آسيا تايمز | عندما تنهار الإمبراطوريات.. تداعيات ضمّ روسيا لشبه جزيرة القرم

شهاب ممدوح

رؤية

ترجمة – شهاب ممدوح

شهد القرن العشرين انهيار ثلاث إمبراطوريات رئيسية، هي هابسبورغ والعثمانيون والإمبراطورية السوفيتية.

إن انهيار الإمبراطورية العثمانية أدخل الشرق الأوسط في عهد من الاضطرابات والصراعات التي استمرت ليومنا هذا، وخلق انهيار إمبراطورية “هابسبورغ” الأوضاع التي أدّت إلى الحرب العالمية الثانية. أما انهيار الإمبراطورية السوفيتية، فقد تسبب في درجة اضطراب هائلة الذي لم نشهد إلا بدايته حتى الآن.

الإمبراطورية الروسية الجديدة

إن إنشاء الاتحاد السوفيتي عام 1922 شهد عودة العديد من الجمهوريات تحت سيطرة روسيا، بعد انفصال تلك الجمهوريات عنها عقب سقوط نظام القيصر عام 1917. بالتالي، كان الاتحاد السوفيتي مجرد اتحاد بالاسم. في الواقع، كان إمبراطورية روسية، تقع روسيا في قلبها وعاصمتها موسكو وكان الحزب الشيوعي هو قائدها الأعلى.

لقد ساعد انهيار ألمانيا النازية الإمبراطورية الروسية على مدّ هيمنتها إلى أوروبا الشرقية، والتي أصبحت جزءًا من تلك الإمبراطورية الاستعمارية. مع هذا، فإن ما ميّز الإمبراطورية الروسية عن سابقاتها كان تركيبتها المزدوجة، وبالرغم من أنها كانت امتدادًا للدولة الروسية، إلا أنها كانت أيضا تبشّر بأيديولوجية تزعم أنها كانت ذات جاذبية عالمية.

من ذلك المنظور، حققت الإمبراطورية الروسية تحت شعار “السوفييت” امتدادًا عالميًا عبر أتباعها الخارجيين، لا سيما الأحزاب الشيوعية القومية عبر العالم التي أعلنت ولاءها للحزب الأم، الحزب الشيوعي لاتحاد الجمهوريات السوفيتية.

كانت النتيجة في النهاية أن انهيار الاتحاد السوفيتي كان عبارة عن انفجارين داخليين: انهيار الإمبراطورية الروسية من جانب، وتحلل الأيديولوجية التي كانت تقع في صميمه – لا سيما النموذج الماركسي – من جانب آخر.

كانت الدولة الروسية الناشئة من رماد الاتحاد السوفيتي كيانًا محطمًا. لم يكن هناك شيء فعّال في تلك الدولة باستثناء جهازها الأمني، فقد انهارت عمليا ماكينة الدولة السوفيتية السابقة، ما ترك البلاد في حالة شبه فوضى.

الميزة الحسنة الوحيدة التي نشأت من حالة الاضطراب تلك، كانت عملية النقل الناجحة إلى روسيا للعديد من الرؤوس الحربية النووية التي نصبها الاتحاد السوفيتي في جمهورياته السابقة، والتي وفرت فرص عمل لآلاف من العلماء الذين كانوا جزءًا من المؤسسة النووية السوفيتية. الأمر المهم، هو أن عملية التخلص من السلاح النووي كان مدعومة بقوة من جانب الولايات المتحدة.

إعادة تعريف أوروبا

أدّى انهيار الاتحاد السوفيتي إلى ظهور الولايات المتحدة باعتبارها القوة العظمى الوحيدة في العالم من الناحية الاقتصادية والسياسية. وبموازاة الحالة الطارئة المتمثلة في برنامج التخلص من السلاح النووي، والذي ضمن بنجاح عدم سقوط رؤوس نووية في الأيدي الخاطئة، أصبحت واشنطن أمام خيارين فيما يتعلق بعلاقاتها المستقبلية مع روسيا.

الخيار الأول يقوم على افتراض أنه خلال النصف قرن المقبل أو أكثر، ستخرج روسيا من بؤسها كقوة إقليمية لها هوية وطنية قوية ونفوذ نووي عالمي، وسيكون لتلك القوة مخاوف أمنية تقليدية تدفعها لرفض وجود كيانات معادية على حدودها. من الناحية العملية، سيعني هذا إنشاء حزام عازل من دول محايدة على غرار النموذج السويسري أو الفنلندي بين الاتحاد الأوروبي وروسيا، يضمّ دول البلطيق وبيلاروسيا وأوكرانيا. بالتوازي، ستعود “القرم”، بسكانها الروس، إلى روسيا، وسيتم التوصل لاتفاق فيما يخص منطقة حوض “دونيتس” ذات الغالبية الروسية.            

لو افترضنا أفضل السيناريوهات، كان من المفترض أن تفضي نهاية الحرب الباردة إلى وجود ميزان قوى عالمي بها أربع قوى: قوتان عظميان، وهما الصين والولايات المتحدة، وقوتان أوروبيتان إقليميتان، تحديدًا روسيا وأوروبا الغربية، مع منطقة عازلة بينهما تضم دولًا محايدة.

ما من دليل أن هذا السيناريو تم التفكير به إطلاقًا في واشنطن. في الواقع، كانت الولايات المتحدة عاجزة عن التفكير على المدى الطويل، وهو الأمر الذي ازداد سوءًا بسبب اعتبار أن ما يحدث كان فرصة فريد لتدمير ما تبقى من خصمها السابق.

كانت النتيجة النهائية أن واشنطن تبنّت تجاه روسيا ما يمكن تسميته بسياسة Forward Policy (القائمة على حصار الخصم عبر الغزو أو إقامة مناطق عازلة حوله) وقد ساعد في ظهور تلك السياسية عدم وجود رؤية أو وحدة وسط الدول الأوروبية المهمة التي لم تستوعب حقيقة أن أمنها، خلافًا لما حدث أثناء الحرب الباردة، لم يعد يعتمد على الولايات المتحدة. وهكذا فإن ما كان يجب أن يكون علاقة ثنائية بين دول الاتحاد الأوروبي المهمة وروسيا، تدهور ليصبح مجرد جزء أوروبي ثانوي للعلاقة بين موسكو وواشنطن.

بالتالي، لم يتم الاكتفاء بالمحافظة على حلف شمال الأطلسي، الذي جرى إنشاؤه ليكون ثقلًا موازنًا للوجود العسكري للاتحاد السوفيتي، لكن تم توسيعه ليضم دول البلطيق وشرق أوروبا التي كانت خاضعة سابقا للهيمنة السوفيتية.

إن توسيع حلف الناتو، وكذلك زيادة النفوذ الأمريكي في جورجيا، والأهم من ذلك في أوكرانيا، دق جرس الإنذار في موسكو. في بيئة تاريخية يهيمن عليها جنون الارتياب، لم يتم تفسير ذلك إلا بوصفه محاولة من واشنطن لاستغلال حالة الضعف التي تمر بها روسيا، بهدف حصارها بتحالف من دول معادية.

إن الركيزة الأساسية لتلك المغامرة كانت أوكرانيا، وتحديدا “القرم”.

ملحمة القرم

إن القرم، التي كانت أصلًا جزءًا من روسيا، جرى نقل ملكيتها إلى أوكرانيا من جانب “نيكيتا خورتشوف” عام 1954 لأسباب إدارية أساسًا. تمت عملية نقل الملكية عموما من دون ضجة، وواصل أسطول البحر الأسود السوفيتي المتمركز في القرم عمله كالمعتاد.

بعد حصول أوكرانيا على الاستقلال في ديسمبر عام 1991، جرى تقسيم أسطول البحر الأسود السوفيتي السابق بين روسيا وأوكرانيا. مع ذلك، أصبحت قاعدة الأسطول في “سيباستبول”، عاصمة القرم، الآن في أوكرانيا.

في عام 1997 وافقت أوكرانيا على تأجير قاعدة “سيفاستبول” البحرية إلى روسيا لفترة 20 عامًا، وتم تمديدها عام 2010 إلى عام 2047.

من وجهة نظر القيادة الروسية، فإن الاختراقات التي حققتها الولايات المتحدة في وسط أوروبا، والتدهور المستمر في العلاقات بين موسكو وواشنطن، وتنامي المشاعر المناهضة لروسيا في أوكرانيا، كل هذا ضمن أنها مجرد مسألة وقت قبل أن تصبح أوكرانيا جزءًا من حلف الناتو. مع انتهاء عقد استئجار ميناء “سيباستبول” في العام 2047، كانت النتيجة النهائية تقضي بتحول البحر الأسود إلى بحيرة أمريكية.

بالنسبة للقيادة في موسكو والتي كانت، بعكس نظيرتها الأمريكية، تركز على المدى الطويل، كان ذلك يمثل تهديدًا أمنيًّا لجوهر الدولة الروسية وخسارة لإمكانية الوصول إلى البحر المتوسط- وهو مصدر قلق فاقمته محاولة واشنطن الإطاحة بحليف روسيا السوري.

بالتالي، وفي نهاية المطاف، لم يجد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الذي نظر إلى الوضع من منظور ميزان القوى العالمي، بديلًا أمامه سوى ضمّ القرم عام 2014 حتى لو لم تكن تلك العملية متوافقة تمامًا مع القانون الدولي.     

على المستوى المحلي، لم تثر عملية الضمّ أي مشاكل. فسكان القرم كانوا روسًا أساسًا، ولم يكونوا متعاطفين مع أوكرانيا، وأشارت جميع استطلاعات الرأي إلى أن السكان أيدّوا خطوة الضمّ. لكن على المستوى الدولي، كان ردّ الفعل عنيفًا.

أصبحت عملية الضمّ، التي وُصفت بـ “غير الشرعية”، الركيزة الأساسية لسياسة الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي إزاء روسيا، لكن كان هناك اختلاف: بينما كانت هناك مخاوف لدى الجانبين، إلا أنها كانت غير متماثلة. فبالنسبة لحلف الناتو والولايات المتحدة، كان وضع القرم مسألة فرعية. أما بالنسبة لموسكو، فقد كان شاغلاً أمنيًّا غير قابل للتفاوض.

إن أخذ علاقات الولايات المتحدة وحلف الناتو والاتحاد الأوروبي مع روسيا رهينة لمسألة القرم، كان اقتراحًا سيئًا بالنسبة لدول أوروبا الغربية. كما أن وضع العلاقة ذاتها رهينة لدول مثل دول البلقان وبولندا وأوكرانيا، التي لأسباب تاريخية تحتفظ بمشاعر مناهضة لكل شيء روسي، ليس اقتراحًا أفضل.

وفي هذا السياق، فإن إرسال حلف الناتو في الثالث والعشرين من يوليو مدمّرة بريطانية تحمل صواريخ موجّهة إلى قبالة سواحل القرم، بينما كانت طائرة أمريكية تراقب التدابير الإلكترونية الروسية المضادة، يطرح أمامنا سؤالًا حول ما إذا كان الهدف من ذلك كان فقط جمع معلومات استخباراتية او إجبار الاتحاد الأوروبي على التورط أكثر في مواجهة بقيادة أمريكية مع روسيا.

مع تصاعد التوتر في منطقة البحر الأسود، أصابت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل عندما قالت إنه في هذا العهد الجديد، يجب أن يتشكل العالم بناءً على مجموعة من الإجراءات متعددة الأطراف، بدلًا من أن يتشكل عبر حوار حصري بين الرئيسين الأمريكي والروسي.

وأخيرًا، ومع تواصل أزمة القرم، يمكن للمرء أن يفترض أن هناك، بطريقة ما وفي مكان ما، خطًّا أحمر لا يمكن تجاوزه. لكن المشكلة فيما يبدو أن أيًّا من الأطراف المتنافسة لا يعلم بالضبط أين يوجد هذا الخط الأحمر، تمامًا مثل الوضع في تايوان.  

للاطلاع على الرابط الأصلي اضغط هنا

ربما يعجبك أيضا