنطن بمنح الأولوية لجهودها وانتباهها في مناطق أخرى. وسيضع الولايات المتحدة في موقف أفضل للرد على الديناميكيات المتغيرة في الشرق الأوسط والتصرف وفقًا لها.

الوسائل والغايات

إن التواجد العسكري الأمريكي في الشرق الأوسط عفا عليه الزمن، حيث نشأ من صراعات بدأت – وفي بعض الحالات انتهت – منذ عقود. بدأت واشنطن وضع عدد كبير من القوات في المنطقة في أعقاب الأحداث الإقليمية في أواخر السبعينيات وعقيدة كارتر في 1980، التي ألزمت الولايات المتحدة بأمن دول الخليج. وسّعت الولايات المتحدة تواجدها أثناء حرب الخليج الثانية ثم ضاعفته بشكل كبير بعد هجمات 11 سبتمبر 2001 الإرهابية، في حين رسخت الصراعات المتعاقبة، مثل العمليات في أفغانستان، وحرب العراق، والحرب على داعش، وجود القواعد الأمريكية في المنطقة.

تظل بعض المصالح ذات صلة استراتيجية. على سبيل المثال، تُعد حماية أرض الوطن الأمريكي والمواطنين الأمريكيين مصلحة واضحة، ويظل الشرق الأوسط الأوسع تربة خصبة للشبكات الإرهابية التي تسعى لمهاجمة الولايات المتحدة. لكن الرابط بين الأنشطة العسكرية لواشنطن ومصالحها الجوهرية كان يتآكل لعشر سنوات على الأقل، إن لم يكن أكثر. لم تعد الولايات المتحدة، مثلًا، تخوض حروبًا برية موسعة، وهذا يعني أنها لم تعد تحتاج لأعداد كبيرة من القوات ومعدات ثقيلة قادرة على السيطرة على الأراضي.

لكن وجود واشنطن الضخم في الشرق الأوسط يتعدى كونه مجرد إسراف. لقد خلق بيئة حيث يشعر صُناع السياسة بالإغراء لاستخدام الوسائل العسكرية على نحو غير متكافئ، بدلًا من الدبلوماسية والاقتصاد، لتنفيذ أجنداتهم. فكر، على سبيل المثال، في إيران. يعطي الدليل الاستراتيجي المؤقت للأمن القومي الأولوية لوقف انتشار الأسلحة النووية، ولسبب جيد: التسلح النووي المحتمل لطهران يخاطر بإشعال سباق تسلح في المنطقة. ينبغي أن تواصل واشنطن الجهود لمنع إيران من الحصول على قنبلة، وهي عملية تشمل الاستعداد بشكل كامل لشن ضربة. لكن يجب أن تستمر الولايات المتحدة في تولية الأهمية لاستخدام الوسائل الدبلوماسية والاستعداد لاستخدام العمل العسكري فقط كخيار أخير.

الولايات المتحدة لديها مصلحة أيضًا في الحفاظ على تدفق التجارة وحرية الملاحة في الشرق الأوسط، وهو ما يساعد في دعم النظام الاقتصادي العالمي الذي تقوده واشنطن. سوف تحتاج للعمل مع الحلفاء والشركاء لحراسة المناطق البحرية، تحديدًا المعابر الضيقة مثل مضيق هرمز ومضيق باب المندب. لكن دوريات الحراسة هذه لا تتطلب قدرة عسكرية طاغية أو عمل أحادي، وهذا ليس مرادفًا لتأمين التدفق الحر لنفط المنطقة.

هذه ليست المصالح الوحيدة لواشنطن في الشرق الأوسط. المصالح الأخرى، مثل ضمان سلامة إسرائيل ومواجهة الصين وروسيا في المنطقة، مهمة أيضًا، لكن الديناميكيات تغيرت. تمتلك إسرائيل القوة الأمنية الأكثر قدرة في المنطقة ولم تعد تستفيد من الوجود العسكري الفعلي لأمريكا، مثلما فعلت من قبل، كما تطورت “منافسة القوى العظمى” لتصبح مواجهة الصين وروسيا في المنطقة والحفاظ على الوضع العسكري اللازم لفعل هذا. هذه الحُجج تفتقر للتحليل العميق والدقيق؛ حيث يأتي التنافس في الشرق الأوسط على حساب جاهزية القوات اللازمة للردع في المسارح ذات الأولوية مثل منطقة الهندي-الهادئ.

إن التمركز العسكري لا يعوض عن الدبلوماسية أو المشاركة الاقتصادية الأعمق مع الشركاء. تُخدَم المنافسة بشكل أفضل عبر ما هو أكثر من القدرة العسكرية، وينبغي أن يحدد خبراء السياسة المعنيون بالشرق الأوسط والصين وروسيا معًا المزيجَ المناسب من الأدوات اللازمة لكي تنافس الولايات المتحدة بفاعلية في المنطقة. وعلى الرغم من أن الولايات المتحدة ستظل تحتاج لوجود جيشها في الشرق الأوسط لمحاربة الإرهاب، ومنع الانتشار النووي، وضمان التجارة المفتوحة، غير أن معظم الموارد في المنطقة الآن ليست مركزة على هذه القضايا. إن واشنطن قادرة على إعادة موازنة استراتيجيتها وموقفها.

تواجد في الوقت الحالي

إذن؛ كيف تبدو الاستراتيجية العسكرية بعد إعادة التركيز؟ إن التواجد الذي يؤكد على عمليات مكافحة الإرهاب وردع سعي إيران للحصول على الأسلحة النووية سيعتمد على قوات العمليات الخاصة، ومنصات الأسلحة الآلية، وبعض الطائرات الهجومية التقليدية، وموارد تمكينية حيوية، مثل إعادة التزود بالوقود جوًّا ومعدات الاستخبارات والمراقبة والاستطلاع. والأسطول البحري المُصمم لحماية التجارة يستلزم سفنًا خفيفة قادرة على تنفيذ المراقبة البحرية. لا تستلزم أي من هذه المصالح الثلاث ما وضعه الجيش الأمريكي حاليًا في المنطقة: وحدات كبيرة من القوات البرية وقدرات “ثقيلة” في المحيطات.

وبالتالي يمكن للولايات المتحدة أن تُنهي تدريجيًّا عناصر تواجدها التي تُعد بقايا لحروب بالية. على سبيل المثال، تستطيع الحكومة تقليص معسكر عريفجان في الكويت، والاتجاه إلى محور لوجيستي والذي سيساعد على الطفرة العسكرية الأمريكية عند اللزوم. تستطيع واشنطن التفاوض على اتفاقيات وصول في حالات الطوارئ مع الشركاء الإقليميين بحيث تتمكن من نشر القوات عند الحاجة، كما تستطيع أيضًا الابتعاد عن تشغيل مجموعة كبيرة من القواعد الضخمة في الخليج واعتماد نظام تمركز موزع مُصمم لإبقاء المعدات الأمريكية آمنة، وهذا يعني نقل المعدات من بعض القواعد الأكثر عرضة لمواجهة هجمات من الصواريخ الإيرانية وباتجاه قواعد خارج نطاق دائرة التهديدات الأسوأ – مثل قاعدة موفق السلطي الجوية في الأردن وقاعدة الأمير سلطان الجوية في السعودية. ولضمان أن مشاركتها البحرية تتناسب مع مصالحها، ينبغي أن تبتعد واشنطن عن امتلاك مجموعة كاملة من حاملة الطائرات الهجومية مخصصة للشرق الأوسط طوال الوقت والاعتماد بدلًا منها على سفن أصغر.

من أجل تنفيذ هذا التحول، ستحتاج الولايات المتحدة لاختيار كيف، ومتى، ولماذا تُستخدم قدراتها العسكرية في الشرق الأوسط وبأي أولوية؟ يجب أن تكون هذه الخيارات متماشية مع المصالح الاستراتيجية الرئيسية وليس أسوأ السيناريوهات بعيدة الاحتمال.

لن يكون أيٌّ من هذا سهلًا. إن تغيير مزيج الموارد العسكرية في الشرق الأوسط يعني أن الولايات المتحدة ستحتاج لقبول مخاطرة في المنطقة أكثر مما فعلت في العقود الأخيرة. هناك احتمال بأن تتجسد مخاوف واشنطن وأن الولايات المتحدة حينها ربما يتحتم عليها مواجهة إيران المُسلحة نوويًّا أو نسخة ثانية من داعش بعدد أقل من الأدوات المسلحة المتاحة حينها. من الصعب إلقاء نظرة واقعية على كيفية تغير المصالح الأمريكية في الشرق الأوسط، والأكثر صعوبة العمل حينها وفقًا لذلك. لكن في حالة أن احتفظت الولايات المتحدة بقدرتها على زيادة تواجدها في المنطقة، وفي حالة أن واصلت الحكومة الحالية الاستثمار في الموارد الاقتصادية والدبلوماسية التي يحتاجها الشرق الأوسط، تصبح هذه المخاطر أكثر قابلية للسيطرة عليها.

إنها تفوقها أيضًا المنافع الأمنية. سوف تتيح إعادة المعايرة لواشنطن استخدام المزيد من مواردها العسكرية في أماكن، مثل الهندي – الهادئ وأوروبا، حيث توجد حاجة لها. سوف تعيد موازنة كيف تستخدم الولايات المتحدة الدبلوماسية وفن الحكم الاقتصادي في الشرق الأوسط وتسمح للدولة بالاعتماد أقل على القوة، وسوف تساعد الولايات المتحدة في تعزيز شراكاتها، وعن طريق التشاور مع الحلفاء حول كيفية تغيير موقفها العسكري مع الاستمرار في الدفاع عن مصالحها الجوهرية، تستطيع واشنطن إثبات أنها قادرة على العمل عن كثب مع شركائها والاستماع إليهم، وفي المقابل تجعلهم يفعلون المزيد.

إن الثلاثين عامًا المقبلة لن تكون مثل الثلاثين عامًا الماضية. عبر البدء في تغيير موقفها العسكري في الشرق الأوسط، تمتلك الولايات المتحدة فرصة لتغيير طريقة عملها في المنطقة وخارجها في العقود المقبلة.  

للاطلاع على الرابط الأصلي اضغط هنا

ربما يعجبك أيضا