نحو التنمية (2).. اليابان من الدمار إلى ما بعد الحداثة

هيثم البشلاوي

كتب – هيثم البشلاوي

100 مليون نسمة يعيشون في رقعة من الأرض لا تتجاوز مساحتها 380 ألف كيلو متر مربع. تغطي الجبال البركانية نحو 85% منها، هذا مع غياب شبه كامل لأي نوع من الثروات والموارد، عن اليابان نتحدث.

هذا البلد الذي  خرج من تحت ركام الهزيمة العسكرية والمعنوية  بعد تعرضه لأول قصف نووي في تاريخ البشرية في 6 أغسطس 1945م، هو نفس البلد الذي يحتل ثاني أكبر اقتصاد في العالم اليوم.

التجربة اليابانية للتنمية ..لا يمكن أن نختزلها من خلال استعراض نتائجها أو حتى مقدمتها.. فهي تحرك كامل لدولة من الهزيمة الكاملة إلى تنمية شاملة، من الحصار الجغرافي وانحصار الموارد إلى توظيف الحصار واستحداث موارد بديلة .

في عام 1867م كان التصور المطروح لحل مشكلة ندرة الموارد هو التوسع الأفقي على حساب الجيران، حيث القوة العسكرية هي المفتاح الوحيد لتحقيق هذا التوسع. هكذا اعتقدت اليابان وقتها وتحرك الجيش الياباني نحو التوسع  فانتصر في حربه مع الصين عام 1895م، ثم انتصر على روسيا عام 1905م، ثم على كوريا عام 1910م، ثم دخلت اليابان الحرب العالمية الأولى، ثم الثانية لتستولي على الهند الصينية والفلبين والملايو وسنغافورة وبورما وتايلاند. ولكن هذا كله لم يوصل إلا إلى الاستسلام غير المشروط عام 1945م وتسريح الجيش الياباني البالغ خمسة ملايين جندي، وهذا كان يعني الانتحار القومي لليابان بأسرها.

ولكن لم تؤل اليابان إلى ما اعتقد العالم، واستحدثت استراتيجية جديدة  للتنمية، لكن تلك المرة كانت داخل حدود اليابان، ومن هنا جاء دور النظام التعليمي في اليابان لكي يأخذ القرار القومي بكل قوة نحو التنمية بتوسع رأسي من خلال التنمية البشرية باستخدام العلم، وليس بالتوسع الأفقي باستخدام القوة.

وبهذا يعتبر النموذج  الياباني للتنمية الأكثر تعقيداً فقد تبلور تحت ظروف عسكرية صارمة خلال فترة الاحتلال الأمريكي، ثم مر بمرحلة الوصاية العسكرية والاقتصادية، التي تزامنت مع الحرب الباردة و كانت تلك المرحلة هي  الفرصة الاستثنائية لليابان الذي يجب استغلالها والتحرك سريعا نحو التنمية موظفة انشغال الولايات المتحدة عنها. فقامت بوضع استراتيجية عاجلة  للتصنيع الثقيل وتم تكليف وزارة التجارة الدولية والصناعة بالملف .

وبالفعل تم توجيه التنمية نحو الصناعة الثقيلة وخاصة صناعة الصلب وبناء السفن، واستخدمت الوزارة سلطتها لضمان حصول الشركات الخاصة في تلك الصناعات المستهدفة تمويلا كافيا من خلال قروض بنكية، وعملت على تقييد التنافسية لمنع المنافسة المكلفة التي قد تستخدمها الولايات المتحدة كوسيلة لعرقلة عجلة التنمية فقامت بفرض تعريفات جمركية عالية لحماية الشركات اليابانية من المنافسة الأجنبية، وتقليص معدل الضرائب على الشركات المحلية التي تنافس شركات أجنبية، وفرض قيود نقدية لمنع المستثمرين الأجانب من الاستيلاء على حصة كبيرة من القطاعات الاستراتيجية في السوق اليابانية، بل وقدمت الحكومة اليابانية معونات للشركات التي كانت بحاجة إلى مساعدة إضافية، ورفعت رسوم الاستيراد عن الآلات المصنعة في الخارج . وقد تم اتباع تلك السياسات بشكل لا يخضع لقواعد المساعدات الأمريكية.

وبهذا توصلت كل من اليابان والولايات المتحدة إلى توقيع معاهدة للأمن في عام 1951 تم تجدديها عام 1960م ..لتصل اليابان إلى مرحلة الاستقرار وتصبح حليفا للولايات المتحدة الأمريكية منذ الحرب الباردة وحتى اليوم لكن ربما ليس بالغد.

ربما يعجبك أيضا