سميرة موسى.. نهاية غامضة للسيدة النووية

نبغت سميرة موسى في وقت كان تعليم المرأة فيه أمرًا خارجًا عن المألوف، لكن المناخ الاجتماعي الذي عاشته مصر بعد اندلاع ثورة 1919 وانتشار الأفكار التنويرية هيأ لها مناخًا مواتيًا لتحقيق أحلامها.

كان من حظ ابنة محافظة الغربية وجودها في فترة تشكلت خلالها بداية جديدة للوعي المصري مع المناداة بالحرية والاستقلال وتأسيس الجامعات الأهلية، وبزوغ الناشطات السياسيات مثل هدى شعراوي وورائدات التعليم والعمل الاجتماعي مثل نبوية موسى اللاتي ناضلن من أجل حقوق المرأة في السياسة والتعليم، بالإضافة إلى وجود والد داعم ومحب منحها الفرصة لإثبات ذاتها.

صبية تؤلف كتابًا في الجبر

ولدت سميرة موسى عام 1917 في إحدى قرى مركز زفتى بالغربية في كنف الوالد المستنير الحاج موسى علي الذي كان صديقًا لها أكثر منه أب، عندما التحقت بالمدرسة الأولية في سنبو كان الهدف تعليمها مبادئ القراءة والكتابة فحسب، لكنها أبدت ذكاء لافتًا وحفظت القرآن الكريم، وعند وفاة الزعيم سعد زغلول عام 1927 الذي كان حدثًا محزنًا على المستوى الشعبي، وفي وقت لم يكن فيه إذاعة أو التلفزيون تجمع أهل القرية حول الفتاة الصغيرة التي قرأت عليهم كل ما كتب في رثاء الزعيم المحبوب بالصحف التي وصلت البلدة في قطار المساء، وأعادت ما قرأته في اليوم التالي بطابور المدرسة الصباحي.

شعر الأب بأن ذكاء ابنته بحاجة إلى احتواء ورعاية لن يتمكن من توفيره لها إذا بقي في القرية، فنزح مع أسرته إلى القاهرة لمنحهم مناخًا أفضل للتعليم، وأسس فندقًا صغيرًا بحي الحسين، ثم افتتح آخر في العتبة، وخلال ذلك درست سميرة في مدرسة قصر الشوق الابتدائية، ثم التحقت بمدرسة بنات الأشراف الثانوية التي أسستها نبوية موسى وأدارتها، تجلت عبقرية ابنة السادسة عشرة عام 1933، عندما بسطت منهج الجبر للسنة الأولى بالثانوية في كتاب طبعه والدها على نفقته ووزعته على زميلاتها دون مقابل.

من التوجيهية إلى أول معيدة بالجامعة

لم يكن حصول سميرة موسى على شهادة التوجيهية واحتلالها المركز الأول أمرًأ عاديًا في ذلك الوقت، فحتى عام 1925 لم يكن مسموحا للفتيات دخول امتحان التوجيهية إلا من المنزل، ثم تغير ذلك الوضع وأنشئت مدرسة الأميرة فايزة أول ثانوية للبنات في مصر، أتاح تفوق سميرة لها الالتحاق بكلية الهندسة لكنها فضلت كلية العلوم، ومنحها القدر فرصة التتلمذ على يد العالم الدكتور مصطفى مشرفة أول عميد مصري لكلية العلوم، الذي دعمها خلال سنوات الدراسة وبعد التخرج.

نجحت سميرة موسى بتفوق في كلية العلوم وحصلت على البكالوريوس عام 1939، وكانت الأولى على دفعتها وساعدها أستاذها مشرفة في الحصول على مقعد ضمن هيئة تدريس الكلية التي كانت حكرًا على الأساتذة الإنجليز والرجال فحسب، واعترض هؤلاء على تعيينها، لكن بفضل إصرار ودعم أستاذها أصبحت أول معيدة بالجامعة المصرية محققة إنجازًا كبيرًا للنساء.

عازفة على العود وعاشقة للتصوير

خلال سنوات الدراسة والنبوغ العلمي، لم تكن سميرة غائبة عما يحدث في بلادها، وعرفت أن المرأة أيضًا لها صوت وشاركت في مظاهرات طلابية في الثلاثينيات تنديدًا بالاحتلال البريطاني لمصر، وسعت للمساعدة في محو الأمية بالريف ومن أجل ذلك شاركت في جمعية الطلبة للثقافة العامة، كما سعت لمساعدة الفقراء وانضمت إلى جمعية إنقاذ الطفولة المشردة، وكانت لها بعيدًا عن العلوم هوايات، منها الموسيقى حتى أنها أجادت العزف على العود، بالإضافة إلى عشق التصوير التي حولت من أجله غرفة في بيتها لمعمل لتحميض الصور.

حال اندلاع الحرب العالمية الثانية دون سفرها إلى بريطانيا للحصول على الماجستير الذي حصلت عليه من القاهرة عام 1942 بأطروحة موضوعها “التوصيل الحراري للغازات”، وبعد انتهاء الحرب سافرت إلى بريطانيا لتحصل على درجة الدكتوراة في سنتين بدلًا من ثلاثة، بأطروحة حول خصائص امتصاص المواد المختلفة للأشعة السينية، بحسب موقع “الهيئة العامة للاستعلامات“.

قنبلة نووية رخيصة التكلفة

عكفت سميرة موسى في السنة الثالثة لها في بريطانيا على البحث المكثف حتى توصلت إلى طريقة تمكن من تفتيت المعادن الرخيصة مثل النحاس وهو الاكتشاف الذي يمهد لصنع قنبلة نووية منخفضة التكلفة بمواد متاحة لجميع الدول، وهو ما كان سيضع مصر على طريق التكنولوجيا النووية في وقت مبكر.

فتحت سميرة موسى المجال أمام طلبة العلوم بالجامعة لدراسة العلوم النووية بالخارج، ونظمت مؤتمر الطاقة الذرية من أجل السلام بالكلية والذي حضره عدد من علماء حول العالم، وأصبحت عضوة في لجنة الطاقة والوقاية من القنبلة الذرية بإشراف وزارة الصحة المصرية، وكان لها دورًا هامًا في إنشاء هيئة الطاقة الذرية بمصر.

التكنولوجيا النووية وسيلة للسلام

كانت التكنولوجيا النووية بالنسبة لسميرة موسى وسيلة للسلام وليست أداة حرب، وسعت جاهدة لتطويعها في مجال الطب، وكانت أمنيتها علاج السرطان بالذرة بنفس السهولة التي يعالج بها الأسبرين الصداع، تأثرًا منها بوفاة والدتها بالسرطان، وهي بعد صغيرة.

حصلت سميرة موسى عام 1951 على منحة دراسية من برنامج فولبرايت للبحوث الذرية في جامعة سانت لويس بأمريكا، ونظرا لكفاءتها وأبحاثها الرائدة في المجال النووي منحت الحق في الوصول إلى المرافق النووية السرية الأمريكية، لتصبح أول شخص أجنبي يتمكن من ذلك، وتلقت عروضًا للبقاء واستكمال أبحاثها في أمريكا، لكنها رفضتها جميعا مفضلة العودة إلى مصر وخدمة بلادها وقضية السلام كما كتبت في آخر رسالة لها إلى والدها.

حادث مدبر

لم تعد سميرة موسى لمصر كما تمنت، وقبل سفرها بأيام دعيت لزيارة أحد المعامل النووية في كاليفورنيا، واستقلت سيارة خاصة لإيصالها إلى هناك لتتعرض السيارة إلى حادث توفيت على إثره في الخامس من أغسطس عام 1952، ولم يعثر للسائق الذي تمكن من الهرب على أثر.

وكشفت التحقيقات فيما بعد أن الجهة التي دعت العالمة المصرية لزيارتها لم تعرف شيئًا عن هذه الدعوة، وأغلق ملف القضية بشكل مفاجئ ليتحول حادث وفاتها الغامض إلى لغز لم يحل إلى الآن، وذاع الاعتقاد بأن الأمر لم يكن مجرد حادث وإنما اغتيال مدبر ووجهت أصابع الاتهام إلى جهاز المخابرات الإسرائيلية الموساد.