على أعتاب 2020.. غيوم الاقتصاد العالمي تعمق “ورطة الرأسمالية”

ولاء عدلان

كتبت – ولاء عدلان

تتجه مؤشرات الاقتصاد العالمي صوب تسجيل أبطأ وتيرة نمو منذ الأزمة المالية العالمية بنهاية هذا العام، وسط تصاعد عدم اليقين المحيط بالتجارة العالمية وزيادة الحواجز الجمركية وبطء وتيرة نمو الاقتصاد الصيني واضطراب الأوضاع السياسية حول العالم، فضلا عن عوامل أخرى تتعلق ببعض الاقتصادات المتقدمة مثل شيخوخة التركيبة الديموغرافية، ورأينا كيف ضغطت هذه العوامل مجتمعة على الاقتصاد الألماني في الربع الثاني لتجره إلى دائرة الانكماش للمرة الأولى منذ عقد كامل من النمو، ما عزز الحديث عن انهيار الرأسمالية واقتصاد السوق الحر حتى  بنسخته الاجتماعية إن جاز التعبير، تلك التي اشتهرت بها المعجزة الألمانية.

 بحسب تقرير صندوق النقد الدولي لآفاق النمو الصادر أخيرا، الاقتصاد العالمي يشهد حالة تباطؤ ستدفع النمو للتراجع إلى مستويات 3%، وهو تراجع خطير عن المعدل البالغ 3.8% في 2017، ومن المتوقع أن يتحسن النمو العالمي تحسنًا طفيفًا في 2020 ليصل إلى 3.4%، غير أن هذا التعافي، خلافا للتباطؤ المتزامن، ليس واسع النطاق كما أنه محفوف بالمخاطر.

وتشير التوقعات إلى تباطؤ وتيرة النمو في الاقتصادات المتقدمة إلى 1.7% في 2019 و2020، بينما يتوقع أن تشهد اقتصادات الأسواق الصاعدة والاقتصادات النامية انتعاشًا في النمو من 3.9% في 2019 إلى 4.6% في 2020، وحوالي نصف هذا الانتعاش مدفوع بحالات تعافي ضئيلة أو فترات ركود أخف وطأة، ما يعني أن شبح التباطؤ سيظل بالأفق القريب.

أسباب التباطؤ

– تراجع نمو التجارة العالمية إلى 1% خلال النصف الأول من 2019، وسط توقعات باستقراره بنهاية العام عند 1.2%، بفارق كبير عن تقديرات منظمة التجارة العالمية السابقة عند 2.6%، وعن معدلات 2018 ” 3.6%”.

– زيادة الحواجز التجارية والتعريفات الجمركية وعدم اليقين المحيط برغبة واشنطن وبكين في إنهاء حربهما التجارية المستعرة منذ أكثر من 18 شهرا.

– انكماش صناعة السيارات نتيجة لحروب التعريفات الجمركية والارتباك الناجم عن المعايير الجديدة لانبعاثات السيارات في منطقة اليورو والصين.

– المخاطر المحيطة بخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي .

– ارتفاع سقف الدين العالمي إلى 255 تريليون دولار.

يبدو أن العام 2020 سيحمل هذه الأسباب معه أيضا وبدون معالجة حقيقية، لكن الخبر السار هنا أن التباطؤ الذي نشهده لن يتحول إلى ركود اقتصادي في المدى القريب، فوفق توقعات صندوق النقد، الركود العالمي غير وارد، وأحدث تقاير مجموعة “باركليز” استبعدت أيضا دخول الاقتصاد العالمي إلى دائرة الركود في المدى القريب، في ضوء استمرار نمو الإنفاق الاستهلاكي وقدرته على دعم الاقتصاد العالمي فعلى سبيل المثال في أمريكا – أكبر اقتصاد بالعالم- يسهم هذا الإنفاق بنحو 70% من حجم الاقتصاد وسط تراجع معدلات البطالة ونمو الأجور وتخفيضات الضرائب.

لحظة حاسمة لـ”الرأسمالية”

غيتا غوبيناث مديرة إدارة البحوث بصندوق النقد الدولي تقول -في ورقة عمل صدرت أبريل الماضي تحت عنوان “الاقتصاد العالمي أمام لحظة حاسمة”- في أي لحظة، قد ينحرف تعافي النمو العالمي المتوقع عن مساره تحت وطأة استمرار أسباب التباطؤ لا سيما في الاقتصادات المعتمدة على الصادرات والاقتصادات المثقلة بالديون، وفي تلك الحالة، سيحتاج صناع السياسات إلى التدخل لإنقاذ الوضع القائم، عبر تقديم دفعة تنشيطية متزامنة لكل الاقتصادات تتوافق مع ظروف كل بلد، على أن تكون السياسة النقدية التيسيرية عنصرًا مكملا، كما ينبغي المفاضلة بين دعم الطلب وحماية الإنفاق الاجتماعي وضمان بقاء الدين العام على مسار يمكن الاستمرار في تحمله.

على الرغم من مرور عقد كامل على الأزمة المالية العالمية، إلا أن الخبراء لديهم اعتقاد بأن الأنظمة الرأسمالية حول العالم لم تقم بتصحيح أوضاعها بشكل كامل، وبعض آثار ومسببات هذه الأزمة لا تزال حاضرة بقوة لا سيما في عالم الائتمان والشركات المالية، فعام بعد الآخر نرى كيف تغرق الدول الكبرى في الديون وكذلك الشركات العملاقة وهو نذير خطر.. يعيد للأذهان الجدل حول فشل الرأسمالية.

الكاتب أولريش شيفر -في كتابه الصادر تحت عنوان “انهيار الرأسمالية أسباب إخفاق اقتصاد السوق المحررة من القيود”- أكد أن أزمة الـ2008 كشفت فشل شعارات اقتصاد السوق المحررة من القيود، حيث لم تتمكن الأسواق من استعادة قوتها إلا بتدخل قوي من الدول التي اضطرت إلى ضمان مدخرات المواطنين وتقديم خطط لإنقاذ الاقتصاد تضمنت دعم المصارف التي كانت على وشك الإفلاس واللحاق بالشهير “ليمان براذرز” .

الاشتراكية تلوح بالأفق

عودة الدور القوي للدولة ربما باتت ضرورة ملحة لإصلاح ثغرات اقتصاد السوق الحر الذي يعطي أهمية لمعدلات النمو وتراكم الثروات على حساب استقرار المجتماعات، لذالك كان من المنطقي أن نشهد في أوروبا هذا العام تصويتًا عقابيًا لصالح الشعبويين الساخطين على الرأسمالية، وأن نسمع ببرامج انتخابية ذات نفس اشتراكي داخل بلدان اعتبرت الاشتراكية بمثابة عدو لدود.

ففي بريطانيا التي وضعت الاشتراكية في خانة العدو منذ عهد تاتشر، تعهد حزب العمال في حملته الانتخابية بتنفيذ خطة تأميم واسعة تشمل المرافق العامة والبنى التحتية والبريد، معتبرًا أن الخصخصة -أحد ركائز اقتصاد السوق الحر، التي قادها المحافظون منذ عقود- شكلت كارثة على الاقتصاد، كما وعد بزيادة الضرائب على الشركات والطبقات الأكثر ثراء، وزيادة الأجور وتعزيز حقوق النقابات العمالية.

أما في أمريكا ومع احتدام المنافسة بين “الجمهوريين” والديمقراطيين” استعدادا لانتخابات 2020، فعودة الاشتراكية إلى دائرة الضوء كانت قوية، للدرجة التي دفعت العضو السابق في الكونجرس تيم هولسكامب يقول -في مؤتمر للمحافظين مارس الماضي- إن السباق الرئاسي سيكون بمثابة معركة بين الرأسمالية والاشتراكية.

في المؤتمر نفسه قال نائب الرئيس مايك بنس: تحت ستار الرعاية الصحية للجميع و”الخطة الخضراء”، يعتمد الديمقراطيون مفاهيم اقتصادية بالية أسهمت في إفقار الأمم وحدّت من حريات الملايين خلال القرن الماضي، وعلى الناخبين الاختيار بين الحرية والاشتراكية، بين المسؤولية الفردية والاعتماد على الحكومة، مذكرًا هنا بأن اقتصاد فنزويلا ينهار حاليًا بفعل السياسيات الاشتراكية.

الرئيس دونالد ترامب قال، أمام حشود من مناصريه في أبريل: نحن نؤمن بالحلم الأمريكي، لا بالكابوس الاشتراكي، ولنتذكر ما يحدث في فنزويلا، مضيفا: المستقبل ليس للذين يؤمنون بالاشتراكية، بل هو للذين يؤمنون بالحرية، مشددًا على أن بلاده لن تكون يومًا بلدًا اشتراكيًا.

كلمات ترامب هذه كانت موجهة في الأساس إلى السيناتور اليساري بيرني ساندرز والمحامية إليزابيث وارن، باعتبارهما أبرز الوجوه الاشتراكية بين مرشحي الديمقراطيين، فالأول يصف نفسه بالديمقراطي الاشتراكي وأطلق حملته داعيا إلى ثورة سياسية ضد ترامب، وتأسيس اقتصاد يخدم الجميع ويكافح احتكار الشركات العملاقة، أما الثانية فكانت أوضح فدعت إلى الوقوف بوجه جشع شركات “وول ستريت” وزيادة الضرائب عليها وعلى تعاملاتها المالية وزيادة الرسوم على أسواق الأسهم، كما تدعو إلى فرض ضريبة 35٪ كحد أدنى على أرباح الشركات الأجنبية ورسوم على البنوك الكبرى، في خطوات تسعى من خلالها إلى تضييق الفجوة بين الأثرياء والفقراء وزيادة الحد الأدنى للإجور، ودعم برنامج للرعاية الصحية للجميع ودعم حقوق العمال.

على الرغم من الوعود البراقة للبرامج الاشتراكية -إن جاز التعبير- إلا أن استطلاعات الرأي في أمريكا تؤكد ارتفاع حظوظ  ترامب وجو بايدن، وفي بريطانيا شهدنا كيف مٌني حزب “العمال” بأسوأ هزيمة على الإطلاق منذ الحرب العالمية الثانية، لعل الاقتراحات التي ختم بها أولريش شيفر كتابه تبقى الأكثر منطقية هنا.. “الاقتصاد الناجح في حاجة إلى دولة لا تتدخل بقوة في العموم، على أن تكون صارمة للغاية وقت الأزمات فقط، ولحماية الاقتصاد العالمي من الانزلاق نحو الهاوية، يجب إخضاع المصارف لتوجيه حكومي صارم، ووقف المتاجرة بالبضائع المالية عالية المخاطرة، وقيام سلطة عالمية بالرقابة على أسواق المال، وإزالة الواحات الضريبية، وزيادة الضرائب على الأغنياء وتخفيفها عن الطبقة الوسطى”.

ربما يعجبك أيضا