بكين على خطى موسكو.. قراءة في التنافس الأمريكي الصيني في ضوء تقديرات سي آي آيه

رؤية

كتب – (أنس القصاص – محلل الشؤون الدولية والجيوسياسية)

أصدر مكتب مدير الاستخبارات الوطنية الأمريكي تقريره السنوي الذي يرصد فيه التهديدات المركبة التي تواجه النظام الدولي وقواعده وفي القلب منه الهيمنة الأمريكية. وهذا التقرير يعتبر هو أهم قياس لدرجة التهديد التي تواجه النظام الدولي وسيادة الولايات المتحدة عليه على اعتبار صدوره من قبل مكتب الاستخبارات الوطنية الذي يعتبر جهة التنسيق العليا بين أطراف مجتمع الاستخبارات الأمريكي المكون من ستة عشر وكالة استخبارية على رأسها وكالة المخابرات المركزية CIA.

منهجية وأهمية هذه التقديرات

تعتمد منهجية هذه التقارير على الفصل بين التهديدات الصادرة عن الفاعلين الرسميين والأخرى التي تصدر عن الفاعلين من غير الدول NSAs؛ مع قياس مستوى التماسك أو الضرر الذي يصيب النظام الدولي جراء أي تطورات في الملفات الحساسة العابرة للحدود مثل الصراع التكنولوجي وأسلحة الدمار الشامل والإرهاب الدولي والجريمة المنظمة ومنظمات الأمن الخاصة والتحديات المناخية والهجرة والأمن الصحي والغذائي.

ويعتبر مقترب هذا التقرير مقترب فني في بعض جوانبه حيث يتناول تقييم التهديدات من نظرة استخباراتية مقارنة باستراتيجية الأمن القومي أو خطاب حالة الاتحاد الذي يتم التقييم فيه من منظور سياسي.

وتقوم الوكالة بالإفصاح عن هذا التقرير في الربع الأول من كل عام امتثالا لأحكام قانون الأمن القومي الأمريكي وتعديلاته وقانون تفويض الاستخبارات الذي يتجدد مع كل موازنة جديدة وهي جميعها تحدد دور مكتب الاستخبارات الوطنية في إدارة العلاقة بين مجتمع الاستخبارات والجهات الفيدرالية الأخرى وغيرها كمؤسسات الإعلام والرأي العام.

1x 1 1024x768 1

وبطبيعة الحال تقوم مثل تلك التقارير بذكر الخطوط العريضة لتقييم التهديدات ولا يتم ذكر تفاصيل مركبة حتى لا يشكل ذلك إضرار بالأمن القومي الأمريكي، حيث أن ذلك التقرير المقصود منه الشفافية والتوعية وفقا للقانون وليس تقديمه لجهة فيدرالية أخرى مثل استراتيجية الدفاع الوطني الذي يتم تقديمها إلى الكونجرس بغرض الموافقة عليها ولذلك فإنها يتم شطب بعض محتواها عند العرض على الإعلام.

قراءة الاستخبارات الأمريكية لمعالم التهديد الصيني

يرى التقرير أن التهديدات التي تواجه النظام الدولي منبعها أربع دول هي الصين وروسيا وإيران وكوريا الشمالية على الترتيب. ويشير التقرير إلى أن حرب غزة التي بدأت في السابع من أكتوبر ستزيد من هشاشة النظام الدولي وطرح أسئلة عميقة حول مستقبله بسبب وجود دعم مباشر من قبل قوة من تلك القوى الأربع وهي إيران، إلى جانب موافق ورضا وتنسيق بقدر أو بآخر مع الفاعلين الرسميين الثلاثة الآخرين وهم الصين وروسيا وكوريا الشمالية.

يولي التقرير اهتماما بارزا بالصين باعتبارها محور التحول الدائر اليوم في النظام العالمي حيث يرى أن الصين تحت قيادة الرئيس شي جين بينج تشعر باستحقاق الريادة العالمية وأنها لن تفوت أي فرصة تتمكن فيها من الإجهاز على النظام الدولي الحالي الذي تشعر فيه أنه يقف عائقا بينها وبين المستقبل.

كما يتوقع التقرير أن الأزمة الاقتصادية الحالية في الصين ستطول لأعوام وتأخذ أبعادا وأعماقا إضافية، لاسيما مع التحديات الديموغرافية والاقتصادية الحالية التي تسببت في زعزعة ثقة المستهلكين والمستثمرين على حد سواء وأدت إلى خروج جماعي للمستثمرين من الصين في الأعوام الماضية.

لكن التقرير يرى أنه على الرغم من التباطؤ الاقتصادي الذي تعاني منه الصين، فإنها ستظل تواظب على معدلات مطردة في مشروعات التحديث العسكري وستقوم بالاستمرار على خطة 2035 الذي يضمن لها مناوئة فعلية على النظام الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة ثم الوصول في 2049 إلى نظام دولي جديد تقوم بكين بهندستها بنفسه في سابقة هي الأولى في التاريخ لدولة آسيوية.

j3e5LdnbzCwbeVtb 1280x600 q70 1024x480 1

احتمالية التحول نحو النموذج الروسي

ويمكن القول إن هذين الملمحين (تباطؤ اقتصادي وتعملق عسكري) هما الأكثر أهمية بين ملامح أخرى الذي ذكرهما التقرير مثل التطور التكنولوجي والفاعلية في النفوذ الاستخباري والأمني، حيث يمكن اعتبار أن العوامل الأخرى مندرجة في إطار مستقبل قطاعي الاقتصاد والعسكرية الذين سيشكلان مستقبل الصين في الأعوام القادمة.

وبنظرة نقدية نحو الماضي، فمن المحتمل أن تدفع هذه الأجواء الصين مع مرور الوقت إلى إنتاج نموذج أشبه بروسيا البوتينية لكنها أشد شكيمة منها على اعتبار الموارد والجغرافيا المكانية والبشرية. فربما لا تستطيع هذه الدولة الوصول إلى مستوى المناوئة على النظام الدولي بسبب التعثر الاقتصادي المستمر المدفوع بالتحديات الديموغرافية المتزايدة، لكن امتلاك بكين لهياكل أمنية وعسكرية عالية الكفاءة سيزيد من قدرتها على إحكام قبضتها على الداخل وتفخيخ النظام الدولي القائم بقدراتها وأصولها العسكرية الضخمة التي تتراكم وتتزايد وتتوسع مع مرور الأعوام. ومع عدم وجود خطوة أمريكية إيجابية لصيانة النظام الحالي بعيدا عن عرقلة المنافسين، فإن محاولات الشغب تلك ستخلق حالة غير مسبوقة في العالم المعاصر من الهشاشة وعدم اليقين.

ويمكن القول بأن هذين الملمحين اللذان يحددان مسار الإمبراطورية الصينية هما نتاج للفعل الأمريكي. فالولايات المتحدة هي التي تسعى عن طريق استراتيجياتها الاقتصادية والتجارية وتحكمها في معظم مفاصل التجارة العالمية عبر الشراكات الفعالة مع القوى الدولية الكبرى مثل اليابان وألمانيا والهند إلى تجريد الصين من النمو المطرد الذي واظبت عليه بكين أعواما تلو أعوام. وأصبح المصير المحتوم للمستثمرين الغربيين في الصين هو الخروج إما الآن وإما غدا إلى الهند أو جنوب شرق آسيا أو حتى الولايات المتحدة التي غيرت كثيرا من أوضاعها الاستثمارية وخصوصا في الاستثمارات التكنولوجية بعد إقرار قانون العلوم والرقائق Chips & Science Act في العام قبل الماضي.

كذلك الأمر من الناحية العسكرية. فإن وصول الصين إلى مسار التحديث العسكري الحالي إلى غير رجعة هو نتاج إهمال أمريكي لإدارة ملف الصين عبر العقدين الأخيرين وخصوصا مع اعتماد استراتيجية الحرب على الإرهاب وبدء حروب الشرق الأوسط. كما أن هذا التحديث الذي يقوم بشكل أساسي على العلاقة بين موسكو وبكين كان يمكن إبطاؤه عن طريق عرقلة روسيا أو إشباع غرور الصين عبر تمرير أسلحة غربية غير مؤثرة لها في إطار استراتيجية تسكين طويلة المدى Appeasement Strategy.

لكن هذا المسار أدى إلى استمرار تعزيز شرعية الحزب كما أدى إلى استمرار المراكمة الرأسمالية من قبل الحزب الشيوعي ورجال الأعمال المرتبطين به وهو ما أدى إلى مزيد توطين الأوضاع في مسار الأوليجاركية الروسية في عهد بوتين. وهو المسار الذي توقعنا به أعلاه: اقتصاد متباطئ ومطالب متزايدة في مقابل هيكل أمني متمرس وقوة عسكرية عتيدة قادرة على الفعل العسكري المتجاوز لكنها محكومة بأحكام السياسة.

M 1024x682 1

من احتمالية التحول إلى احتماليات الاضطراب

لذلك فإن هذه التقديرات التي نشرتها الاستخبارات الأمريكية حول التهديد الصيني تعني أن الولايات المتحدة قد بدأت في تحويل مسار الصين من المنافسة على النظام الدولي إلى الشغب حوله وربما تهديده وتفخيخه وهي على أي حال إن شكلت نجاحا فإنها محاولة غير مأمونة مطلقا.

في تصريحات له في 2019، قال مستشار هيئة الأمن القومي الأمريكي روب جويس أننا إذا اعتبرنا أن روسيا قوة هادرة مثل الإعصار وقادرة على صنع اضطرابات حادة، فإن الصين هي التغير المناخي ذاته وقادرة على صنع تحولات عميقة وطويلة المدى.

لذلك، فإنه إن صدقت تقديرات المخابرات الأمريكية حول استمرار تباطؤ الاقتصاد الصيني لأعوام مقبلة فإن ذلك سيعني أنه تم إيقاف مسار التحول الذي يدفع نحوه ذلك التنين منذ سنوات وإن كان بشكل مؤقت، لكن العالم يجب أن يستعد لأعاصير كثيرة في أماكن متعددة في الأعوام المقبلة. كما أن مسار الخنق الاقتصادي المستمر على الصين سيدفعها إلى تغير استراتيجيتها إلى مزيد من التفاعل الإيجابي مع الزوايا الحادة في النظام الدولي والنظم الإقليمية وعلى رأسها الشرق الأوسط.

هل يضمن ذلك التحول في المسار الصيني استمرار السيادة الأمريكية؟

من شبه المؤكد أن هذه التغيرات التي تواجهها الصين ستؤثر بشكل أو بآخر على شكل المنظومة العالمية لكنها لا تعني مطلقا دخول الهيمنة الأمريكية في عصر جديد. حيث أن تدشين عصر جديد من الهيمنة الأمريكية مرهون بالفعل الذاتي الأمريكي وليس بقدرة الولايات المتحدة على عرقلة الخصوم.

وفي ظني أن تناقضات الأوضاع السياسية داخل الولايات المتحدة هي أكبر العراقيل أمام احتمال تدشين حقبة جديدة من الهيمنة الأمريكية. فالولايات المتحدة تحتاج إلى تعديلات دستورية أحدها في نظامها السياسي ذاته من أجل أن تستطيع تدشين مرحلة جديدة بنفس قواعد النظام الدولي أو مع تغييرات طفيفة.

بدون ذلك، ستستمر الولايات المتحدة في نزيف القوة الذي تعاني منه بما سيدفع العالم في مرحلة من المراحل إلى تقاسم الهيمنة وحدوث حالة من الهشاشة والفوضى التي تعلن انتهاء ذلك النظام المستمر منذ قرابة 80 عاما.

ربما يعجبك أيضا