الحرب في اليمن.. لماذا بدأت وكيف تنتهي؟

يوسف بنده

دفاع لا هجوم.. حرب اليمن كدفاع عن العمق الاستراتيجي

عند الحديث عن الحرب باليمن، وتناول ظروف اندلاعها، فإنه يجب أن نضع بالاعتبار أننا بصدد الحديث عن عملية عسكرية مرتبطة بأزمة أمنية، وهو ما يدفعنا إلى أن نضع تعريفاً لبعض المفاهيم .

أهم هذه المفاهيم هو مفهوم العمق الاستراتيجي، وهو تعريف له شقان أحدهما عسكري ويعني ضرورة وجود مسافة فاصلة وكافية بين نقاط التهديد على الحدود وبين قلب الدولة المتمثل في مدنها ومصانعها وأماكن تمركز السكان. والآخر أمني ويعني الحديقة الخلفية للدولة من الجهات الأربع، وهي الحديقة التي يجب أن تجتهد الدولة لضمان أن تكون أكثر استقراراً أو لضمان ألا يسيطر عليها طرف يحمل توجهات عدائية. وإذا قرر هذا الطرف ترجمة توجهاته العدائية إلى تحركات ميدانية حقيقية، فإن العمق الاستراتيجي بمفهومه العسكري يكون حاضراً ويقوم بدوره في كبح وصد تغول الطرف المعادي نحو الداخل.

بالعودة إلى الحالة اليمنية، فإننا نجد اليمن بمثابة العمق الاستراتيجي الجنوبي بالنسبة للمملكة العربية السعودية، الدولة العضو في مجلس التعاون الخليجي، هذا العمق الذي سعت جماعة من دون الدولة non state actor بالسيطرة عليه، وباعتبار الحوثيين يتكئون في أفكارهم على الفكر السياسي الإيراني، فإنهم قد أعطوا لأنفسهم حق “القضاء على المستكبرين وحماية المستضعفين في الأرض” وهو المبدأ الإيراني المؤسس للفكرة الشمولية المعروفة بــ”تصدير الثورة الإسلامية”، وباعتبار أن اليمن والمملكة العربية السعودية دولتان حدوديتان فإن الجماعة الحوثية إذا ما سيطرت بسهولة على دفة الحكم باليمن فإنها ستستهدف أول ما تستهدف السعودية المحاذية لها . فيما يعني بالنسبة للملكة العربية السعودية الدولة العضو في مجلس التعاون الخليجي وجود تهديد  للعمق الاستراتيجي الجنوبي يتحتم التعامل معه.

لا يمكن القول أن العمق الاستراتيجي للمملكة العربية السعودية هو الذي تهدد فقط جراء سيطرة الحوثيين على صنعاء ومحاصرتهم للرئيس الشرعي “عبدربه منصور هادي”، وسيطرتهم على المجمع الرئاسي ومخازن الأسلحة الخفيفة والمتوسطة ومعسكرات الصواريخ بعيدة المدى ووسائل الإعلام الرئيسية ومقرات شركات النفط بالإضافة إلى إسقاط دستور البلاد. الأمر الذي يعني أن تهديداً خطيراً آخر لاح في الأفق سيطال كل من حركة الملاحة العالمية، وممرات الطاقة، والاستقرار الإقليمي الهش أصلاً. أي إن القرار بإنشاء التحالف العربي وبدء عمليات عاصفة الحزم عام 2015  قد جاء بناء على طلب المساعدة الموجه من الحكومة اليمنية المدعوم من الأمم المتحدة يمكن وصفه بأنه قرار دافع عن العمق الاستراتيجي لدول الخليج، وعن عمق مصالح العالم ، تلك المصالح التي كانت مُهددة بالوقوع تحت سيطرة جماعة شمولية متطرفة. وهو الأمر الذي يبرر الدعم الأمريكي الاستخباراتي والعسكري لقوات التحالف في اليمن حيث استقرت قناعة صانع القرار في البيت الأبيض أن التحالف يقوم بعملية عسكرية لصالح الإقليم والعالم، وهو ما جعل الإدارة الأمريكية لا ترضخ للدعوات غير الواقعية  بقطع سبل الدعم الاستخباراتي والعسكري للتحالف لأنها تعلم الأضرار المترتبة على هذا الأمر، الذي سينتج عنه دولة فاشلة بقيادة شمولية متطرفة عدائية  تسيطر على أحد أهم ممرات التجارة العالمية. أي أن التحالف كان يصد خطر بالإنابة عن العالم. 
 
“إنه خطأ شائع في الذهاب إلى الحرب أن تبدأ من المكان الخطأ، أن تنتظر حدوث الكارثة حتى تبدأ بنقاش ما جرى”
المؤرخ الإغريقي ثيكوديدس

الانتصار في الحرب
إن التحول من “المسار العسكري” إلى “المسار السياسي” هو بمثابة انتصار، لأن  العملية العسكرية قد حققت الهدف منها وهو “كبح التمدد الحوثي” الذي هو بالتبعية كبح للتغول الإيراني نحو العمق الاستراتيجي الجنوبي لدولة من دول مجلس التعاون الخليجي. ما يعني أن العملية العسكرية لم تهدف في الأساس إلى “القضاء كلياً على الحوثيين” باعتبار أن هذا الأمر غير ممكن عملياً، لا عسكرياً ولا سياسياً. وهو الأمر الذي تعنيه “خطة إعادة الانتشار” التي أقرتها دولة الإمارات، حيث حققت الحرب هدفها في لفت أنظار المجتمع الدولي إلى خطر الجماعة الحوثية على الاستقرار والسلم الدوليين، بالإضافة إلى أن الحرب قد جلبت الحوثيين إلى الطاولة كطرف سياسي لا كممثل رسمي للدولة اليمنية والشعب اليمني كما كان يطمح الحوثيون عندما سيطروا على دار الرئاسة في صنعاء وأسقطوا دستور البلاد، أي نجم عن الحرب تخفيض التمثيل الحوثي من صفة الحزب الحاكم للدولة إلى صفة تيار سياسي مدعوم من قوى خارجية، أي إيران وحزب الله. 

هذا تكتيك لا يمكن إغفاله، أن تضغط أنت زر التوقف التدريجي للحرب يعني أنك حققت ما تصبو إليه، أو كما يقول القائد العسكري الصيني “صن تزو” في كتابه فن الحرب ( فن الحرب هو ربح الحرب بدون حمام دم، عبر المناورات التي تضع الخصم في أوضاع مضطربة، والدولة التي تربح الحرب بخسائر بشرية قليلة هي التي تستطيع تحقيق الازدهار)

“حين تشتبك في قتال مديد مع الخصم دون أن تلوح نهاية وشيكة له، فمن الجوهري أن تستنبط وسيلة جديدة تماماً تمكنك من هزم عدوك والتغلب عليه”
مياموتو موساشي، كتاب الدوائر الخمس


مسرح الحرب كمختبر
لطالما لا تجد المناشدات النظرية غير المدعومة بقرائن طريقاً لها لدى المنظمات الأممية سواء مجلس الأمن أو الأمم المتحدة. فلو أن إحدى دول الجوار قد خاطبت منظمة أممية بشأن الخطر الذي يشكله تنظيم الحوثي على الأمن والاستقرار الإقليمي والدولي، لم تكن تلك المناشدات لتجد لها آذاناً صاغية. إلا أن الحرب قد جعلت بما لا يدع مجالًا للشك خطورة الحوثيين بما يمتلكونه من قدرات عسكرية ولوجستية حصلوا عليها إما بنهب مخازن الأسلحة الحكومية أو عبر التهريب من وكيل خارجي بالإضافة إلى أن إجادتهم لخوض العمليات العسكرية لا يدع مجالًا للشك أنهم قد تلقوا دورات تدريبية بالخارج، سواء على أعمال الميدان أو أعمال التجهيز الفني للأسلحة. امتلك الحوثيون أيضاَ تكنولوجيات مدمرة كالطائرات بدون طيار التي هددوا بها دول الجوار وهي الدول التي تأخذ على عاتقها مهمة حماية ممرات الطاقة الدولية.

كما أسهمت الحرب في اكتشاف شبكة معقدة من التغول الحوثي في المؤسسات الحكومية اليمنية بما يسهم في تعطيل أي مشاريع للبنية التحتية سواء تلك التي تقدمها مؤسسات أممية أو دول الجوار لأن الحوثيين كأي جماعة مسلحة إنما تسعى دائماً للإبقاء على الأوضاع في حالة مزرية لضمان وصول الاستياء الشعبي إلى أعلى مستوياته من الحكومة الرسمية الأمر الذي يسهم في تشكيل حاضنة اجتماعية مناسبة لنمو التنظيم وتمدده. لقد أسهمت الحرب في كشف الخطر الحوثي الذي لم يكن المجتمع الدولي ليأبه به لو أن المناشدات ظلت في إطار نظري دون أدلة إثبات. وبمعنى آخر فإن التحول إلى المسار السياسي وكأنها رساله من دول التحالف إلى المجتمع الدولي بأنكم مسؤولون معنا عن تحييد هذا الخطر الذي أخذنا على عاتقنا كشفه”.

“الخطر في كل مكان، ثمة أناس عدوانيون، الطريقة الوحيدة للتخلص من ديناميكية سلبية هي بمواجتهتها”
روبرت غرين، كتاب  33 استراتيجية للحرب

النموذج اليمني في إنهاء الحروب
تحتل حروب اليمن مساحة كبيرة سواء في أذهان اليمنيين أو تاريخ البلاد. اليمنيون يستخدمون ذكرى الحرب للتأريخ لأحداث حياتهم، كأن تقول سيدة يمنية “أنا تزوجت أثناء الحرب الثانية”، أو يقول تاجر يمني ” أنه خسر تجارته أثناء الحرب الثالثة”. ما جعل لليمنيين أو المؤسسات الدولية الخبرة الكافية في استنباط الآلية التي سيتم إنهاء الحرب بها. فمثلاً نجد أن الحرب الاهلية اليمنية عام 1994 ورغم سخونتها إلا أنها كانت تمر دائماً بمحاولات عقد تسوية سياسية، بداية من وثيقة العهد والاتفاق الموقعة بالأردن فبراير 1994، مروراً بلقاء صلالة ابريل 1994 . إلا أنه من الضروري الوضع في الاعتبار عدة أمور عند الانتقال إلى مرحلة التفاوض السياسي وهي أن أى محاولة لتخفيف الضغط العسكري على الحوثيين  مرة واحدة أو رضوخ الولايات المتحدة إلى دعوات إيقاف الدعم اللوجستي والاستخباراتي ستكون عواقبه وخيمة لدرجة ربما تجعل الحوثيون يتحولون إلى حالة أكثر تشدداً في الجلوس على طاولة المفاوضات وغير ملتزمين بالقرارات الأممية.

فالحوثيين لم يرضخوا إلى قرار وقف إطلاق النار في الحُديدة إلا بسبب تكثيف الضغط العسكري عليهم هناك، ما جعلهم لا يملكون خيارات كثيرة إما الرضوخ للاتفاق أو خسارة أى فرصة على طاولة المفاوضات إذا ما تم دحرهم بالحديدة. لذا يجب أن تعتمد استراتيجيا الوصول إلى الخطوة الاخيرة على معادلة الضغط العسكري بالتوازي مع الجلب للطاولة، وهذه الاستراتيجية هي ديدن خطة إعادة الانتشار التي أقرتها القوات المسلحة الإماراتية، والتي يمكن اعتبارها تقسيماً للجهد والمهام بين الحليفين الإماراتي والسعودي، بأن تتوسع القوات السعودية في الضغط العسكري، على أن تقوم الإمارات بمهام العمل الدبلوماسي والسياسي وتجهيز الطاولة.

“في خضم المعركة يميل العقل إلى فقدان اتزانه، من الجوهري أن تبقى حاضر الذهن”

استراتيجية الإمارات العربية المتحدة.. عمليات واضحة المسار والاستعداد التدريجي للإحلال
تميزت استراتيجية الإمارات العربية المتحدة ببعد نظر، والذي يمكن إحالته إلى استراتيجيتين:
الأولى: عمليات صغيرة ناجحة معلومة البداية والنهاية، حيث قامت القوات الإماراتية بعملية مكثفة ومحددة لضمان عدم استيلاء الحوثيين على عدن، فيما يعني التصدي لسيطرة الحوثيين على ميناء عدن الأهم في خطوط نقل الطاقة، بالإضافة إلى تقديم الدعم لضمان عدم توسع الحوثيين في السيطرة على مراكز النفط والغاز في مآرب بعد طلب سعودي بتقديم الدعم. وقطع أي محاولة على تنظيم القاعدة للتمكن من نقاط مواصلات واتصال. وبمعنى آخر ضمنت العمليات الإماراتية عدم سيطرة الأطراف المعادية على كل الشرايين الرئيسية التي تمكن من ضمان الحصول على طرق مواصلات بما يوفر لهم ذلك وسيلة للحصول على دعم عسكري مفتوح من الخارج، بما يعني أنه في حالة حدوث ذلك لكان أمد الحرب قد طال وازداد توحش الحوثيين وأصبح من الصعب جلبهم للطاولة. 

الثانية: الاستعداد التدريجي للإحلال،  حيث اهتمت الإمارات العربية المتحدة طوال السنين الماضية  بتدريب قوات يمنية بلغ عددها 90 ألف، ما يعني أن الإمارات كانت قد وضعت خططها على مراحل متعاقبة وقد كان هذا واضحاَ للمراقبين، بأن الإمارات كانت تعمل على ضمان وجود من يحفظ الاستقرار حين يأتي يوم تخفيض القوات وإعادة الانتشار، بما ينفي أي ادعاء بوجود قرار إماراتي مفاجئ بالتخفيض أو التخلي عن الحليف السعودي.

هذه القوات المُدربة ستكون رديفاً للقوة الأممية أو العربية المُقترح تدشينها، لاعتبارات هامة وهي أن اليمن بلد واسع المساحة معقد الدروب، وستعمل هذه القوة على ضمان الانتشار بكامل أرجاء اليمن مدعومة من القوة الدولية المرجو تشكيلها والتي ستكون بدورها مدعومة استخباراتياً من الولايات المتحدة لضمان عدم وثوب تنظيم القاعدة في جزيرة العرب على الساحة اليمنية.

إن الخطوة الأولى باتجاه أن تصبح استراتيجياً شاملاً- الخطوة التي تضع كل شيء في مكانه المناسب- هي أن تبدأ بتحديد هدف واضح وتفصيلي في فكرك، وأن يكون هذا الهدف واقعياً، وان تتحرك وفقاً لخطة

اتفاقات الطاولة لا تُرضي الجميع.
صُممت عمليات التفاوض بشأن ما بعد العمليات العسكرية التي لا يزال أطرافها على قيد الحياة عسكرياً وسياسياً على أن تراعي تحقيق بعض الرغبات لدى كل طرف لضمان عدم رحيله من على الطاولة، حتى لو أن رغبات كل طرف غير مرضية للطرف الآخر.

لذا من المتوقع أن يضم الاتفاق النهائي العديد من البنود غير المرضية لأطراف النزاع، فمثلاً سيكون للحوثيين تمثيل في المجالس المحلية، والوزارات والسيطرة على بعض المؤسسات المالية. هذه البنود للوهلة الاولى لن تكون مقبولة للحكومة اليمنية أو لأطراف التحالف العربي إلا أنها ستكون محل قبول بعض عدة نقاشات على هامش على عمليات التفاوض.

بدورها، ستكون هناك مطالبات للحكومة اليمنية بنزع سلاح الحوثيين، واحترام الدستور، وتنحيهم عن كل المؤسسات التي فرضوا سيطرتهم عليها بالقوة الجبرية. ومن المحتمل أن تصل قناعة الحوثيين إلى قبول هذه الطلبات بما توفر لهم من مساحة رسمية، بما يصور لهم خيالهم أنها كافية لفرض التغول والسيطرة التدريجية بمرور الزمن، اللهم إذا لم تطلب منهم إيران غير ذلك.

يجب أن تشمل الاتفاقيات النص على تواجد قوة عسكرية ضامنة للاستقرار وعدم تغول طرف على الآخر أو وقوع البلاد فريسة لحرب أهلية بعد انسحاب التحالف، بالإضافة إلى ضرورة تأمين ممرات الطاقة، سواء كانت تلك القوة أممية تابعة للأمم المتحدة أو النيتو، أو مكونة من تحالف عربي تحت مسمى مختلف.

“إن المدمنين على الاشتباك لا يجيدون  التفكير أبعد من ساحة المعركة”
روبرت ليوناردو، فن المناورة.

ربما يعجبك أيضا