فوزين أفيرز| لماذا سيستمر تباطؤ سلاسل التوريد؟

هدى اسماعيل

ترجمة – بسام عباس

سلاسل التوريد العالمية في مأزق. تقبع العشرات من السفن المحملة بالحاويات قبالة شواطئ أماكن بعيدة مثل لوس أنجلوس وشنغهاي وروتردام، حيث تلاشت آمال أرباح الخريف بالحديث عن الاختناقات ومخاطر التراجع، كما أدت الاضطرابات والنقص إلى قفزات كبيرة في الأسعار؛ ما بدوره أدى إلى ارتفاع معدلات التضخم في الولايات المتحدة إلى أعلى مستوياتها في ثلاثة عقود.

ومع ذلك، فبعد مرور عامين تقريبًا على انتشار جائحة كورونا عالميًّا، نجت سلاسل التوريد الدولية من صدمات السوق بشكل أفضل مما كان متوقعًا. لقد تكيفت وتلاءمت في بعض النواحي، ولكنها استمرت في الغالب كما كانت من قبل.

ومع ذلك، فإن عددًا متزايدًا من السياسات الحكومية يهدّد بتوقف سلاسل التوريد الدولية وبيئة الأعمال العالمية على نطاق أوسع؛ إذ تقوم دولة بعد دولة بإعادة تشكيل المشهد التجاري بمزيج من اللوائح الجديدة والحواجز أمام التجارة، غالبًا بذريعة اتباع شكل أكثر قوة من السياسة الصناعية، وغالبًا ما يكون الدافع وراء هذه التحركات السياسية جديرًا بالتقدير والثناء: كالحد من انبعاثات الكربون، أو خلق فرص جديدة للعمال. ولكن في النهاية، سينتهي عدد من هذه السياسات بنتائج عكسية؛ حيث ستعمل تعريفات الألواح الشمسية وقواعد المحتوى المحلي على الإعفاءات الضريبية للسيارات الكهربائية، على سبيل المثال، على إبطاء التحول الأخضر، كما ستؤدي رسوم الاستيراد وضوابط التصدير إلى تدمير الوظائف ذات الأجر الجيد الموجهة للتصدير.

لا  تلوموا الوباء فقط!

من المؤكد أن بعض حالات عدم التطابق الاقتصادي والتجاري الحالية ناجمة عن عمليات إغلاق ناجمة عن الوباء. وكان إعادة الافتتاح العالمي بطيئًا ومتقطعًا، ومع ظهور متغيرات جديدة، أدت انتكاسات السياسة الصحية إلى تفاقمها بسبب البروتوكولات التي تستغرق وقتًا طويلاً، وإطلاق اللقاحات غير المترابط؛ ما زاد من صعوبة وصول السلع إلى السوق. كما أن نقص العمالة يمثل عاملًا آخر يجعل من الصعب على الأعمال التجارية العودة إلى طبيعتها. وبعضها يرتبط ارتباطًا مباشرًا بجائحة كورونا، بينما كان البعض الآخر – نتيجة لملايين العمال الذين يتخذون خيارات حياتية مختلفة تاركين حالة عدم الاستقرار في قطاع النقل بالشاحنات من أجل وظيفة يومية – أكثر استقرارًا ثباتًا. وفي حين أن النقل بالشاحنات واجه نقصًا لسنوات، فإن هذه المخارج المهنية هي أحد الأسباب المهمة التي تجعل الولايات المتحدة تواجه حاليًا عجزًا قياسيًا يبلغ 80 ألف سائق، وفقًا لتقديرات جمعية النقل بالشاحنات الأمريكية.

وعلى رأس ضغوط العرض، كان هناك ارتفاع في طلب المستهلكين، خاصة في الولايات المتحدة. وعلى عكس فترات الركود السابقة، لم يتوقف الأمريكيون عن الشراء عندما تسبب الوباء في انهيار الاقتصاد. كذلك فقد أنقذت القروض المقدمة من برنامج حماية الراتب الفيدرالي مئات الآلاف من الشركات وملايين الوظائف، ونحو 400 مليار دولار من شيكات التحفيز الحكومية أنقذت الحسابات المصرفية الفردية. وزاد متوسط رصيد الحساب الجاري الأمريكي بعدة مئات من الدولارات.

ومع التحول إلى العمل من المنزل، جرى تصميم العديد من أجهزة الكمبيوتر الجديدة والملابس المريحة ومعدات الصالة الرياضية وأدوات المطبخ ومواد البناء لتجميل محيطهم. بشكل عام، اشترى المستهلكون الأمريكيون ما يقرب من تريليون دولار من البضائع في عام 2021 مقارنةً بأوقات ما قبل الجائحة. كان من شأن هذا الارتفاع في المنتجات المادية أن تختبر سلاسل التوريد حتى في البيئة الاقتصادية العادية.

وفي أعقاب هذه الضغوط والصدمات مجتمعة، ارتفعت التكاليف اللوجستية، واضطر الكثيرون إلى الانتظار لفترة أطول للحصول على الواردات والسلع النهائية من الخارج. ولكن معظم الأرفف، على الأقل في الولايات المتحدة، لم تبق فارغة لفترة طويلة. أصبحت الشركات مبدعة عندما ارتفعت تكاليف الشحن بشكل كبير، حيث قامت بتقديم الطلبات مباشرة مع المصانع لاستبعاد الوسطاء أو السيطرة على سفن الحاويات والطائرات الخاصة بها لضمان التسليم في الوقت المناسب.

 فيما استثمر مشغلو الخدمات اللوجستية في التقنيات باستخدام الخوارزميات والذكاء الاصطناعي للعثور على مسارات توصيل أكثر كفاءة، وقد تعاملت أكبر موانئ الولايات المتحدة مع حاويات أكثر من أي وقت مضى حتى عندما واجهت تراكمًا متزايدًا، وقامت العديد من الشركات بتكييف الممارسات التشغيلية في الوقت المناسب من خلال توسيع الطلبات وتخزين السلع وتكرار الموردين للحفاظ على استمرار الوصول والإمدادات. في النهاية، أثبتت سلاسل التوريد الدولية أنها أكثر مرونة في مواجهة قيود العرض غير المتوقعة والزيادات المفاجئة في الطلب مما كان يعتقد معظم المحللين أنه ممكن.

داخليًّا وخارجيًّا

يرجح أن تؤدي عودة السياسة الصناعية إلى تحولات هيكلية في طريقة صنع الأشياء وتسليمها حول العالم، إذ إن تصرفات الحكومات، وليس الآثار الوقتية للوباء، هي التي يمكن أن تغير بشكل دائم كيفية صنع البضائع وطرحها في السوق.

من جانبها، تحاول الحكومات بشكل متزايد التأثير بشكل مباشر على الأسواق والصناعات وحتى أنشطة الشركات الفردية. ولدى المسؤولين أسباب متعددة للقيام بذلك، فالحكومات في جميع أنحاء العالم تستخدم أدوات السياسة لمكافحة ارتفاع درجة حرارة المناخ، وتطبق جميع أنواع الإعانات والحوافز والضرائب لتسريع التحول الأخضر. بينما تعمل حكومات أخرى على تعزيز النظم الصحية وتوسيع المخزونات الطبية العامة، وتأمين الوصول إلى اللقاحات والأدوية الحيوية والأجهزة الطبية لحماية سكانها في مواجهة التهديدات الصحية الحالية والمستقبلية، فيما يستخدم البعض سياسة (العصا والجزرة) لحماية حقوق الإنسان من خلال حظر الواردات المصنوعة من العمل الجبري أو في المصانع دون حماية للعمال أو دفع أجور كافية. ويضيف الكثيرون أدوات اقتصادية عامة إلى حافظة السياسات المستخدمة لتعزيز الأمن القومي.

وبالطبع لم تختف الحمائية القديمة أيضًا. حيث ما زال صانعو السياسات يشكلون الأسواق لمواصلة الحفاظ على ميزة اقتصادية تنافسية لشركاتهم وصناعاتهم أو اكتسابها. وعلى الرغم من أن هذه الإجراءات تأتي غالبًا بدوافع صادقة لإبطاء تغير المناخ، أو حماية الضعفاء، أو تكافؤ الفرص العالمية، فإن هذه الأدوات الاقتصادية هي أيضًا أسلحة مفيدة بين المتنافسين الجيوسياسيين.

كانت الحكومات حريصة بشكل خاص على تشكيل إنتاج أشباه الموصلات، وقد قيل الكثير عن النقص الحقيقي في أشباه الموصلات في جميع أنحاء العالم، خاصةً بالنسبة للدوائر العادية التي تدخل في صناعة السيارات، وأجهزة الألعاب، والغسالات، وأجهزة الميكروويف. ويعكس النقص جزئيًّا الانفجار الناجم عن الوباء في الطلب على أجهزة الكمبيوتر المحمولة والهواتف والأجهزة المنزلية. المآزق التي تواجه صانعي السيارات لها علاقة كبيرة بإلغاء الشركات لصفقاتها التجارية في ربيع عام 2020، على افتراض أنه في حالة الركود الناتج عن جائحة كورونا، سينخفض الطلب على المركبات، وهو ما لم يحدث، كما نعلم الآن.

لكن السياسات الحكومية كانت تعمل على تشكيل سلاسل التوريد العالمية لأشباه الموصلات وإعادة تشكيلها قبل ظهور جائحة كورونا بفترة طويلة. فعلى مدار سنوات، دعمت الصين واليابان وكوريا الجنوبية وتايوان البحث المحلي والتطوير وتصنيع أشباه الموصلات، وغالبًا ما عوضت جزءًا كبيرًا من هذه التكاليف، وذلك وفقًا لجمعية صناعة أشباه الموصلات، وقد ساعدت هذه النفقات العامة على ترسيخ الأدوار المركزية لتلك الدول في سلاسل التوريد الدولية لأشباه الموصلات والإلكترونيات.

وفي عام 2018، أعادت الحكومة الأمريكية رسم ملامح الصناعة العالمية، أولاً من خلال فرض رسوم جمركية بنسبة 25٪ على أشباه الموصلات الصينية، وبعد ذلك بعام، من خلال حظر معظم صادرات آلات أشباه الموصلات وأشباه الموصلات إلى الصين. وقد أدت خطوات السياسة هذه إلى تعطيل تجارة أشباه الموصلات وتقليص الإنتاج المستقبلي، وخلق ندرة وقلب سلاسل التوريد التصنيعية لجميع أنواع الإلكترونيات.

ومما لا يثير الدهشة، أن تلك التحركات أثارت ردود فعل انتقامية؛ حيث أدت إلى زيادة الصين لإنتاجها المحلي، باستثمار عشرات المليارات من الدولارات لتقليل اعتمادها على الرقائق والمعدات الأجنبية. وفي الوقت نفسه، تعمل الحكومات في الدول الأوروبية وإسرائيل واليابان وكوريا الجنوبية والولايات المتحدة على توسيع تمويلها لصناعة الرقائق، على أمل جذب مصنعي أشباه الموصلات إلى بلادهم.

أثبتت زيادة استخدام وتصعيد سياسة (العصا والجزرة) – المصممة للمخاوف الاقتصادية والتكنولوجية والأمنية الوطنية – أنها أكثر أهمية في إعادة تشكيل صناعة أشباه الموصلات العالمية من النقص المرتبط بالوباء. في النهاية، من المرجح أن تؤدي مشاركة الحكومة إلى زيادة التقلبات، لا إلى تقليلها في إمدادات وأسعار أشباه الموصلات العالمية، حيث تتجاهل الاستثمارات العامة إشارات السوق، وسينتهي الأمر بتحمل دافعي الضرائب، وليس المساهمين، الكثير من التكلفة.

في أفضل الحالات، ستؤدي خطوات السياسة هذه إلى إبطاء الاحتباس الحراري ونشر العدالة الاجتماعية وتعزيز أهداف الأمن القومي والمرونة الاقتصادية. ومع ذلك، في كثير من الدول الأخرى، سترفع التكاليف، ويتباطأ الابتكار، ويتحول العبء المالي ليقع على كاهل المستهلكين ودافعي الضرائب.

ولتجنب التسبب في مزيد من الأضرار، يجب على الحكومات أن تقتصد في استخدامها للسياسات الصناعية والأكثر اتساعًا في تدخلاتها الاقتصادية، ويجب أن تركز أغلب جهودها على التحسينات الاقتصادية، مثل تحديث البنية التحتية والتعليم والرعاية الصحية والدعم الاجتماعي. ويشمل ذلك تمويل البحث والتطوير الأساسيين ووضع معايير عالمية تحدد أساسيات العمليات الصناعية والبروتوكولات والمنتجات. وينطوي أيضًا على إنشاء وتنسيق مجموعة أكثر شمولاً عالميًا من القواعد الأساسية التجارية لتلبية الأهداف البيئية والاجتماعية وأهداف الحوكمة. ويمكن أن تجعل هذه الجهود سلاسل التوريد أكثر كفاءة ومكرونة، والدول أكثر أمانًا وازدهارًا.

للاطلاع على الرابط الأصلي .. اضغط هنا

ربما يعجبك أيضا