فورين أفيرز | الصين لا تحاول الهيمنة على الشرق الأوسط

آية سيد

ترجمة: آية سيد

شهدت السنوات القليلة الماضية نقلة نوعية في السياسة الخارجية الأمريكية. لم يعد الشرق الأوسط على رأس أولويات واشنطن، التي خفّضت بشكل كبير عدد القوات الأمريكية في العراق، وتعهد الرئيس جو بايدن بالتركيز على عدد صغير فقط من الأهداف في المنطقة. ومع بدء هذا التخفيض، حذر محللون وصحفيون وقادة منتخبون من أن الصين مستعدة لأخذ مكان الولايات المتحدة في جزء من العالم كانت واشنطن مهيمنة عليه لزمن طويل. وفقًا لهذا الرأي، في الشرق الأوسط كما في الأماكن الأخرى، يجب أن تواجه الولايات المتحدة القوة العسكرية، والنفوذ الاقتصادي، والأيديولوجية الصينية في كل منعطف، خشية أن تأخذ بكين مكان واشنطن بصفتها القوة العظمى العالمية البارزة.

في الوقت الذي تنسحب الولايات المتحدة من الشرق الأوسط، يعتقد البعض في مجتمع السياسة الخارجية الأمريكي أن المنطقة ستصبح من ضمن الأماكن التي ستشهد ما يُعرف بمنافسة القوى العظمى بين واشنطن وبكين. يستشهد هؤلاء المحللون باستثمارات الصين في المنطقة، وصفقاتها التجارية الثنائية مع القوى الإقليمية، وقاعدتها العسكرية في جيبوتي، وعلاقات بكين الوثيقة مع إيران كأدلة على التهديدات الجديدة والخطيرة لأمن الولايات المتحدة.

إلا أن هذه الادعاءات ترتكز على أدلة واهية. إن التصورات الأمريكية حول دور الصين في الشرق الأوسط تشكلها تجربة واشنطن هناك – التي تحددها التحالفات العسكرية والتدخلات المسلحة – أكثر من السلوك الصيني الفعلي. في الواقع، تواجد بكين المتزايد لا تحفزه الرغبة في الهيمنة بقدر ما تحفزه المخاوف الاقتصادية والسياسة الداخلية. إن اعتمادها على الوقود الأحفوري، مصحوبًا برغبة في عزل نفسها عن الازدراء الإقليمي فيما يخص معاملتها لمسلمي الأويغور، يدفع معظم مساعيها.

لقد حافظت بكين على علاقات مع الدول التي تعاني من الصراع الداخلي والخارجي على مدار العقدين الماضيين – مثل أفغانستان وميانمار والسودان – ومن المرجح أن تواصل إظهار قدر كبير من التسامح مع العنف والتقلبات في الشرق الأوسط. ربما ينتهي الأمر بأن تصبح الصين القوة المهيمنة في المنطقة، لكن إذا حدث هذا، لن يكون بسبب الخطط الاستراتيجية الكبرى لبكين بقدر ما هو بسبب انفصال واشنطن البطيء والثابت عن الشرق الأوسط.

إنه الاقتصاد

على مدار العِقدين الماضيين، كرّست بكين قدرًا كبيرًا من الوقت والموارد لبناء علاقات دبلوماسية وتجارية مع كل اللاعبين الرئيسيين في الشرق الأوسط. القليل من الدول الأخرى تستطيع التفاخر بعلاقات جيدة مع إيران، وإسرائيل، والسعودية، ودول الخليج، وهذا التوازن يظل عنصرًا حاسمًا في استراتيجية بكين الإقليمية. عندما قام شي جين بينج بأول زيارة له إلى المنطقة كرئيس لجمهورية الصين الشعبية في يناير 2016، توقف أولًا في السعودية، حيث وقّع على اتفاقية شراكة استراتيجية شاملة بين بكين والرياض، ثم سافر مباشرة إلى طهران وفعل الشيء نفسه مع إيران.

هذه الخطوات دفعت الكثيرين لاستنتاج أن بكين تضمر طموحات إقليمية كبرى. وبحسب روايتهم، موقع الشرق الأوسط المميز كمحور لوجيستي، وموّرد للوقود، ونقطة اختناق محتملة للتجارة العالمية يجعل المنطقة مهمة لهدف شي بإعادة توجيه الحكم العالمي بعيدًا عن الولايات المتحدة. لقد اتبعت الصين سياسة خارجية نشطة على نحو متزايد في السنوات الأخيرة. تستعرض الصين الآن عضلاتها في شرق آسيا وما ورائها: إنها تتجاهل حكم محكمة دولية بخصوص مطالبها في بحر الصين الجنوبي، وتخرق بروتوكولات الطيران فوق مضيق تايوان، وتفرض رسومًا جمركية على أستراليا وكوريا الجنوبية ردًّا على إهانات متصورة مثل تحقيق كانبرا في منشأ فيروس كورونا المستجد ونشر سيول لنظام معزز مضاد للصواريخ، وتضايق منظمات الأمم المتحدة في قضايا تتراوح من تفشي كوفيد-19 إلى مخاوف حقوق الإنسان.

غير أنه من الخطأ أن نضع افتراضات حول نهج بكين تجاه الشرق الأوسط بناءً على سلوكها الجازم في شرق آسيا وغيرها من المناطق. فعلى الرغم من أن قادة الصين ربما يسعون للتفوق على الولايات المتحدة في مجالات كثيرة، لا توجد أدلة على أن هذه الجهود تمتد إلى الشرق الأوسط. نظرًا للمغامرات العسكرية المأساوية الأمريكية في أفغانستان والعراق، وغيرها من الأماكن، استنتجت النخبة السياسية الصينية منذ زمن طويل أن سياسات واشنطن الإقليمية استنزفت عظمتها، وحدت من نفوذها العالمي، ووضعتها على طريق التراجع النسبي. بكين لا تملك رغبة في أن تحذو حذوها.

إن ما يحرك تواجد الصين في الشرق الأوسط حقًّا هي التنمية الاقتصادية السريعة للبلاد. في الفترة بين 1990 و2009، زادت واردات الصين من النفط الشرق أوسطي عشرة أضعاف. وفي 2019-2020، زوّدت دول الخليج حوالي 40% من واردات النفط الصينية، وجاء 16% منها من السعودية وحدها – ما يجعلها أكبر مزوّد للنفط الخام للصين. يقع العراق، حيث أنفقت الولايات المتحدة تريليونات الدولارات لتغيير النظام، ضمن أكبر خمسة مزودي نفط للصين، وتقع إيران في المرتبة الثامنة. ترى بكين موارد الطاقة في المنطقة ضرورية لتنمية الصين المتواصلة وبالتبعية، نفوذها العالمي.

إن علاقة الصين الاقتصادية مع الشرق الأوسط لا تقتصر على الطاقة؛ توسّع الدولة علاقاتها أيضًا عبر مبادرة الحزام والطريق. جزئيًّا بفضل مبادرة الحزام والطريق، أصبحت الصين الآن أكبر مستثمر في المنطقة وأكبر شريك تجاري لـ11 دولة شرق أوسطية. لقد موّلت إنشاء موانئ ومجمعات صناعية في مصر، وعمان والسعودية والإمارات وجيبوتي، حيث تحتفظ بكين بقاعدتها العسكرية الخارجية الوحيدة. تقع هذه المرافق على طول نقاط اختناق حيوية تربط المنطقة ببقية العالم: الخليج العربي، وخليج عمان، والبحر الأحمر، ومضيق باب المندب، وقناة السويس. يعتمد نجاح مبادرة الحزام والطريق على إبقاء هذه الشرايين مفتوحة. يحتاج الشخص فقط لتذكر حادثة إيفر جيفن في قناة السويس والتداعيات الاقتصادية اللاحقة لكي يفهم لماذا أعطى القادة الصينيون أولوية للشرق الأوسط وممراته المائية.

تفسر المتطلبات الاقتصادية للصين في الشرق الأوسط، إلى جانب الدبلوماسية المطلوبة للحفاظ عليها، قدرًا كبيرًا من تواصلها في الفترة الأخيرة مع المنطقة. في بداية 2021، على سبيل المثال، عقدت بكين اتفاقية “شراكة استراتيجية” مع طهران. أثار الاتفاق الممتد لـ25 عامًا، الذي تضمن وعدًا باستثمارات صينية بقيمة 400 مليار دولار مقابل إمدادات نفطية بأسعار مخفضة وتعاون أمني متزايد، الدهشة في واشنطن. بالنسبة إلى الكثيرين، بدا الأمر وكأن بكين تحاول تقويض العقوبات الأمريكية التي تهدف للضغط على طهران لتبتعد عن سياستها الخارجية العدوانية والتطوير النووي.

إلا أنه في الوقت نفسه، كان اتفاق بكين مع إيران انعكاسًا مفهومًا للمصالح الاقتصادية والدبلوماسية للصين. نظرًا لمكانة إيران كواحدة من مزودي النفط الرئيسيين للصين، تمتلك بكين مصلحة في منع النظام الإيراني من الانهيار تحت وطأة الضغط الاقتصادي والدبلوماسي الأمريكي. يحرص قادة الصين أيضًا على الحفاظ على وضع إيران في المنطقة – لإبقاء الولايات المتحدة مشتتة بالتطورات في الخليج العربي وبعيدة عن شرق آسيا.

شئون داخلية

لكن السياسات الصينية لا تدور فقط حول النفط. ففي النهاية، استخدمت الصين بنجاح مزيجًا من الدبلوماسية، والاستثمارات الجديدة، وتنويع السوق لتلبية الطلب المحلي المتزايد على الوقود الأحفوري. والنفط الخام من الولايات المتحدة، والغاز الطبيعي من أستراليا، واستخراج الفحم المحلي جميعهم يكملون الواردات الشرق أوسطية المتزايدة للصين. سوف تعوض الاستثمارات في الطاقة المتجددة بعض من اعتماد الدولة على الهيدروكربونات.

لذلك بدلًا من رؤية الشرق الأوسط كمصدر للطاقة فقط، تعتبر الصين علاقاتها هناك سياسة تأمين ضد تهديد داخلي مختلف تمامًا: حركة انفصالية بين الأويغور المسلمين في منطقة شينجيانج المستقلة ذاتيًّا. بدأت بكين حملة القمع الوحشية ضد سكان الأويغور في أعقاب هجمات سبتمبر 2001 الإرهابية في الولايات المتحدة وصعّدت هذه الحملة عقب سلسلة من الهجمات التي نفذها انفصاليون أويغور في الصين ودول مجاورة في 2014 و2015. صرّح شي في 2019 أن “أي أحد يحاول فصل أية منطقة عن الصين سوف يتم سحقه”. خلصت إدارتا ترامب وبايدن إلى أن قمع بكين الوحشي للأويغور – الذي يشمل السجن التعسفي، والتعقيم القسري، والاغتصاب، والتعذيب، والعمل الجبري، والقيود الصارمة على حرية الأديان – يشكّل جريمة ضد الإنسانية وإبادة جماعية.

لقد أمل القادة الصينيون طويلًا في أن تنمية علاقات أوثق مع أنظمة الشرق الأوسط وآسيا الوسطى، قد تمنع الدعم الخارجي للانفصاليين الأويغور وتخنق الشبكات الإسلاموية العابرة للحدود. وبالرغم من ازدراء واشنطن، يبدو أن تواصل بكين مع الشرق الأوسط ينجح. عبر الدبلوماسية المنتظمة، ومشتريات الهيدروكربون، والاستثمارات الضخمة، نجحت بكين في ثني الحكومات والمنظمات الدينية في الدول ذات الأغلبية المسلمة عن تقديم الدعم المادي والمعنوي لشعب الأويغور – أو حتى انتقاد الخطوات الصارمة التي اتخذتها بكين ضدهم. تجاهلت الكثير من تلك الحكومات والمنظمات الحملات القمعية بوصفها شأن داخلي بحت.

على أهبة الاستعداد

إن حقيقة أن سياسات الصين في الشرق الأوسط تنبع في الغالب من اعتبارات اقتصادية وسياسية داخلية لا تعني أن واشنطن لا ينبغي عليها القلق من سلوك بكين في المنطقة. تظل القيادة الصينية ملتزمة بتحديث الجيش ومنصات استعراض القوة التي قد تؤثر على الشرق الأوسط.

ومن الواضح أن بكين ليست مقاومة للعمل العسكري في الشرق الأوسط. منذ تأسيسها في 1949، خاضت الجمهورية الشعبية صراعات مسلحة مع كل جيرانها تقريبًا، من الحرب الكورية في 1950 إلى الاشتباكات الحدودية الأخيرة مع الهند. إن نشر بكين للمعدات العسكرية في بحر الصين الجنوبي، وبحر الصين الشرقي، ومضيق تايوان يظل سببًا للقلق، تمامًا مثل محاولات بكين لتقويض الأعراف والمؤسسات العالمية.

من الواضح أن الولايات المتحدة والصين تمتلكان مصالح مختلفة في الشرق الأوسط، لكن الاستنتاج أن بكين تريد حل محل واشنطن في المنطقة لا تدعمه الأدلة المتاحة. سوف تسعى القيادة الصينية وراء أهدافها بصرف النظر عن رغبات واشنطن. في ظل هذه الظروف، من المستبعد أن يسعى الصينيون للصراع، حيث يفضلون بناء علاقات مع مجموعة من الدول في المنطقة لكي يضمنوا وصولهم إلى النفط والأسواق. والنتيجة ستكون قدرًا كبيرًا من المناورات مع الولايات المتحدة من أجل النفوذ، بينما تناور القوى الإقليمية بين واشنطن وبكين على أمل تجنب الاضطرار إلى الاختيار بينهما. إلى الحد الذي يظل قادة الشرق الأوسط ميالين إلى واشنطن، سوف تحتفظ الولايات المتحدة باليد العليا في هذه المنافسة. مع هذا، إذا بدأ تقليص عدد القوات الأمريكية وبدا وكأنه انسحاب أمريكي من المنطقة، ربما يبدأ أولئك القادة في الانجراف بعيدًا، وفي تلك الحالة ربما ينتهي الحال بأن تصبح الصين القوة المهيمنة في الشرق الأوسط بالرغم من غياب النية الواضحة لفعل ذلك.

للاطلاع على الرابط الأصلي .. اضغط هنا

ربما يعجبك أيضا