الثقافة الروسية.. حصار فرضته الحرب على تراث عالمي  

رنا الجميعي
تمثال دوستويفسكي في سيبيريا بالقرب من السجن الذي أُدخل فيه

دعت كثير من المؤسسات الغربية لتضييق الخناق على الفن والثقافة الروسية، فهل يسبب ذلك تهديدًا على وضعها في الأدب العالمي؟


مع اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية في فبراير 2022، خرجت دعوات غاضبة ضد المثقفين الروس ومحاولات منع وتضييق على الفن والثقافة الروسية.

ومنعت إحدى الجامعات تقديم محاضرات للأديب الروسي، فيودور دوستويفسكي، في حين استقال مدير مسرح البولشوي، توجان سوخيف، من منصبه قائدًا لأوركسترا في فرنسا، وأُلغيت  عروض باليه وطُرد فنانون روس، وانتشرت حالة اضطهاد دفعت المسؤولين للتبرؤ من مقاطعة الثقافة الروسية، وربما تمثل حالة التضييق تلك تهديدًا للوضع العام للثقافة الروسية في العالم.

 أفعال صبيانية

يصف مترجم اللغة الروسية، أحمد صلاح الدين، حالة الاضطهاد بأنها “أفعال صبيانية”، ويقول في حديثه لـ”شبكة رؤية الإخبارية” إن صراعات أخرى مثل الحرب العالمية الثانية لم يحدث فيها تلك الحالة من المنع، “لم يمنع أحدًا يومًا الفلاسفة الألمان مثلًا”.

وأضاف أن العالم بحاجة دائمة إلى العلم والأدب والفن، واعتبر أدب تولستوي ودوستويفسكي، وموسيقى تشايكوفسكي ورخمانينوف تراثًا عالميًّا لا يستطيع أحد مصادرته، كما هي الأهرامات والآثار المادية تراثًا ماديًّا مملوكًا للعالم أجمع.

وتابع “العالم لا يمكن أن يستغني عن التبادل الثقافي، على العكس من ذلك، ففي أثناء الحرب الباردة بين الاتحاد السوفييتي وأمريكا حدث رواج شديد للأدب والثقافة الروسية، فالشعوب حريصة على فهم الوضع المتأزم، وأتصور أنها حاجة دائمة”.

الأديب الروسي ليو تولستوي

جزء من التراث العالمي

يتفق مع ذلك الحديث أستاذ اللغة الروسية، محمد نصر الجبالي، ويقول لـ”شبكة رؤية الإخبارية” إن الحرب الروسية الأوكرانية لن يكون لها أي تأثير على وضع الثقافة الروسية، مشددًا على أن لا يمكن حرمان الإنسانية من الثقافة، فالأدب الروسي يضيف الكثير للأدب العالمي.

ورأى الجبالي أن الأفعال المتشددة مثل منع تقديم محاضرات ديستوفسكي ما هي إلا عارض، مشيرًا إلى أن الجامعة الإيطالية اعتذرت بالفعل عن ذلك الإجراء.

المنع والاضطهاد لا يجدي

مثلما ذكر المترجم والباحث في الأدب الروسي، صلاح الدين، يرى الجبالي أنه أحيانًا يحدث اهتمام متزايد، لأن الصراعات من شأنها أن تجعل الشعوب والأمم في احتياج بقدر أكبر لفهم الثقافات، ويحاول طرفا الصراع الاهتمام ثقافيًّا بالآخر أيضًا، حتى يدرسه ويتتبع إنتاجه على الأصعدة كافة، ولكن لا نقدر الجزم بذلك الآن إلا بعد انتهاء الأزمة.

ويؤمن أستاذ اللغة الروسية أن عاجلًا أم آجلًا ستنتهي الأزمة سياسيًّا، وسيعود الأمر بالنسبة لصورة الثقافة الروسية على ما هو عليه، فـ”لن يتوقف الناس عن قراءة الأدب الروسي، ولا مشاهدة عروض الباليه الروسي” على حد قوله، وكذلك فإن فكرة المنع نفسها عفى عليها زمن في رأيه، ويشرح ذلك: “في النهاية فإننا في عصر الإنترنت الذي يتيح كل شيء، والعروض المسرحية الروسية تُعرض إلكترونيًّا، وكذلك محاضرات الأدب الروسي، ولن تُجدي سياسة المنع أو الاضطهاد في شيء”.

مكانة ديستوفيسكي أعلى

ويجيب الباحث في الأدب الروسي عن رمزية منع ديستوفيسكي تحديدًا: “أرى منع تقديم محاضرات الكاتب الروسي له عدة أسباب، منها أنه تعبير عن أحقاد دفينة لأن ديستوفيسكي له مكانة في العالم أكبر من أي كاتب غربي، وله قدرة عجيبة على الاستمرارية والانتقال من جيل لآخر بسلاسة، فهو محافظ على شعبيته رغم اختلاف العقليات”.

أضاف “شباب اليوم ليسوا هم شباب القرن الماضي، ويوجد رابط ساخر بين منع ديستوفيسكي على يد الغرب، فالكاتب الروسي قضى عمره مؤيدًا لحرية التعبير حتى نفيه إلى سيبيريا بسبب ذلك، ومنعه يشير إلى ضرب القيم التي ادعتها أوروبا على مدار قرون طويلة، وكشفت النفاق الغربي”.

باليه بحيرة البجع للموسيقار الروسي تشايكوفسكي في دار الأوبرا المصرية

نشاط مصري في الترجمة عن الروسية

لن تتأثر حركة الترجمة عن الروسية في مصر أيضًا كما يذكر الجبالي، فاهتمام مصر بروسيا ازداد بعد انهيار الاتحاد السوفييتي كما يقول، وتابع “روسيا انفتحت على العالم بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، وتبع ذلك في مصر تنامي النشاط الثقافي والتجاري وتوافد السياح الروس، وكذلك سفر إلى المصريين في بعثات لروسيا، وتعرف الشعبين بقدر أكبر”.

وظهر ذلك الاهتمام مع تزايد حركة الترجمة عن الروسية في مصر خلال العقدين الماضيين بحسب الجبالي، مشيرًا إلى الجهد الذي تبذله مؤسسات ثقافية حكومية مثل المركز القومي للترجمة والهيئة العامة للكتاب، وكذلك دور النشر الخاص، كما نشطت حركة الترجمة أيضًا في سوريا والعراق.

تأثر الأدب الروسي بالنزاعات

انهيار الاتحاد السوفييتي أحد أهم ما أثر على الأدب الروسي وظهر جليًّا فيه، كما يذكر صلاح الدين، الذي يقول: “الحرب الباردة ثم انهيار الاتحاد السوفييتي أثر كثيرًا في الأدب الروسي، ودومًا ما تتناول الروايات الروسية فكرة التقسيم والصراعات مع قوى كبرى، ويظهر ذلك في نوع أدبي يطلق عليه “ديستوبيا”، وهي نظرة أدبية تشاؤمية تتنبأ بصراعات تؤدي إلى تدمير العالم.”

وأضاف “تلك الأعمال تشير إلى مشاعر خوف مسيطرة لدى الروس من النزاعات الانفصالية والعنصرية، ومن بين أبرز تلك الروايات تيلوريا للكاتب الروسي، فلاديمير سوروكين، التي تتناول رؤية فانتازية لأناس يدمنون أحد العقارات المخدرة، ويتحولون لأشكال مخيفة ويؤدي ذلك لحدوث صراعات وحروب”.

ويشير الباحث في الأدب الروسي إلى أن الحرب في أوكرانيا ستستغرق وقتًا حتى تظهر كإبداع أدبي، موضحًا “لكي يتحدث الأدب عن الصراع الحالي لا بد من انتهائه أولًا، ويمر بعض الوقت حتى تتضح الرؤية تمامًا، لأن الأدب في أساسه نوع من التأمل”.

ربما يعجبك أيضا