بوليتيكو | خيار بوتين في أوكرانيا.. حرب ساخنة أم صراع مجمّد لوقت طويل؟

شهاب ممدوح

رؤية

ترجمة – شهاب ممدوح

يقول مسؤولون أمريكيون كبار إنهم قلقون من أن روسيا تهدف لتسخين الأوضاع في أوكرانيا، مع تمركز قوات روسية على طول الحدود ربما استعدادًا لغزو وشيك. مع هذا، ربما يكون لدى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين رأي مختلف تمامًا: تعميق تجميد الصراع في منطقة دونباس في شرق أوكرانيا، باعتباره الضمان الأفضل، وربما الأوحد، لمنع انضمام أوكرانيا إلى حلف الناتو.

في اجتماع عُقد في ستوكهولم يوم الخميس، قدّم وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف ونظيره الأمريكي أنطوني بيلنكن تقييمات متناقضة تمامًا للوضع في شرق أوكرانيا. شدّد بلينكن على أن خطر الحرب الوحيد يتمثل في تهديد العدوان العسكري الروسي، فيما صرّح لافروف أن توسّع الناتو شرقًا هو التهديد.

اتفق الوزيران على أن يتحدث الرئيس بوتين والرئيس الأمريكي جو بايدن هاتفيًّا بشكل مباشر في الأيام المقبلة. لطالما رغبت روسيا في تهميش محادثات السلام مع أوكرانيا برعاية فرنسية وألمانية (والمعروفة بصيغة نورماندي) لصالح عقد حوار مباشر مع واشنطن، ما يُعيد لموسكو وضعها السابق كقوة عظمى.

بعد تأكيد نبأ المحادثة بين الرئيسين، سارع محللون روس مطلعون للإشارة إلى أن خطر الحرب يتراجع لصالح عقد مفاوضات جديدة. وكتب “ديمتري ترينين” مدير مركز “كارنيغي موسكو” على صفحته على تويتر قائلًا: “يبدو أن الخوف من حصول مواجهة عسكرية في أوكرانيا ربما يتراجع منسوبه الآن لصالح مساومة دبلوماسية”.

إن آمال روسيا بخلق مسار موازٍ لمحادثات السلام ربما تكون خاطئة. بالإضافة إلى تهديداته مؤخرًا بشأن حدوث عواقب وخيمة، بما فيها فرض “عقوبات قاسية” في حال حدوث غزو لأوكرانيا، أعاد بلينكن التشديد على أن أفضل مسار نحو السلام لروسيا هو العودة للمفاوضات ضمن اتفاقيات “مينسك 2” للسلام، والتي هي جزء من صيغة نورماندي.

في غضون هذا، رفض بوتين المشاركة في اجتماعات نورماندي في الأشهر الأخيرة، ذاهبًا إلى حد رفضه مناشدة شخصية من المستشارة الألمانية المنتهية ولايتها “أنجيلا ميركل”. يعتقد العديد من الخبراء أن اتفاقيات “مينسك 2” أصبحت ميّتة عمليًّا، حيث لا ترغب روسيا أو أوكرانيا في تنفيذ تعهداتها.

أخبر بايدن مراسلين في البيت الأبيض، يوم الجمعة، أنه مصمم على منع أي غزو لأوكرانيا. وأضاف: “ما أفعله هو إعداد ما أظن أنها أكثر المبادرات شمولًا وجديّة تجعل من الصعب جدًّا على بوتين أن يفعل ما يخشى الناس أن يفعله”.

حتى لو اتفق بايدن على الدخول في مفاوضات مباشرة مع بوتين، أو لو تولّت الولايات المتحدة دورًا رسميًّا في عملية “نورماندي” موسّعة، فإنه ليس هناك الكثير الذي يمكن لواشنطن أن تقدمه لتلبيه مطالب روسيا من دون تقويض سيادة أوكرانيا ووحدة أراضيها، وذلك في ضوء التعهد الصارم الذي قدمته الولايات المتحدة وحلفاؤها في الناتو لحماية أوكرانيا.

لن تعترف الولايات المتحدة وحلفاؤها بضمّ روسيا للقرم، والذي فرضت بسببه هذه الدول عقوبات على روسيا. كما لن يضغطوا على أوكرانيا للتخلي عن أراضيها في إقليمي “دونيتسك” و”لوهانسك” الواقعين شرق البلاد والمُحتلين حاليا من جانب انفصاليين مدعومين من روسيا. كما لن تمنح الولايات المتحدة وحلفاؤها روسيا حق الاعتراض على طموحات أوكرانيا بالانضمام يومًا ما إلى حلف الناتو والاتحاد الأوروبي. وشّدد الأمين العام لحلف الناتو “جينز ستولتينبرغ” على هذه النقطة بعد اجتماع يوم الأربعاء لوزراء خارجية حلف الناتو في ريغا عاصمة لاتفيا.

وصرّح “ستولتينبرغ” قائلا: “أوكرانيا وحلفاء الناتو الثلاثون فقط هم من يقررون متى تكون أوكرانيا جاهزة للانضمام للناتو”، مضيفًا: “روسيا ليس لديها حق الاعتراض، وليس لديها رأي، وروسيا لا تمتلك الحق في تأسيس مجال نفوذ، ومحاولة السيطرة على جيرانها”.

في جلسات خاصة، يعبّر بعض حلفاء الناتو عن تشككهم بشأن تحذيرات واشنطن بخصوص غزو روسي محتمل. لا يعترض الحلفاء على المعلومات الاستخباراتية الأمريكية، بما فيها صور أقمار اصطناعية تظهر حشدًا كبيرًا لقوات وأسلحة روسية على طول الحدود، لكنهم يشككون في احتمال أن يكون بوتين راغبًا في بدء حرب أخرى.

ينوّه تحليل داخلي تم إعداده لمسؤولين ودبلوماسيين في المفوضية الأوروبية، واطلعت عليه صحيفة بوليتيكو، إلى مستوى التحذير المرتفع الذي أرسلته واشنطن إلى الحلفاء، لكن التحليل خلص إلى أنه من غير المرجّح أن تشنّ روسيا هجومًا بسبب افتقارها إلى القدرات اللوجستية لدعم غزو متواصل وواسع النطاق ضد أوكرانيا.

وذكر التحليل الداخلي أن “الولايات المتحدة تعتبر تهديد روسيا بالتصعيد العسكري خطيرًا، ولديها ثقة عالية جدًّا بأن هذا ليس مجرد خدعة من بوتين”. لكن التحليل أضاف: “بسبب الافتقار للدعم اللوجستي، سيستغرق الجيش الروسي شهرًا أو شهرين لتعبئة قواته لإطلاق غزو مكتمل الأركان. (علاوة على هذا، فإن الضعف اللوجستي العام يمنع الجيش الروسي من شنّ غزو خطير). بالتالي، لا يوجد تهديد بغزو وشيك”.

ووجد هذا التحليل أنه عوضًا عن إشعال حرب ساخنة، ربما تستخدم روسيا حشد القوات للتعبير عن سخطها المتزايد بشأن تنامي علاقات الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وحلف الناتو العسكرية مع أوكرانيا، فضلًا عن حصول أوكرانيا على أسلحة جديدة، من بينها طائرات مسيّرة تركية مسلحة، جرى استخدامها مؤخرًا لاستهداف مدافع الانفصاليين. ليس هناك وجود دائم لقوات الناتو في أوكرانيا، لكنّ دولًا حليفة بنت علاقات وثيقة مع القوات الأوكرانية، بطرق من بينها التدريب والمناورات المشتركة وبيع أنظمة سلاح.

ووجد التحليل أن “موسكو تبدو متفهمة تمامًا لتكاليف أي غزو”. وأضاف “لهذا فإن التمركز المسبق للقوات يتعلق أكثر بإيصال رسالة عدم رضا تجاه السياسة الغربية تجاه أوكرانيا (تزايد حضور الولايات المتحدة/المملكة المتحدة وحلف الناتو”.

مع هذا، يتطرق التحليل لسيناريوهات أخرى، من بينها استعدادات روسية لصراع عسكري شبيه بحربها مع جورجيا عام 2008، عندما استخدمت روسيا قوة هائلة ردًّا على صدامات بين قوات جورجية وقوات انفصالية مدعومة من روسيا، اعتبرتها روسيا حينها بأنها استفزاز من جانب “تبليسي”. وفقًا لهذا الرأي، يمكن أن تستغل موسكو استخدام أوكرانيا لأسلحة متطورة وقيامها بأنشطة عسكرية بالقرب من أراضٍ خاضعة لسيطرة انفصاليين كذريعة للغزو.

دعا بلينكن، المُدرك لهذا الخطر، أوكرانيا أيضًا لضبط النفس، مُحذرًا بقوة من أن روسيا اصطنعت في السابق استفزازات لتبرير عدوان عسكري. ولطالما رأى بوتين أن الروس والأوكرانيين “شعب واحد”، وقد عبّر عن هذا في مقالة طويلة في يوليو الماضي بعنوان: “حول الوحدة التاريخية للروس والأوكرانيين”.

وبالرغم من أن رغبة بوتين النهائية ربما تكون سيطرة روسيا على البلاد بأكملها، إلا أن هذا يبدو أمرًا مبالغا فيه. عقب ضمّ القرم عام 2014 ونحو ثماني سنوات من الصراع في “دونباس”، باتت شرائح واسعة من الشعب الأوكراني تحتقر روسيا وزعيمها بشدّة!

ربما يكون لدى موسكو دوافع لمحاولة تنفيذ سيطرة محدودة على أراضٍ أوكرانية، بما في ذلك إنشاء رابط برّي لشبه جزيرة القرم، لكن هدف روسيا المؤكد فيما يبدو هو منع أوكرانيا مطلقًا من الانضمام لحلف الناتو. شبّه “ترينين”، المحلل في مركز كارنيغي موسكو، الشواغل الروسية بشأن الأسلحة التي قدمها الغرب وتم نشرها بالقرب من حدود روسيا مع أوكرانيا، بمخاوف أمريكا تجاه الصواريخ الروسية في كوبا أثناء أزمة الستينيات.

إن اعتراض روسيا يتصادم مباشرة مع أهداف الرئيس الأوكراني “فولوديمير زيلينسكي” ومسؤولين كبار آخرين في “كييف”، فضلًا عن غالبية الأوكرانيين الملتزمين تمامًا بفكرة اتباع مسار ربما يقود بلادهم لعضوية الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو. إذ عدّل البرلمان الأوكراني عام 2019 دستور البلاد وأضاف فقرات محددة تكلّف الرئيس والحكومة بتنفيذ “المسار الاستراتيجي لحصول أوكرانيا على العضوية التامة في الاتحاد الأوروبي ومنظمة حلف شمال الأطلسي”.

عارض بعض أعضاء الناتو الأوروبيون انضمام أوكرانيا للتحالف في الماضي، مُعتبرين أن هذا سيستفز موسكو. لكن بوتين لطالما كان يشدّد على أن الولايات المتحدة نقضت وعدها لروسيا عبر قبول بلدان تقع شرق ألمانيا في حلف الناتو. ربما يظن بوتين الآن أن ضمانته الوحيدة بالإبقاء على أوكرانيا خارج الناتو، عبر إطالة أمد الوضع القائم في “دونباس”، ومواصلة الصراع المجمّد هناك بطريقة مماثلة للصراع في “ترانزنيستريا” في مولدوفا، وإقليمي أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا في جورجيا. وبالنظر إلى التزام الدفاع المشترك لحلف الناتو، فإنه من المستحيل عمليًّا للحلفاء قبول عضو جديد متورّط في صرع عسكري متواصل.

شدّد “لافروف”، قبل لقائه “بلينكن” في ستوكهولم، على أن هناك أمورًا يمكن التفاوض بشأنها. وقال لافروف “إن توسيع الناتو تجاه الشرق سيؤثر بلا شك في المصالح الأساسية لأمننا”، مضيفًا: “هناك أمور يمكن الحديث بشأنها”. قال الرئيس بايدن، أثناء مغادرته واشنطن لقضاء نهاية الأسبوع في كامب ديفيد، إنه لن يقبل بخطوط روسيا الحُمر، مضيفًا: “نحن واعون لأفعال روسيا منذ زمن طويل”. وتابع بايدن بالقول: “أتوقع عقد نقاش طويل مع بوتين”.

وفي ضوء فشل صيغة نورماندي حتى الآن، ربما يخشى بايدن والغرب من أن يكون هدف بوتين تحديدًا هو مواصلة الحديث – وبشكل متقطع – لوقت طويل للغاية.

للاطلاع على الرابط الأصلي اضغط هنا

ربما يعجبك أيضا