أزمة اقتصادية حادة واضطرابات غير مسبوقة في بريطانيا.. ما علاقة «بريكست»؟

رنا أسامة

في حين أن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي أضر الاقتصاد، رأى المقال أنه ليس محركًا رئيسًا لأزمة تكلفة المعيشة الحالية.


فيما تواجه بريطانيا أزمة تكاليف معيشة حادة، فإن انزلاقها نحو الفوضى، بعد أن كانت ذات يوم دولة موثوق بها، أذهل كثيرين.

وفي مقال نشرته مجلة “فورين أفيرز” الأمريكية، يوم الاثنين 14 نوفمبر 2022، أبرز أستاذ السياسة الأوروبية والشؤون الخارجية بجامعة “كينجز كوليدج لندن”، أناند مينون، ملامح تلك الفوضى.

اضطرابات غير مسبوقة

أشار الكاتب إلى أن بريطانيا شهدت اضطرابات غير مسبوقة، منذ خروجها من الاتحاد الأوروبي، المعروف اختصارًا بـ”بريكست”، في العام 2016. وفي غضون 4 أشهر، استقال رئيسان للحكومة، هما ليز تراس، التي حلت محل بوريس جونسون، في سبتمبر الماضي، قبل أن تستقيل بعد 44 يومًا، على وقع “ميزانيتها المصغرة”، ما أضر بسمعة البلاد دوليًّا.

ودلل على ذلك بعنوان صحيفة “ذي إيكونوميست” صفحتها الأولى بعدد أكتوبر الماضي: “مرحبًا بكم في بريتالي”، في إشارة تمزج بين بريطانيا وإيطاليا معًا، ما دفع منافذ إعلامية أخرى للرد على ما عدوه إهانة، مثل “دير شبيجل” الألمانية، التي نشرت صورة لموزة يعلوها برج إليزابيث، المعروف بساعة بيج بين، معنونة إياها: “جزيرة الموز”.

هدوء سابق لعاصفة

قال أناند مينون إنه مع تولي ريشي سوناك رئاسة وزراء بريطانيا، تلوح في الأفق هدنة مؤقتة للاضطرابات السياسية، بدت جليًّا مع ارتفاع قيمة الجنيه الاسترليني، فور ظهور مؤشرات على فوزه، مشيرًا في الوقت نفسه إلى أن المملكة لا تزال تبحر في مياه اقتصادية وسياسية مضطربة، وقد يكون هذا الهدوء الذي يسبق العاصفة.

وفي مارس الماضي، قبل انهيار حكومة جونسون، حذر مكتب مسؤولية الميزانية في بريطانيا، وهو هيئة حكومية تجري تحليلًا مستقلًا للوضع المالي للبلاد، من انخفاض مستويات المعيشة 2.2% العام المقبل. وبدلًا من مواجهة التحديات، خاصة الارتفاع السريع لأسعار الطاقة، قضى حزب المحافظين الحاكم الصيف منخرطًا في سابق قيادة، فازت به تراس.

تحرك صناعي

بحسب المقال، فإن حجم التحدي الاقتصادي أمام بريطانيا أضحى بارزًا، في حين من المتوقع أن تواجه مليونا أسرة زيادات حادة في تكاليف الرهن العقاري، خلال العامين المقبلين. وتقدر مؤسسة “ريزوليوشن” الفكرية بأن يعيش 14 مليون بريطاني في فقر، العام المقبل، بزيادة قدرها 3 ملايين، منذ 2021-2022.

وقاد ارتفاع تكاليف المعيشة في بريطانيا إلى تحرك صناعي واسع النطاق، وسط إضرابات متقطعة، نظمها عمال بالسكك الحديدية والبريد، وينتظر أن ينضم إليها قطاع التمريض، الذي صوّت أواخر الأسبوع الماضي لتنظيم إضراب وطني عام، سيكون الأول في تاريخ الكلية الملكية للتمريض، البالغ 106 أعوام.

شبح «بريكست»

بالتوازي، حذرت الشبكة الوطنية، التي تدير شبكات الطاقة البريطانية وخطوطها، من احتمال انقطاع التيار الكهربائي 3 ساعات يوميًّا خلال فصل الشتاء. وبالرغم من أن الحكومة وضعت حدًّا أقصى لفواتير الطاقة، فإن الأسرة المتوسطة ستدفع فواتير بـ3 آلاف دولار تقريبًّا سنويًّا، وهي زيادة كبيرة، مقارنة بمتوسط 1500 دولار في عام 2021.

وفي خضم تلك الفوضى، يظهر شبح “بريكست” على السطح. من جهة، يحملّه معارضوه مسؤولية التردي الاقتصادي والسياسي، الذي تشهده بريطانيا. ومن جهة أخرى، يزعم مؤيدوه أن خوف الحكومة وعدم استيعابها لمزايا الخروج من كنف الاتحاد الأوروبي، السبب الرئيس في الوضع الحالي، بحسب المقال.

المحرك الرئيس للأزمة

في حين أن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي أضر الاقتصاد، رأى المقال أنه ليس محركًا رئيسًا لأزمة تكلفة المعيشة الحالية أو ارتفاع فواتير الطاقة، لكنه عزا الأزمة، بدلًا من ذلك، إلى وباء فيروس كورونا المستجد والحرب الروسية الأوكرانية.

واستبعد وقوف “البريكست” مباشرة وراء الاضطرابات داخل حزب المحافظين، التي يعتقد أنها ناجمة عن منح أعضاء الحزب الحاكم، البالغ نحو 172 ألفًا، في سبتمبر الماضي، الحق في اختيار زعيمهم. وكما أظهر انتخاب تراس، فإن تفضيلات أعضاء الحزب قد تغاير اختيارات نوابه في البرلمان، وكذلك أولويات قطاع الناخبين الأوسع في بريطانيا.

تأثير مباشر وغير مباشر

مع ذلك، لفت المقال إلى أن “بريكست” ما زال يؤثر مباشرة وبصفة غير مباشرة في مجريات الأحداث بالمملكة المتحدة. وفق تقديرات مكتب مسؤولية الميزانية، فإن مغادرة الاتحاد الأوروبي ستقلل من إنتاجية البلاد على المدى الطويل 4%، زاعمة أن 40% من هذه النسبة تحقق بالفعل.

وفي تلك الأثناء، يشكك خبراء اقتصاديون في تأثير الخروج من الاتحاد الأوروبي في الوضع الاقتصادي والمالي العام للمملكة المتحدة، بما يجعلها أكثر عرضة للصدمات الاقتصادية، التي تعصف حاليًّا بكامل أوروبا، في حين يواصل “بريكست” تقويض محاولات احتواء الأزمة الاقتصادية البريطانية الحادة.

حرب تجارية محتملة

في محاولة وصفها المقال باليائسة لانتهاز فرص “بريكست”، قدمت حكومة تراس المستقيلة مشروع قانون الاتحاد الأوروبي، الذي طرح إمكانية إسقاط أو تعديل القوانين الموروثة للتكتل بنهاية عام 2023. وبافتراض أن مشروع القانون جوهري، لا إجرائي، فقد يعمق ذلك من حالة عدم اليقين لدى الشركات.

وفي الوقت ذاته، قد تنشب حرب تجارية مع الاتحاد الأوروبي، إذا وقعت مواجهة بشأن بروتوكول أيرلندا الشمالية، الذي يحكم الوضع التجاري الجديد لها بعد “بريكست”، ويمثل من نواح عديدة ثورة سياسية، بما يعني أن تبعات الخروج من التكتل لا تزال تعيق النقاش الاقتصادي الجاد، وفق المقال.

تصور استباقي وتصادم واقعي

لفت المقال أيضًا إلى أن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي شجع على تبني ما يعرف بنهج “القرائن الضعيفة” في صنع السياسات، الذي انطوى على ادعاءات مضللة بشأن تكلفة عضوية التكتل، بجانب مزاعم بأن بريطانيا لديها “عدد كاف من الخبراء”، كما ادعى بيان وزير العدل الأسبق، مايكل جوف، في العام 2016.

ومن هذا المنطلق، بدت الحملة المؤيدة لـ”بريكست” كأنها تصور استباقي للتحدي الذي واجهته إدارة تراس، في مواجهة الأرثوذكسية الاقتصادية. في حين تبنى جونسون ما أسماه نهج “صانع الكعك”، الذي يشير مجازًا إلى إقراره سياسات يفشل في معالجة أوجه قصورها، ويعجز أمام خياراتها الصعبة.

ففي بيانه لعام 2016، وعد جونسون بزيادة الإنفاق، واستبعد إقرار زيادات ضريبية، في “تصادم واقعي” مع الوضع الاقتصادي المتأزم لبريطانيا.

لب اللعبة السياسية

أمام هذه الفوضى وتلك الاضطرابات، يبدو أن تحالف “بريكست” بدأ في الانهيار. الأمر الذي أرجعه المقال إلى تشتته اقتصاديًّا. ففي حين أنه ظهر متحدًا بشأن ما يعرف بمسائل سياسية، بما في ذلك مغادرة بريطانيا الاتحاد الأوروبي، بدا منقسمًا إزاء شؤون الاقتصاد، الذي يمثل، بحسب المقال، لب اللعبة السياسية في الوقت الراهن.

وبينما بات قطاع عريض من الناخبين البريطانيين على يقين بأن الانفصال عن الاتحاد الأوروبي أضر الاقتصاد، لا يزال مؤيدوه بانتظار لمس إيجابيات تلك “الثورة المفترضة”، وسط توقعات بأن يواجه سوناك صعوبة بالغة لتحقيق تلك الإيجابيات، لا سيما في الأوقات الاقتصادية العصيبة ببريطانيا، كما يرى المقال.

ربما يعجبك أيضا