بلومبيرغ| قرصنة بيلاروسيا الجوية لاختطاف معارض تقوّض النظام الدولي بقيادة أمريكا

شهاب ممدوح

ترجمة – شهاب ممدوح

في التاريخ الذي رواه عن الحرب البيلوبونيسية، ميّز المؤرخ القديم ” ثوقيديدس” بين الأسباب القريبة والدوافع الكامنة الأعمق للصراع بين أثينا وإسبرطه. من المفيد أن نعتمد نفس المنظور عند دراسة استخدام الحكومة البيلاروسية للقرصنة الجوية – تغيير مسار رحلة جوية بشكل غير قانوني بين اليونان وليتوانيا لخطف المعارض البارز “رامان براتاسفيتش” الذي لجأ إلى الخارج. عند النظر إليه بمعزل عن غيره، سنجد أن هذا الحادث يظهر وجود نظام مستبد يقمع المعارضين الذي يتحدونه منذ إعلان “أليكسندر لوكاشينكو”، رجل بيلاروسيا القوي الذي يحكم البلاد من زمن طويل، انتصاره في انتخابات العام الماضي التي اعتُبرت على نطاق واسع بأنها مزوّرة.

لكن، عند النظر إلى الأمر بصورة أكثر عمومًا، سنجد أن هذه الحادثة هي مثال صارخ على اتجاه مثير للقلق. إن المستبدين حول العالم يضفون طابعًا عالميًّا على قمعهم، عبر برامج عدائية عابرة للحدود الوطنية هدفها السجن، وكما يُعتقد على نطاق واسع، قتل معارضيهم. وعبر قيامهم بهذا، هم يتحدون قيم المجتمعات الحرة وركائز النظام الدولي.

يبرز هذا الاتجاه شيئًا فشيئًا مع تراجع هيمنة الديمقراطيات في زمن ما بعد الحرب الباردة، وتأكيد الأنظمة القمعية لمصالحها. هناك دليل قوي على أن روسيا، تحت حكم الرئيس فلاديمير بوتين، صار لديها عادة شنيعة تتمثل في تصفية الأعداء داخل دول ديمقراطية مثل المملكة المتحدة وألمانيا.

إن الصين التي تُعدّ أقوى نظام استبدادي في العالم، ربما تكون قائدة القمع العابر للحدود الوطنية. هناك تقارير ذات مصداقية تفيد بأن الحزب الشيوعي الصيني خطف معارضين من هونغ كونغ وجنوب شرق آسيا، وضغط على دول في آسيا والشرق الأوسط لترحيل أعضاء ينتمون لمجموعات عرقية مضطهدة، وأرسل عملاء حكوميين لترهيب معارضين في أوروبا والولايات المتحدة. يعزز المستبدون في عصرنا الحالي من حكمهم في الداخل عبر استهداف معارضين حول العالم.

إن هذه الأساليب ليست جديدة. لطالما استخدم الطغاة عملاء سريين وفرق اغتيال لتعقب أعدائهم في الخارج. اشتهر جوزيف ستالين بإرسال قاتل محترف لقتل “ليون تروتسكي” في المكسيك عام 1940. لكن ما يجعل تصرف “لوكاشينكو” صادمًا للغاية هو أنه يجسّد حالة انعدام القانون التي يهدف النظام الدولي في يومنا هذا لمنعها.

لقد أُنشئت شبكة المنظمات الدولية، بداية من الإنتربول وصولًا إلى منظمة الطيران المدني الدولية، خلال القرن العشرين لاستبدال حكم الغابة، عبر وضع قوانين تحظى بقبول واسع، لتنظيم الشؤون العالمية. منذ عام 1945، لا سيما منذ نهاية الحرب الباردة، ترسّخ النظام الدولي بفضل قوى عظمى ديمقراطية، وكان ذلك النظام منحازًا لقيم المجتمعات الحرة. لكن، مع تزايد قوة الدول المستبدة، بات هذا النظام يتعرض لضغوط.

أصبح الديكتاتوريون بارعين للغاية في استقطاب منظمة الإنتربول، عبر استغلال نظامها المسمى “النشرات الحمراء” لمضايقة معارضيهم في دول أجنبية، وإبقاء سيف الترحيل معلقًا فوق رؤوسهم. وضعت الصين مواطنيها على رأس منظمات دولية مهمة، لاستخدامهم بكل تأكيد كأدوات لدعم أنظمة مستبدة، واستخدمت بكين وموسكو ودول مستبدة أخرى هذه المنتديات لإعادة كتابة المعايير العالمية في مجالات تبدأ من حقوق الإنسان وصولا إلى إدارة الإنترنت. لقد تعاونت هذه الدول معًا لتعقب خصوم موجودين في دول مجاورة.

لماذا يذهب هؤلاء الحكام غير الخاضعين للمحاسبة إلى هذا المدى لخطف بضعة أفراد مزعجين، حتى لو كان هذا سيضع علاقتهم مع دول ديمقراطية في خطر؟ إن جرأة هذه الاستراتيجية في الواقع هي الهدف. فالقمع الحاصل خارج الحدود يظهر للمعارضين أنهم لن يكونوا آمنين مطلقًا، حتى في المنفى. هذا يهدد شبكات الدعم الخارجية التي يعتمد عليها معارضو الأنظمة الديكتاتورية.

بالنسبة للعالم الديمقراطي، فإن التداعيات خطيرة أيضًا. فالقمع خارج الحدود يقوّض احترام القيم الليبرالية التي جعلت النظام الدولي الحالي سليمًا بشكل فريد. قد يكون لهذا الأمر تأثير مخيف على حرية التعبير والتعبئة السياسية داخل الدول الديمقراطية، وذلك عمليًّا عبر تصدير الترهيب الاستبدادي.

وأخيرًا فإن هذا الوضع يحمل في طيّاته نذرًا مقلقة للمستقبل: مَن يضمن أن الأنظمة الاستبدادية ستكتفي بقمع المعارضين عبر استخدام مواطنيها في الخارج؟ يُقال إن الصين تستخدم الإجبار الاقتصادي لتشكيل الطريقة التي يتحدث بها الأمريكيون ومواطنو ديمقراطيات أخرى بشأن الصين ونظامها الحاكم.

إن اعتقال المعارض “براتاسيفتش” هو حادث محدود يبرز تغيرات عالمية أكبر بكثير. لهذا السبب يتعيّن على الديمقراطيات، لا سيما الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، التفكير بصورة أشمل إزاء ردودها.

من المناسب جعل بيلاروسيا تدفع ثمنًا اقتصاديًّا، عبر منع شركات طيرانها الوطنية من دخول دول أجنبية، ورفض تحليق الطيران الأجنبي عبر المجال الجوي البيلاروسي. إن فرض عقوبات محددة على مسؤولي النظام يمكن أن يساعد في حرمان داعمي “لوكاشينكو” من ثروات غير شرعية مخزّنة في الخارج، وينبغي للدولة الأوروبية أيضًا تعزيز الدعم السياسي المقدم للمعارضة المناهضة ل “لوكاشينكو”- عبر الاستمرار في فضح وحشية النظام وتقييد تعاملاتها مع شركات مملوكة للدولة متواطئة في القمع- كطريقة لإبقاء أمل التغير الديمقراطي (حتى لو كان بعيد المنال) حيًّا.

ستشمل اللعبة الأكبر بذل جهد طويل وثابت لمواجهة شبح الاستبداد الذي يخيّم على العالم. هذا يعني حشد تحالفات ديمقراطية لاستعادة النفوذ الضائع في الكيانات الدولية، وحرمان بكين من ميزات قيادة مؤسسات عالمية، فضلًا عن فضح وعزل الأنظمة الاستبدادية التي ترتكب أعمال قمع خارج حدودها. هناك نموذج جيد، وإن كان ناشئًا، وهو مبادرة ظهرت مؤخرًا تقودها كندا مكوّنة من 58 دولة لمعارضة الممارسة المستبدة المتمثلة في احتجاز مواطنين أجانب كرهائن دبلوماسيين.

لقد ساعد “لوكاشينكو” في تذكير العالم بأن هناك معركة أيديولوجية كبرى يدور رحاها الآن، وهنا ينبغي لديمقراطيات العالم أن تفكر بصورة أشمل في ردودها؛ لأن التهديد لا يقتصر على مصير معارض واحد.

للإطلاع على المقال الأصلي إضغط هنا

ربما يعجبك أيضا