جمال عبد الناصر.. جبل الكبرياء النابت في أرض العروبة

شيرين صبحي

رؤية

ذات يوم بعيد سأل مزارع فقير يدعى عم إبراهيم أبو العيون، الشاعر الراحل عبد الرحمن الأبنودي: إلا قولي يا عبدالرحمن هما حبسوك ليه؟

قال له الأبنودي: الراجل اللي اسمه عبدالناصر.. لكن عم إبراهيم لم يتركه يكمل الجملة، نظر إليه ثم أضاف في أسي عظيم: وووه يا عبدالرحمن.. كبرت خلاص ولبست قميص وبنطلون وبتعرف تقول الراجل اللي اسمه جمال عبدالناصر؟!

وووه ياعبدالرحمن.. هو أنت لولا عبدالناصر كنت تلبس اللي أنت لابسه وتقول الكلام اللي بتقوله.. هو مين اللي علمك الكلام ده؟ كان زمانك بتنقي دودة مع عيال عمك في البلد.

يتذكر الخال عبد الرحمن: قاطعني عم إبراهيم بعدها وقد كنت أنا عشقه وهو عشقي، وكنت قد قلت له في لحظتها بعد هذا “الدش البارد” وأنا أشير إلى الجانب الآخر من القناة، حيث خط بارليف وحيث القوات الإسرائيلية المرابطة على طول الجبهة في الخنادق: طب بص على الراية الإسرائيلية قدامك، موش هوه اللي خلاها تاجي هنا.

لكن عم إبراهيم رد في بلاغ مبين: دي راية مش مزروعة يا عبد الرحمن.. دي منكوته نكت وح تتقلع.. عامل لي متعلم وبتقول كلام وأنت مش عارف مين عبدالناصر!

يروي الخال: كان عم إبراهيم أبو العيون يعرف بوعي الفلاح المصري وقتها أن عبدالناصر استثناء في تاريخ الأمة، وكنا برفاهيتنا الفكرية لم نلحظ التغيير الذي حصل في حياته، قبل أن نشاهده اليوم صارخًا، بعدما مات عم إبراهيم من الجوع، وعجز عن أن يزرع، مجرد أن يزرع، أرضه.

كانت علاقة نجيب محفوظ شيخ الروائيين، بثورة 23 يوليو تتراوح ما بين التأييد والحب من جهة، والنقد الشديد بسبب تجاهلها للديمقراطية وللوفد، وميلها إلى الفردية والصراع على السلطة من جهة أخرى. ولكن كيف رسم لنا أديب الحارة المصرية صورة الزعيم جمال عبد الناصر؟

في كتابه “أمام العرش” يقدم لنا أديب نوبل حوارا بين حكام مصر المختلفين وأصوات ضميرهم، ويقوم بمحاكمتهم، وفيه يصف عبد الناصر برمسيس الثاني، فكلاهما “يشع عظمة تملأ الوطن وتتجاوز حدوده”..

بينما يتهمه الملك مينا بأن اهتمامه بالوحدة العربية فاق اهتمامه بالوحدة المصرية، حتى اسم مصر الخالد شطبه بجرة قلم، واضطر العديد من أبناء مصر إلى الهجرة.

أما “أبنوم” أول ثائر من فقراء مصر، فيشهد بأن الفقراء لم ينعموا بالأمان والأمل في عهد كما نعموا في عهد عبد الناصر. ويأخذ عليه إصراره أن تكون ثورته بيضاء على حين كان يجب أن تجري الدماء فيها أنهارا.

وعلى الرغم من نشأة ناصر العسكرية فقد أثبت قدرة فائقة في كثير من المجالات إلا العسكرية، بل لم يكن قائدا ذا شأن بأي حال من الأحوال، كما يقول الملك تحتمس الثالث، الذي رأى أنه كان يجب على ناصر تجنب الحرب وأن يكف عن استفزاز الدول الكبرى.

يعترف سعد زغلول أن الثورة بدأت كانقلاب عسكري إلا أن الشعب باركها ومنحها تأييده، لكنه يوبخ ناصر قائلا: “كان بوسعك أن تجعل من الشعب قاعدتها وأن تقيم حكما ديمقراطيا رشيدا، ولكن اندفاعك المضلل في الطريق الاستبدادي هو المسؤول عن جميع ما حل بحكمك من سلبيات ونكبات”.

بينما ينتقد مصطفى النحاس أسلوب الحكم الذي اعتبره امتدادا لحكم الملك، ويتهمه بإغفال الحرية وحقوق الإنسان، “لا أنكر أنك كنت أمانا للفقراء ولكنك كنت وبالا على أهل الرأي والمثقفين وهم طليعة أبناء الأمة، انهلت عليهم اعتقالا وسجنا وشنقا وقتلا حتى أذللت كرامتهم وأهنت إنسانيتهم ومحقت إيجابيتهم… ليتك تواضعت في طموحك، ليتك عكفت على إصلاح وطنك وفتح نوافذ التقدم له في شتى مجالات الحضارة. إن تنمية القرية المصرية أهم من تبني ثورات العالم”.

وفي النهاية يصدر أوزوريس حكمه على عبد الناصر: “قليلون من قدموا لبلادهم مثلما قدمت من خدمات، وقليلون من أنزلوا بها مثلما أنزلت من إساءات، ولكن بالنسبة لأنك أول من يجلس علي عرشها من أبنائها، وأول من يخص الكادحين برعايته فإننا نسمح لك بالجلوس بين الخالدين لحين انتهاء المحاكمة، وستذهب بعد ذلك إلى محكمتك مؤيدا بتزكية مناسبة”.

كانت علاقة نجيب محفوظ شيخ الروائيين، بثورة 23 يوليو تتراوح ما بين التأييد والحب من جهة، والنقد الشديد بسبب تجاهلها للديمقراطية وللوفد، وميلها إلي الفردية والصراع علي السلطة من جهة أخري. ولكن كيف رسم لنا أديب الحارة المصرية صورة الزعيم جمال عبد الناصر؟

في كتابه “أمام العرش” يقدم لنا أديب نوبل حوارا بين حكام مصر المختلفين وأصوات ضميرهم، ويقوم بمحاكمتهم، وفيه يصف عبد الناصر برمسيس الثاني، فكلاهما “يشع عظمة تملأ الوطن وتتجاوز حدوده”..

بينما يتهمه الملك مينا بأن اهتمامه بالوحدة العربية فاق اهتمامه بالوحدة المصرية، حتي اسم مصر الخالد شطبه بجرة قلم، واضطرت العديد من أبناء مصر إلي الهجرة.

أما “أبنوم” أول ثائر من فقراء مصر، فيشهد بأن الفقراء لم ينعموا بالأمان والأمل في عهد كما نعموا في عهد عبد الناصر. ويأخذ عليه اصراره أن تكون ثورته بيضاء علي حين كان يجب أن تجري الدماء فيها أنهارا.

وعلي الرغم من نشأة ناصر العسكرية فقد أثبت قدرة فائقة في كثير من المجالات إلا العسكرية، بل لم يكن قائدا ذا شأن بأي حال من الأحوال، كما يقول الملك تحتمس الثالث، الذي رأى أنه كان يجب على ناصر تجنب الحرب وأن يكف عن استفزاز الدول الكبري.

يعترف سعد زغلول أن الثورة بدأت كانقلاب عسكري إلا أن الشعب باركها ومنحها تأييده، لكنه يوبخ ناصر قائلا: “كان بوسعك أن تجعل من الشعب قاعدتها وأن تقيم حكما ديمقراطيا رشيدا، ولكن اندفاعك المضلل في الطريق الاستبدادي هو المسئول عن جميع ما حل بحكمك من سلبيات ونكبات”.

بينما ينتقد مصطفى النحاس أسلوب الحكم الذي اعتبره امتدادا لحكم الملك، ويتهمه بإغفال الحرية وحقوق الإنسان، “لا أنكر أنك كنت أمانا للفقراء ولكنك كنت وبالا علي أهل الرأي والمثقفين وهم طليعة أبناء الأمة، انهلت عليهم اعتقالا وسجنا وشنقا وقتلا حتي أذللت كرامتهم وأهنت إنسانيتهم ومحقت إيجابيتهم… ليتك تواضعت في طموحك، ليتك عكفت علي إصلاح وطنك وفتح نوافذ التقدم له في شتي مجالات الحضارة. إن تنمية القرية المصرية أهم من تبني ثورات العالم”.

وفي النهاية يصدر أوزوريس حكمه على عبد الناصر: “قليلون من قدموا لبلادهم مثلما قدمت من خدمات، وقليلون من أنزلوا بها مثلما أنزلت من إساءات، ولكن بالنسبة لأنك أول من يجلس علي عرشها من أبنائها، وأول من يخص الكادحين برعايته فإننا نسمح لك بالجلوس بين الخالدين لحين انتهاء المحاكمة، وستذهب بعد ذلك إلي محكمتك مؤيدا بتزكية مناسبة”.

في رواية “قشتمر” يطلق خصوم عبد الناصر عليه اسما حركيا هو “الفك المفترس”، وفيها نستمع إلى شهادة جيل ثورة 1919 على عبدالناصر، من خلال شلة أصدقاء تتكون من أربعة أشخاص، منهم ثلاثة يعادون الزعيم لأسباب مختلفة؛ فهذا صادق صفوان يعادي الثورة وزعيمها لأسباب اقتصادية. يردد: لست من الاقطاعيين ولكنني من ذوي الأملاك، وقد يأتي دورنا، ألا ترون أن الثورة عداء سافر للناجحين؟!

وبعد هزيمة يونيو، يقول لأصدقائه ساخرا: “أسد علي وفي الحروب نعامة”. وعندما يموت عبد الناصر، يعتبر هذا الخبر “أمتع من شهر العسل”.

بينما يعادي إسماعيل قدري الثورة وعبدالناصر بسبب انتمائه إلى حزب الوفد، فيرى أنه “كان يجب أن يجعلوا من الوفد قاعدة لهم”. وعندما تقع الهزيمة يتساءل: كيف لم يتلاش نظام الحكم حتى الآن؟! لو أن هذا الرجل عميل مأجور ما استطاع أن يفعل بنا أكثر مما فعل. وحين يموت عبدالناصر، يعتبر أنه “هرب في الوقت المناسب تاركا الطوفان لمن يخلفه”.

الصديق الثالث هو حمادة الحلواني، الذي لا تفارقه اللامبالاة، وبعد الهزيمة يتراوح بين المتناقضات، فأحيانا يرثي لحال الوطن، وأحيانا تتملكه الشماتة فيردد: “ألم يقل أنه علمنا العزة والكرامة؟ اشبعوا عزة وكرامة”..!

أما الشاعر طاهر عبيد فهو الوحيد المتحمس لعبدالناصر “صدقوني إن مصر لم تعتل هذه الذروة منذ عصورها المجيدة كما أنها لم تشهد طيلة تاريخها مثل هذا الرجل المعجزة، وأنه لعظيم من يستطيع منكم أن يعلو فوق خسائره الذاتية ليلحق بركب التاريخ في مسيرته الشامخة”.

وعندما تقع الهزيمة يتمنى لو مات قبل أن يعيش تلك اللحظة، ورغم هذا لا يكفر بالبطل. وحين يصل السادات إلى الحكم، يشعر أنه يعيش في عالم كريه لا يحتمل، ويعتبر الحاكم الجديد عميلا لجميع القوى الرجعية في الداخل والخارج.

يزداد الباكون على زمن عبد الناصر بعد رحيله، ليصبح رمزا للآمال الضائعة آمال الفقراء، والمعزولين، كما يقول علوان في رواية “يوم قتل الزعيم”، بل يصبح الرئيس الراحل في هزيمته أعظم من خليفته -السادات- في نصره.

تدور الرواية في الفترة الأخيرة من حكم السادات وتتناول أسرة مصرية متوسطة تتكون من ثلاثة أجيال.. فهذا الجد محتشمي زايد، يأخذ على حفيده تمسكه بعبادة البطل الراحل، ويتساءل: “ألم تحملك الأحداث على الإيمان بالوطن والديمقراطية؟ وما معنى التمسك ببطل مهزوم راحل؟!

ينتمي الجد إلى ثورة 1919 ، أما الحفيد وحبيبته فينتميان إلى زمن عبد الناصر، وعندما تقع الهزيمة، يتهاوى مثلهم الأعلى وينتهي. أما الحبيبة فتصف زمن الزعيم بأنه: “زمن شعارات مقزز. حتى الراحل البطل لم يعف عن ترديد الشعارات. وبين الشعار والحقيقة هوة سقطنا فيها ضائعين”.

آخر الأنبياء

اصطدم الشاعر السوري نزار قباني، بالنظام المصري بعد قصيدته “هوامش على دفتر النكسة”، التي يقول فيها: “لو كنتُ أستطيعُ أن أقابلَ السلطانْ/ قلتُ لهُ: يا سيّدي السلطانْ/ كلابكَ المفترساتُ مزّقت ردائي/ ومخبروكَ دائماً ورائي/ عيونهم ورائي/ أنوفهم ورائي/ أقدامهم ورائي/ كالقدرِ المحتومِ، كالقضاءِ/ يستجوبونَ زوجتي/ ويكتبونَ عندهم/ أسماءَ أصدقائي”.

لكن رحيل الزعيم أصاب الشاعر بحزن عميق، فكتب فيه قصيدة “قتلناك يا آخر الأنبياء”، وفيها يقول: “قتلناكَ../ يا جبلَ الكبرياءْ/ وآخرَ قنديلِ زيتٍ../ يضيءُ لنا في ليالي الشتاءْ/ وآخرَ سيفٍ من القادسيهْ/ قتلناكَ نحنُ بكلتا يدينا/ وقُلنا المنيَّهْ/ لماذا قبلتَ المجيءَ إلينا؟/ فمثلُكَ كانَ كثيراً علينا../ سقيناكَ سُمَّ العروبةِ حتى شبعتْ../ رميناكَ في نارِ عمَّانَ حتى احترقتْ/ أريناكَ غدرَ العروبةِ حتى كفرتْ/ لماذا ظهرتَ بأرضِ النفاقْ../ لماذا ظهرتْ؟/ فنحنُ شعوبٌ من الجاهليهْ”.

وفي ذكراه الأولى كتب شاعر العراق الكبير محمد الجواهري: “أثنى عليك وما الثناء عبادة/ كم أفسد المُتعبّدون ثناء/ لا يعصم المجد الرجال وإنّما/ كان العظيم، المجد والأخطاء/ قد كنت شاخص أمّة نسماتها/ وهجيرها، والصبح والإمساء/ ألقت عليك غياضها ومروجها/ واستودعتك الرمل والصحراء/ كنت ابن أرضك من صميم ترابها/ تعطي الثمار، ولم تكن عنقاء/ تتحضّن السرّاء من أطباعها/ وتلُمّ – رغم طباعك – الضرّاء/ قد كان حولك ألف جار يبتغي/ هدمًا، ووحدك من يريد بناء”.

بينما كتب الشاعر السوداني البارز محمد الفيتوري: “الآن وأنت تنام عميقًا/ تسكن في جنبيك الثورة/ ترتدّ الخطوات/ تعود الخيل مطأطئة من رحلتها/ مغرورقة النظرات/ الآن يقيم الموت سرادقه العالي/ يتدفق كالأمطار على كل الساحات/ الآن يكون الحزن عليك عظيمًا/ والمأساة تدوس على جثث الكلمات/ الآن وهم يبكون/ كأن ملايين الأرحام/ ولدتك/ وأنك عشت ملايين الأعوام”.

وكتب حمد بن خليفة: “يا أمة فجعت بفقد زعيمها/ وقوى الضلال لسلبها تتجمع/ نفذ القضاء ولا مفر لكائن/ حي من الأمر الذي لا يدفع/ لو كان يقبل عن جمال فدية/ لفدته أنفس يعرب والأدمع”..

بينما قال الشاعر الفلسطيني محمود درويش: “نرى صوتك الآن ملء الحناجر/ زوابع تلو زوابع/ نرى صدرك الآن متراسَ ثائر/ ولافتة للشوارع/ نراك/ نراك/ نراك طويلًا كسنبلة فى الصعيد/ جميلًا كمصنع صهر الحديد/ وحُرًّا كنافذة فى قطار بعيد/ ولست نبيًّا../ ولكن ظلّك أخضر”.

لم يكتب الأبنودي قصيدة مدح واحدة في حياة عبد الناصر، ولم يكتب رثاء بعد رحيله، لكنه بعد عقود كتب قصيدة يؤكد فيها أن عبد الناصر لا يزال يعيش في قلوب المصريين رغم كل السنوات التي تبعده عنا.. “مش ناصري ولا كنت ف يوم/ بالذات في زمنه وف حينه/ لكن العفن وفساد القوم/ نسّاني حتى زنازينه.. في سجون عبدالناصر/ إزاي ينسّينا الحاضر/ طعم الأصالة اللي في صوته؟/ يعيش جمال عبدالناصر/ يعيش جمال حتى ف موتُه ما هو مات وعاش عبدالناصر”.

أما الشاعر أحمد فؤاد نجم الذي سجن في عهد ناصر فكتب: “وإحنا نبينا كده/ من ضلعنا نابت/ لا من سماهم وقع/ ولا من مرا شابت/ ولا انخسف له القمر/ ولا النجوم غابت/ أبوه صعيدي وفهم قام طلعه ظابط/ ظبط على قدنا وع المزاج ظابط/ فاجومي من جنسنا/ ما لوش مرا عابت/ فلاح قليل الحيا/ إذا الكلاب سابت/ ولا يطاطيش للعدا/ مهما السهام صابت/ عمل حاجات معجزه و حاجات كتير خابت”.

وتساءل فؤاد حداد: “فين طلتك في الدقايق تسبق المواعيد/ والابتسامة اللي أحلى من السلام بالإيد/ يا معانا في كل فرحة ومعركة وجديد/ أؤمر لي بحقوقي وهدوم الولاد في العيد/ والمجانية ومرايل بيضا والأناشيد/ والصبر ما يغلبهش الذل والتنهيد”.

ربما يعجبك أيضا