السياسة خدعة.. “غدارات” محمد علي تقبر المماليك خلف باب العزب

هدى اسماعيل

كتب – هدى إسماعيل وعاطف عبداللطيف

“السياسة عالم الخديعة واللارحمة”، وخلف الأبواب المغلقة دائمًا هناك حكايات وروايات لأحداث عظيمة أو مأساوية، اليوم، نتحدث عن “باب العزب”، أحد أشهر أبواب قلعة الجبل، أو قلعة صلاح الدين، ولهذا الباب تحديدًا حكاية كبيرة؛ فخلفه تمت أكبر عملية اغتيال سياسي دبرها محمد علي باشا للمماليك في أول مارس 1811 ميلادية بمساعدة رجاله بقيادة لاظوغلي.

أطلق عليه البعض “باب العزاء” ارتباطًا بتلك المذبحة الشنيعة، وتقول بعض المصادر التاريخية أنه في هذا اليوم بلغ عدد من قتلوا من المماليك في القلعة وفي أنحاء القاهرة ومديريات مصر في تلك الأيام نحو 1000 من أمراء وكشاف وأجناد ومماليك وأتباع، وجرت دماء المماليك أنهارًا ونزلت من تحت باب العزب إلى ميدان الرميلة (أسفل قلعة الجبل) إلى منطقة تعرف حاليًا بـ”الدرب الأحمر”.

باب الدم

وباب العزب في قلعة صلاح الدين، له سُلمان من الخارج وأبراج لحراسة الجند، وهو باب ضخم غائر في قلعة الجبل له ضلفتان خشبيتان الواحدة تبلغ 10 أمتار ارتفاعًا وخمسة أمتار عرضًا ومزلاج ضخم، تعلوه أبراج قديمة، هذا الباب هو المسمى (باب العزب) وهو باب القلعة من الجهة الغربية، ويقع على ميدان الرميلة المسمى الآن ميدان (صلاح الدين)، فإذا دخلت هذا الباب تجد طريقًا وعرًا متعرجًا، منحوتًا في الصخر، تسير فيه صعدًا بالجهد والعناء إلى رحبة القلعة، وتصل من هذه إلى جامع محمد علي، ثم إلى قصره.

والحال الذي وصل إليه باب العزب يدعو إلى الشفقة باعتباره أثرًا مهمًا ونادرًا وشاهدًا على أضخم المذابح السياسية في العصر الحديث، فالإهمال الكبير نال من الباب والسلالم المؤدية إليه، فضلًا عن انتشار القاذورات والحفر في أرضيته والرسوم المسيئة على حوائطه أما المصاطب فقد احتلها متسولون ومتسكعون حولوها إلى مأوى لهم وبحلول الظلام على الجهة الغربية من القلعة يصبح باب العزب كالقبر الموحش، مذكرًا بمذبحة المماليك.
فكرة المذبحة

مذبحة المماليك، هي واقعة شهيرة في التاريخ المصري دبرها محمد علي باشا للتخلص من أعدائه المماليك الذي أرهقته مؤامراتهم السياسية وخطرهم المستفحل عليه، فعندما جاءته الدعوة من الباب العالي لإرسال حملة للقضاء على حركة الوهابيين في الجزيرة العربية، ودعا زعماء المماليك إلى القلعة بحجة التشاور معهم، ثم أغلق خلفهم الأبواب الضخمة وأمر جنوده بإطلاق النار عليهم، ويروى أن بعض المماليك استطاعوا الهرب بتسلق أسوار القلعة وركوب أحصنتهم والهرب إلى الصعيد المصري من بينهم إبراهيم بك الذي هرب للسودان ثم رجع بعدها بحوالي 3 سنين ليقتل بخدعة شبيهة بمذبحة القلعة.

سيناريو

يتقدم الموكب جيش كبير من الأحصنة التي يركبها جيش محمد علي بقيادة ابنه “إبراهيم بك”، ثم طلب محمد علي من المماليك أن يسيروا في صفوف الجيش لكي يكونوا في مقدمة مودعيه، وفي هذه اللحظة بعد ما خرج الجيش من باب القلعة أغلقت الأبواب والحراس الذين كانوا يديرون رءوسهم للمماليك استداروا لهم وانطلقت رصاصة في السماء، وكانت هذه هي الإشارة لبدأ مذبحة لم ينسها التاريخ يومًا، حينها أدرك المماليك أنهم قد وقعوا في الفخ، وانهال الرصاص من كل حدب وصوب على المماليك.

أشهر جنود الوالي بنادقهم المحشوة بالبارود أمام وجوه المماليك، ولم تكد تلك الطلقات تدوي في الفضاء حتى انهال الرصاص دفعة واحدة على المماليك فلم يمهلوهم الوقت أو التفكير وهم محصورون في هذا الطريق الغائر في الأرض، فالباب الضخم مقفل في وجوههم، والجنود من ورائهم، ومن فوقهم، وعن يمينهم، وشمالهم، لم يرحمهم بارود البنادق والغدارات.

أراد الباقي من المماليك النجاة بنفسه من الهلاك فترجلوا عن جيادهم، وتسلق بعضهم الصخور المحيطة بالطريق، ولكي تسهل عليهم عملية الفرار خلعوا ملابسهم الثمينة التي كانوا يرتدونها، إلا أن الرصاص كان يتلقفهم أينما صعدوا أو حاولو الهرب، فلا فرار من الموت، ومن هؤلاء “شاهين بك الألفي” الذي تمكن أن يتسلق الحائط وصعد إلى رحبة القلعة، وانتهى إلى عتبة قصر صلاح الدين، إلا أن الجنود لم يرحموه فقذفوه رصاصة أردته صريعًا، واستطاع “سليمان بك البواب” أيضًا أن يجتاز الطريق وجسمه يقطر دماء، ووصل إلى سراي الحرم، واستغاث بالنساء صائحًا “في عرض الحرم”، وكانت هذه الكلمة تكفي في ذلك العهد لتجعل من يقولها في مأمن من الهلاك، ولكن الجنود انهالوا عليه وقطعوا رأسه، وطرحت جثته بعيدًا عن باب السراي.

 وتمكن بعض المماليك من الوصول إلى حيث كان “طوسون باشا” راكبًا جواده منتظرًا أن تنتهي تلك المأساة، فتراموا على أقدامه طالبين الأمان، ولكنه وقف جامدًا لا يبدي حراكًا، وعاجلهم الجنود بالقتل، وتكدست جثث القتلى بعضها فوق بعض في ذلك المضيق، وعلى جوانبه، واستمر القتل إلى أن أفنى كل من دخلوا القلعة من المماليك، ولم ينج ممن دخل القلعة في ذلك اليوم إلا “أمين بك”.

بعد المذبحة، انطلق جنود محمد علي يطاردون المماليك في كل مكان في مصر حيث بلغ إجمالي من قتل منهم نحو 3 آلاف قتيل.

وكانت هذه نهاية المماليك في مصر بينما استمر محمد علي في عملية التحديث وعندما توفى في الإسكندرية عام 1849 عن عمر يناهز 80 عامًا، كانت أسرته هي الحاكم الفعلي لمصر باعتراف الدولة العثمانية.

ويقول مسيو جومار، وهو الذي جعله محمد علي باشا مديرًا لأول بعثة مدرسية مصرية في فرنسا: “لو أمكن محو تلك الصحيفة الدموية من تاريخ مصر لما صار محمد علي هدفًا لأحكام التاريخ القاسية”.

ربما يعجبك أيضا