إسرائيل تسقط في نفق «الهروب الكبير» من «جلبوع»

محمد عبد الدايم

كتب – د. محمد عبدالدايم

وقعت حكومة نفتالي بينط في فخ أمني، فيم لم تكمل شهرين على تولي السلطة في إسرائيل خلفا لحكومات بنيامين نتنياهو، ففي 6 سبتمبر سقطت أكوام حفرة سجن جلبوع فوق رؤوس أعضاء الحكومة الجديدة، بعد أيام من أول زيارة خارجية لبينط للولايات المتحدة، روجت لها دوائره السياسية والإعلامية على أنها “ناجحة وحققت أهدافها”.

خرج الأسرى الستة من سجن جلبوع شديد التأمين والحراسة، فيم اندحرت حكومة بينط في نفق الهروب على غرار لوذ الإسرائيليين بالمخابئ تحت الأرض مع دوي صفارات الإنذار عند إطلاق صاروخ باتجاه إسرائيل.

ليلة السبت 11 سبتمبر أعلنت القوات الإسرائيلية عن إلقاء القبض على أربعة من الأسرى الهاربين، هما محمود العارضة ويعقوب قدري، وبينهم زكريا الزبيدي بعد أن أبلغت عنهم إحدى العائلات في مدينة الناصرة بعد طلبهما طعاما يأكلانه.

حتى الآن يبدو أن حجم المعلومات التي خرجت لوسائل الإعلام قاصرة، ونسجت المرويات قصة هروب بالتماهي مع أحداث فيلم “الخلاص من شاوشانك” (1994)، صور نفق صغير، محفور بدأب خلال مدة طويلة، صورة ملعقة طعام كأداة للحفر، استغلال لغفلة الحراس وكاميرات المراقبة، وتمويه بعد الخروج لمنع القوات الإسرائيلية من العثور عليهم.

قط الشوارع مهندس الهروب

62799

بالعودة إلى الوراء، إلى عام 2004، برز اسم زكريا الزبيدي (أحد الأسرى الهاربين) الذي ولد عام 1976 في مخيم جنين للاجئين الفلسطينيين، فقد زعم الشاباك الإسرائيلي أنه على علاقة بمواطنة “يهودية إسرائيلية” تُدعى طالي فاحيما (1974-)، وهي ناشطة يسارية، وُلدت لعائلة يهودية من أصول جزائرية، التحقت بالحدمة العسكرية الإلزامية وأنهتها عام 1994، وكانت منتسبة لحزب هاليكود اليميني، لكنها تحولت إلى اليسار، وشاركت في فعاليات داعية للتعايش المشترك، وداعمة لحقوق الفلسطينيين، وأعلنت رفضها لسياسات الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة.

التقت فاحيما عام 2004 زكريا الزبيدي، وكان حينها قائدا لكتائب شهداء الأقصى في جنين، ساندته في مقاومته للقوات الإسرائيلية، فأُلقي القبض عليها واتهامها بالارتباط بمنظمة “إرهابية”، حيث حجزتها قوات الشاباك إداريا في حبس انفرادي، وحُكم عليها بالسجن لعامين، وخرجت في يناير 2007، وانتقلت إلى منطقة وادي عارة، بعدما أثارت الرأي العام الإسرائيلي ضدها.

فجأة في 2008 انقلبت فاحيما على زكريا الزبيدي، بعد رفع اسمه من قائمة “الإرهابيين” المُهددين لأمن إسرائيل، وحصوله على موافقة الأمن العام بالسماح له بالانتقال إلى رام الله لإجراء عملية جراحية في عينه، وعندها هاجمته طالي بشدة، وأطلقت عليه لقب “عاهرة الشاباك”.

بعدها بعامين، في 2010 أعلنت طالي إسلامها في مدينة أم الفحم، بحضور عدد من قيادات الحركة الإسلامية بالداخل الفلسطيني، وصرحت بأن تعرفها على الشيخ رائد صلاح كان السبب في تحولها إلى الإسلام.

بعد حصوله على عفو إسرائيلي، اقتحمت القوات الإسرائيلية رام الله، واعتقلت زكريا الزبيدي مرة أخرى ووجهت له حزمة تهم يصل مجموعها إلى عشرين عام 2019، ووصفه ضابط بالشاباك بأنه “قط شوارع”، لكونه تملص كثيرا من قوات الاحتلال.

من هنا برز اسم زكريا الزبيدي أكثر من رفاقه الخمسة الذين خرجوا معه عبر نفق تحت جلبوع، أشد السجون الإسرائيلية تأمينا، مسيرة طويلة للفلسطيني، متحدث العبرية، الحائز على درجة الماجستير في أطروحة “المطاردة في التجربة الفلسطينية، مهندس الهروب، قط الشوارع الذي تملص مرارا من مطاردة الشاباك.

قصور أمني وفساد

23186

المعلومات التي نقلتها وسائل الإعلام بعيد حادث الهروب تفيد بأن الزبيدي طلب من سجانيه الانتقال إلى زنزانة مع رفاقه الخمسة، قبل يوم واحد من الكشف عن هروبهم، مما أثار علامات استفهام كثيرة حول دواعي الموافقة على طلبه، وعدم الانتباه إلى مغزاه في هذا الوقت تحديدا، خصوصا وأن عملية الهروب هذه جاءت بعد محاولة سابقة دبرها ثلاثة منهم عام 2014.

السيناريو الملائم لأحداث سينمائية كان كاشفا بقدر فاضح لضعف مؤسسة السجون الإسرائيلية، وفتح النار عليها، مع دعوات تطالب بمحاسبة مديرة السجون، ووزير الأمن الداخلي عومر برليف، الذي قرر تشكيل لجنة تحقيق حكومية للتحقيق في ملابسات الفشل الذي تسبب في هروب الأسرى الستة من سجن جلبوع.

كشفت عملية الهروب أن إسرائيل، عكس ما تروج له من جهوزيتها الأمنية، تعاني مشكلات ضخمة على مستوى الأمن الداخلي تحديدا، ورغم تطور قدراتها لتعقب الفلسطينيين، فإنها لم تستطع كشف مخطط الأسرى، أو مستوى علاقاتهم مع بعضهم داخل السجون، أو مع رفاقهم بالخارج، والأكثر من ذلك أنها لم تستطع كشف مدى توغل الفلسطينيين، مع تطور علاقاتهم بأفراد في الداخل الإسرائيلي.

على مدى سنوات من الاحتلال نفذت إسرائيل عمليات توغل واجتياح، سبقتها مراقبة وتجسس على الفلسطينيين من خلال فرق “المستعربين”، وفي المقابل يبدو أن المقاومة الفلسطينية قد نشطت في التعمق داخل المجتمع الإسرائيلي، خصوصا على المستوى الأمني الداخلي، وهذا ما أكدته حادثة الهروب من جلبوع.

هذا لا يعني الانسياق إلى سيناريوهات نظريات المؤامرة التي تؤول حادثة الهروب على أنها مدبرة بالكامل، فلا أسباب أمنية تدعو الحكومة الإسرائيلية لأن تُظهر نفسها في هذه الحالة من الفشل أمام الجمهور والعالم، خصوصا وأن حكومة بينط- لابيد لم تكمل شهرين بعد في السلطة.

لكن بالتأكيد هناك قصور شديد في المنظومة الأمنية الإسرائيلية، يهدد بإثارة خوف الجماهير، لأن اختراق سجن شديد الحراسة يعني أن الدخول إلى المناطق تحت السيطرة الإسرائيلية أسهل من إطلاق زخات صواريخ أو إرسال بالونات حارقة، ويتذكر الجمهور الإسرائيلي بخوف وقلق عمليات المقاومة بعيد اتفاق أوسلو، وإبان انتفاضة الأقصى.

تداعيات أمنية وسياسية

10846

في تحرها لإعادة القبض على الأسرى منيت إسرائيل بثمن باهظ، بسبب التكلفة الأمنية والعسكرية للشرطة والشاباك والجيش، وكذلك الموساد، وأحدثت عملية الهروب رجة ضخمة، تبعاتها كفيلة بتغييرات كبيرة للمسئولين في مصلحة السجون والشاباك، خصوصا وأنها ليست الفضيحة الأولى، بالطبع هي الأكبر، لكن هناك سوابق عديدة تشير إلى مستوى الفساد في السجون الإسرائيلية، فعلى سبيل المثال، منذ أشهر قليلة، كشفت وسائل الإعلام الإسرائيلية عن فضيحة بسجن “تسلمون” شمالي إسرائيل، حيث تبين أن سجانة إسرائيلية قد أقامت علاقات جنسية مع اثنين من السجناء الجنائيين.

حادثة الهروب جاءت في وقت تحوم فيه روح اليأس على الفلسطينيين، خصوصا مع تسارع انهيار السلطة الوطنية الفلسطينية، ومواراة أبي مازن الظل، حتى خرجت من نفق جلبوع نسمات أمل جديدة، يمكن أن تحفز المقاومة الفلسطينية، داخل السجون الإسرائيلية وخارجها، في المناطق المحتلة والواقعة تحت الحصار، لأن الأسرى الفلسطينيين دائما أساسا للإجماع الوطني، على اختلاف الحركات التي ينتمون إليها.

مع تحرك إسرائيل لمعالجة هذا الخرق الأمني الكبير يمكن توقع أن تتطور الأحداث سريعا، في جنين أو حتى في غزة، خصوصا مع عدم التوصل بعد إلى دلائل على مكان هروب الأسرى واختبائهم، لكن إسرائيل تتوخى الحرص الشديد رغم التدابير الأمنية غير المسبوقة من أجل إعادة القبض على الهاربين، فأي سياسة أمنية طائشة باعتقال أقارب الأسرى، أو باجتياح مناطق فلسطينية للقبض عليهم ستعطي مبررا واضحا للمقاومة الفلسطينية لإيقاظ الوحش اليائس، وحينها ستندلع أعمال عنف كبيرة بين الطرفين، ومن المؤكد أن قوات الأمن الفلسطينية لن تستطيع احتواء الفلسطينيين الناقمين.

إذا ما خططت القوات الإسرائيلية للقبض على الأسرى أحياء، فإنها تغامر بانخراط في عمليات عسكرية قبل أوانها في المناطق الفلسطينية، وإذا استطاعت تصفيتهم، فإنها ستغامر بمواجهة حالة كبيرة من الغضب الفلسطيني داخل السجون التي تعج بالأسرى، أو تشتعل أحداث عنف كبيرة في جنين تؤدي إلى تدهور الأوضاع في كافة المناطق الأخرى، بما فيها غزة.

من السابق لأوانه اعتبار حادثة الهروب من جلبوع مُؤشرة لبدء جولة جديدة من الحرب الإسرائيلية على المناطق الفلسطينية في الضفة وغزة، خصوصا وأن وزير الدفاع بيني جانتس قد التقى مؤخرا محمود عباس للتنسيق الأمني بين الطرفين، مع رغبتهما المشتركة في بعض الهدوء.

حتى لو تمكنت القوات الإسرائيلية من إعادة القبض على الأسرى أو بعضهم، ستظل تبعات الهروب الكبير من جلبوع كابوسا يؤرق حكومة بينط- لابيد، مع تحفز معارضة نتنياهو لأية هفوة تمكنها من الانقضاض على الحكومة، وكلما طال أمد محاولات تعقب الأسرى كلما زادت الضغوط الجماهيرية والسياسية على الحكومة الجديدة التي ستضطر إلى تغييرات كبيرة، تطال قيادات أمنية واستخباراتية، لن تغفر هذا الفشل الكبير، بقدر ما ستكون فقط “مسكنا” مؤقتا لأزمة سببها ثقب صغير بجوار سور جلبوع.

هذا الثقب انعكاس لعدم ثقة نحو 40% من الجمهور الإسرائيلي في نفتالي بينط، الذي أصبح رئيسا للحكومة بعد حصوله على 6 مقاعد فقط، ويحارب لاستكمال مدة سنتين في رئاسة الحكومة، قبل أن يتركها ليائير لابيد، فيما يعود بنيامين نتنياهو من أجازته ليجد هذه الهدية التي سيستغلها بالتأكيد ليُذكر الناخبين بأنه “الوحيد” القادر على توفير الأمن، وأنه الممثل الحقيقي لليمين.

بالنسبة للسلطة الفلسطينية، فليس من المريح أن يُنظر لها على أنها تساعد إسرائيل في إعادة القبض على الأسرى الهاربين، لكن المؤكد أيضا أنها لا تستطيع أن توفر لهم غطاء تأمين أو حماية، ولذا يتمنى بعض أعضائها ألا يتسلل أي من هؤلاء الأسرى إلى رام الله أو الضفة، وفي المقابل تدرك حماس والجهاد جيدا أن وصول أي منهم إلى غزة يهدد بعملية إسرائيلية عنيفة على القطاع.

أخيرا، باحتمال أن يلجأ الأسرى أو أحدهم إلى الأردن، كما تشير بعض التقارير الإسرائيلية، فهذا سيؤدي إلى توتر كبير، فحكومة بينط لن تستطيع أن تطالب الأردن علانية بتسليم الأسرى، خصوصا وأن الأزمة موجودة أصلا بين الطرفين، كما أن الأردن ستجد مشقة كبيرة في تفسير مساعدتها لإسرائيل بإعادة الأسرى الهاربين الذين تحولوا إلى أبطال، ستخلدهم أدبيات المقاومة في فلسطين.

يُعجل سقوط اثنين من الأسرى في قبضة القوات الإسرائيلية (حتى كتابة هذه السطور ونشرها) بإمكانية القبض على الباقين، خصوصا بعدما تركز قوات الأمن الداخلي على استخراج معلومات الهروب كاملة من الأسيرين محمود العارضة ويعقوب قادري، ويبدو أن القصة ستنكشف أبعادها “الغامضة” بعد القبض على الاثنين، لكن السخط الفلسطيني سيفتح الطريق لأبعاد أخرى، بدأت بتصريحات قيادات الجهاد الإسلامي، ودوي صفارات الإنذار في مستوطنات غلاف غزة.

ربما يعجبك أيضا